أكاديمي فرنسي: تجب إعادة النظر في التقاليد الفكرية الفرنسية

وراء الوضوح الظاهري للمعجم الجمهوري، الذي يستخدم غالبا لإغلاق أي نقاش، توجد أوجه غموض مؤلمة.

الرئيس الفرنسي شارل ديغول
الجنرال شارل ديغول رئيس حكومة فرنسا الحرة في لندن وأول رئيس للجمهورية الفرنسية الخامسة في أثناء خطابه بمستعمرة غينيا الاستوائية عام 1958 (مواقع التواصل الاجتماعي)

"الحرية، والمساواة، والإخاء" هي المبادئ الثلاثة الأساسية التي قامت عليها الجمهورية الفرنسية الأولى (1792-1804) واقتبست شعاراتها من الثورة، لكن مراجعات حديثة لفكرة "الجمهورية" تظهر أن الواقع قد يجري بما لا تشتهي الشعارات.

يقول الكاتب فابيان إيسكالونا، وهو حاصل على دكتوراه العلوم السياسية ودارس للحركة الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية، في مقاله الذي نشرته صحيفة "ميديابارت" (mediapart) الفرنسية، إنه عندما تكون للتجانس أسبقية على المساواة، فإن ميولا استبدادية أو أخرى متعلقة بالهوية تظهر في الجمهورية، كما تكون عالمية القيم وعالمية الحقوق عرضة للخطر.

الجمهوريات الفرنسية

ويتساءل الكاتب عما إذا كانت فكرة الجمهورية في حد ذاتها، في صيغها الأكثر تقدمًا، توفر منافذ لخطاب الإقصاء وممارساته التي غذّتها أساسا أنظمة الجمهوريات (الخمس) المتتالية في فرنسا. ويرى أن الإجابة عن هذه التساؤلات صعبة لأن معنى كلمة "جمهورية" لم يستقر أبدًا، وقد أدى عدّها نظاما إلى ظهور سياسات متضاربة، بحسب تعبيره.

ففي فرنسا، يقول المؤرخ موريس أغولهون (توفي عام 2014) "لدينا جمهورية في صيغة المفرد، تُقدم على أنها مثالية إلى درجة أنها باتت مجردة أو غائبة، وجمهوريات ذات أرقام تشبهها إلى حد ما".

وتتركز جميع أوجه اللبس أو الغموض في الجمهورية الثالثة، أو "الجمهورية النهائية" (الجمهورية الفرنسية الخامسة) (منذ 1958 وحتى الآن). فإذا كانت هناك مرحلة المؤسسين التي تميزت بسنّ قوانين أدّت إلى ترسيخ الحريات الأساسية في فرنسا، فإن السنوات التي تلت ذلك شهدت القمع الممارس على العمال و"القوانين المارقة" بحجة النضال ضد الأناركية أو الفوضوية، بحسب الكاتب.

وفي أثناء تلك السنين أيضا، شُكّل حزب استعماري لم يكن محل نزاع واسع، وأدّى، كما يذكرنا المؤرخ فنسنت دوكلرت في كتاب "الجمهورية التي نتخيلها"، إلى "استبداد الدولة الذي لم يكن مقتصرا على الأنظمة الإمبريالية مثل بريطانيا أو ألمانيا. إذ كان الفضاء الاستعماري مكانًا للهمجية التي وقع التشريع لها عن طريق الواجب الحضاري لفرنسا".

وحسب الكاتب، في ظل هذا النظام وهذا المجتمع، وبمناسبة قضية دريفوس، جرى التصدي للمصلحة الوطنية باسم القيم العليا كالعدالة والحقيقة، وكذلك جرى التصدي للفكرة الجمهورية المتأصلة في منطق حقوق الإنسان. وفي خضم هذه المفارقات، يمكن ملاحظة التوتر الذي حدده أغولهون، بين المدافعين عن جمهورية "الحد الأقصى" (التي تعنى بتطبيق كل قيم الجمهورية) وأتباع جمهورية "الحد الأدنى" (التي تقبل بالحد الأدنى من القيم).

