أسلم في العشرينيات من عمره وترك العسكرية ليبدع 365 أثرا معماريا.. المعماري سنان وذروة العمارة العثمانية

رغم مرور 433 عاما على وفاته، لا يزال المعماري خوجة معمار سنان باشا (895 هـ / 1489-996 هـ / 1588)، حاضرا من خلال 365 أثرا معماريا ، تمثّلت في 92 جامعا كبيرا، و52 مسجدا صغيرا، و55 مدرسة عثمانية، و7 دور لتحفيظ القرآن الكريم، و20 ضريحا، و17 دارا لإطعام وإيواء الفقراء، و3 مستشفيات، و6 ممرات مائية، و10 جسور، و20 خانا، و36 قصرا، و8 مخازن، و48 حماما، وغيرها من القطع المعمارية الفريدة التي تركت بصمتها في تاريخ فن العمارة، وبقيت شاهدة على عبقريته التي تخطت حدود عصره.

ترحال مستمر

ولد سنان في قرية آغيرناص الواقعة حاليا بولاية قيصري وسط تركيا، عام 1490 لأسرة مسيحية، انتقلت فيما بعد إلى إسطنبول، ثم اعتنق الإسلام وهو في بدايات العشرينيات من عمره، في عهد السلطان العثماني سليم الأول.

وبفضل رحلاته مع حملات الجيش العسكرية عبر منطقة جغرافية واسعة تمتد على طول حوض البحر الأبيض المتوسط ​​من الأناضول إلى إيطاليا والساحل الأدرياتيكي إلى أوروبا الوسطى، ومن أذربيجان إلى بغداد في آسيا، أثرت معرفته المعمارية وزودته بثروة من الأفكار والموارد والحلول من عصور مختلفة، بينها السلجوقية والبيزنطية والإيرانية، كما اطلع على الطراز المعماري العربي وفنون العمارة في حلب ودمشق والقاهرة التي عرفت بمساجدها الأيوبية والمملوكية المميزة، مثل جامع السلطان حسن.

التحق سنان بقوات الإنكشارية في عهد السلطان سليمان القانوني، وشارك في حملات بلغراد عام 1521 ورودوس عام 1522، وبعدها بدأ يترقى ويذيع صيته.

وفي عام 1534، خلال الحملة على الصفويين، شيد سنان 3 قواديس (سفن بمجاديف) بأمر من الصدر الأعظم لطفي باشا في منطقة تاتوان، وزودها بأسلحة ومدافع، وخرج بها في مهمة استطلاعية لجمع معلومات عن الوحدات العسكرية الصفوية.

وخلال حملة قره بوغدان (مولدوفا) وبتكليف من لطفي باشا، نجح سنان في تشييد جسر على نهر بروت (شرق أوروبا) خلال 13 يوما فقط، فحاز على إعجاب وتقدير وثقة السلطان سليمان القانوني الذي منحه منصب "كبير المعماريين"، لينفصل المعماري سنان عن الجيش ويسخر حياته لفن العمارة.

استمر المعماري سنان في وظيفة كبير المعماريين العثمانيين لمدة 49 عاما في عهد كل من السلطان سليمان القانوني والسلطان سليم الثاني والسلطان مراد الثالث، وتوفي عام 1588 بعد أن عاش حياة حافلة اهتم فيها بكل فروع الفن في عصره وعكسها في آثاره.

تنتشر آثار سنان في جميع أرجاء الأراضي التي حكمتها الإمبراطورية العثمانية، وله 3 أعمال تمثل مراحل حياته المهنية: جامع شهزاده بإسطنبول عام 1548 ويمثل مرحلة التلمذة بالنسبة له، وجامع السليمانية بإسطنبول عام 1557 ويمثل مرحلة النضج، وجامع السليمية بأدرنة وقد أتم بناءه عام 1575 ويمثل مرحلة الأستاذية.