ففي نظر المدافعين عن جمهورية الحد الأقصى، ينبغي تعزيز شكل النظام باحترام التجربة الثورية، والاهتمام بمصير الطبقات الشعبية، فضلا عن الأيديولوجيا العلمانية، وتمجيد البرلمان في وجه كل سلطة شخصية. أما أتباع جمهورية "الحد الأدنى" الذين يدعمون النظام لأنه لا حلّ أفضل لديهم، فلم يقبلوا بهذه "الإضافات".

"الاستمرارية الرجعية"

ويضيف الكاتب أنه اتضح أن الدولة تدين لأحد هؤلاء الداعمين للنظام بسبب "الخضوع" والقبول فقط بوقف الإذلال الناجم عن هزيمة عام 1940 (احتلال فرنسا من قبل القوات النازية التي بقيت تحكم البلاد حتى سنة 1944). وبذلك، تمكن أول رئيس للجمهورية الفرنسية الخامسة شارل ديغول (1890-1970) منذ عام 1958 من إرساء نظام جمهوري شكلا، لكن طموحه إلى بناء إجماع خلفه ومفهومه القوي للسلطة التنفيذية كانا متناقضين مع الثقافة الجمهورية في بداية القرن الـ20، بحسب الكاتب

ويقول الكاتب، إنه بوضع فرنسا على طاولة المنتصرين على نظام فيشي (الحكومة الفرنسية الموالية للنازيين التي أُسست بعد احتلال فرنسا) الذي كانت طبيعته السياسية مناقضة للجمهورية، رأى زعيم فرنسا الحرة (الحكومة الفرنسية في المنفى البريطاني أثناء الحرب العالمية الثانية) أيضًا أن الجمهورية فكرة لطالما كان لها دور إيجابي في التاريخ.

وحسب ما أوردته سارة معزوز، عالمة الاجتماع في المركز الوطني للبحث العلمي، فإن ذلك "لم يساعد على ملاحظة الاستمرارية الرجعية. إذ نصرّ غالبا على الانقسام بين الحواضر والمستعمرات في ظل الجمهورية الثالثة، إلى درجة أننا لم نعد نرى أن النظام ذاته هو الذي أسس قواعد الحكومة، وأن موروثات ما بعد الاستعمار الملموسة نتجت عنه".

ووفقًا لفنسينت ماريني، أستاذ العلوم السياسية بجامعة نيس، "تكمن المشكلة الأساسية في الفكر الجمهوري في الخلط بين المساواة والتجانس. ويعود الأمر إلى الأب غريغوار، وهو أحد رموز الثورة الفرنسية، الذي حارب من أجل تحرير الأقليات والقضاء على اللهجات المحلية في الآن ذاته. ولكي نفهم بعضنا بعضا، نحتاج إلى هوية مشتركة، وقواعد مشتركة للسياسة، خشية الانقسام. وربما وقع البحث عن مسار أكثر انفتاحًا وتعددية، لكن جمهورية الحكومة التي انتصرت هي التي كان لديها هذا الجانب الاستبدادي".

ويعتقد صمويل حياة، الباحث في المركز الوطني للبحوث العلمية، أن "هناك عوامل أدت إلى هيمنة المحافظين". فوفقًا له تخفي الجمهورية الفرنسية بُعدًا "وحدويا" (لا تعدديا)، حتى في أكثر نسخها راديكالية على المستوى الاجتماعي. فالتركيز على المصلحة العامة والفضيلة والإخلاص للمصلحة العامة يرتبط بالمحافظة، وتظل عالمية غالبية الجمهوريين بمنزلة عالمية قيم تدعو إلى محتوى موحد. إنها ليست عالمية حقوق أكثر انفتاحا على سياسة الأقليات".

ويختم الكاتب بأنه لاستكشاف الجمهورية الفرنسية، تجب إعادة النظر في الأحداث الحاسمة والتقاليد الفكرية القديمة في تاريخ البلاد، فوراء الوضوح الظاهري للمعجم الجمهوري، الذي يستخدم غالبًا لإغلاق أي نقاش، توجد أوجه غموض مؤلمة.

المصدر : الصحافة الفرنسية + ميديابارت