مرحلة التلمذة.. جامع شهزاده

أُنشئ الجامع بين عامي 1543 و1548، وقد أمر ببنائه السلطان سليمان القانوني ليحمل اسم ولده محمد الذي توفي وهو ابن 22 عاما، وكان حاكما لسنجق ساروهان على بحر إيجه (غرب تركيا حاليا).

وتم بناء الجامع على شكل مربع تعلوه قبة كبيرة تحيط بها 4 أنصاف قباب، وترتكز كل القباب على 4 ركائز ضخمة.

وللمسجد صحن خارجي كبير له 6 أبواب ومئذنتان لكل منهما شرفتان. وإلى جانب الجامع يضم المجمع مدرسة ودارا لإطعام الفقراء و أخرى للاستراحة وعدة أضرحة.

مرحلة النضج.. جامع السليمانية

يعد جامع ومجمع السليمانية من أهم الجوامع في إسطنبول وفي العمارة العثمانية، وقد تعرّض لعدة زلازل شديدة إلا أنه لم يتضرر.

أنشئ بأمر من السلطان سليمان القانوني، وبدأ سنان بناءه عام 1551 وأتمه عام 1557.

تعلو الجامع قبة كبيرة يصل ارتفاعها إلى 53 مترا، ونصف قطرها 27.5 مترا، وترتكز -مثل قبة آيا صوفيا- على أنصاف قباب.

وللجامع 4 مآذن بأطوال مختلفة في زوايا الصحن، اثنتان في طرفي واجهة الجبهة الأمامية بارتفاع 56 مترا، ولكل منهما شرفتان. أما المئذنتان الأخريان فتقعان في الواجهة الخلفية، ويبلغ ارتفاع كل منهما 76 مترا، وبكل منهما 3 شرفات.

وتحتوي رقبة القبة على 32 نافذة صغيرة لتوفير إضاءة جيدة. وصحن الجامع هو عبارة عن مساحة مستطيلة يتوسطها شادِروان للوضوء، ويحيط به 28 رواقا.

وينقسم المجمع إلى 15 قسما: المسجد، والمدرسة الرابعة، والمدرسة الثالثة، والمدرسة الأولى، والمدرسة الثانية، ومدرسة الطب، وضريح سليمان القانوني، وضريح زوجته هُرّم سلطان، وغرفة حارس الضريح، ومستشفى، ودار ضيافة، ومدرسة دار الحديث، وجناح الزائرين وعابري السبيل، وضريح المعمار سنان، والحمّام.

مرحلة الأستاذية.. جامع السليمية

يعتبر جامع السليمية الذي يتوسط مدينة أدرنة (أقصى شمال غرب تركيا)، حجر الأساس لفن العمارة الإسلامية العثمانية، وتحفة فنية تزين المدينة.

أنشأ المعماري سنان المسجد بتكليف من السلطان العثماني سليم الثاني، فاختار موقعا متميزا لبنائه، وهو يُظهر مدى خبرته في التخطيط العمراني، إضافة إلى براعته في العمارة، إذ اختار الموقع على تلة مرتفعة تطل على كل أرجاء المدينة.

شُيد الجامع من الحجر، وتبلغ مساحة القسم الداخلي منه 1620 مترا مربعا، بينما تبلغ المساحة الكلية مع الصحن 2475 مترا. تعلو الجامع قبة ارتفاعها 43.28 مترا وقطرها 31.30 مترا، وترتكز على 6 ركائز ضخمة.

كما تدعم القبة 4 أنصاف قباب بالزوايا، ونصف قبة فوق المحراب. وللجامع 4 مآذن تتخذ شكل أقلام يبلغ ارتفاعها 85 مترا، وهي ثاني أعلى مآذن العالم ارتفاعا بعد مئذنة "قطب منار" في نيودلهي بالهند، بحسب وكالة الأناضول.

ويخطف الجامع عقول الزوار بالخزف الملون الذي يزينه، ومنبره المغطى بالرخام ومقصورة السلطان.

المصدر : الجزيرة + الأناضول