مقابلة الجزيرة نت مع البروفيسور أوزجور كوجا.. حول "الإسلام والسببية والحرية من العصور الوسطى إلى العصر الحديث"

كوجا: دون الحرية تنهار مفاهيم مثل المساءلة والحكم والوحي والأوامر والنواهي الإلهية وكذا العدالة

البروفيسور أوزگور كوجا حول كتابه الصادر عن دار كامبردج سنة 2020
أوزجور كوجا أستاذ الدراسات الإسلامية والفلسفة في مدرسة بيان كليرمونت الإسلامية للدراسات العليا بكاليفورنيا (الجزيرة)

ما يزال مفهوم السببية وعلاقة الأسباب بمسبباتها واحدا من المفاهيم التي تشغل الفكر الإسلامي منذ العصور الإسلامية المبكرة. وقد أثار ذلك النقاش جدلا ممتدا على مدى قرون وتشكلت على إثره تيارات فلسفية وكلامية عديدة.

وفي كتابه الأخير المعنون بـ"الإسلام والسببية والحرية من العصور الوسطى إلى العصر الحديث " (Islam, Causality, and Freedom From the Medieval to the Modern Era) الصادر عن دار كامبريدج العريقة لسنة 2020، قدّم أوزجور كوجا أستاذ الدراسات الإسلامية والفلسفة في مدرسة بيان كليرمونت الإسلامية للدراسات العليا بكاليفورنيا، والمشتغل بالفلسفة الإسلامية، وعلم الكلام، والتصوف، تحليلا لآراء المتكلمين والفلاسفة المسلمين الكبار حول السببية وآثارها في علاقة الله بالبشر والطبيعة من منتصف القرن الثامن إلى منتصف القرن العشرين.

واستعرض الكتاب آراء المتكلمين مثل أبي حامد الغزالي (ت: 505هـ/ 1111م) والفخر الرازي (ت: 606هـ/1210م) والشريف الجرجاني (ت: 816هـ/ 1413م) والمتصوفة مثل شهاب الدين السهروردي الإشراقي صاحب فلسفة الأنوار (ق: 587هـ/ 1191م) والشيخ الأكبر ابن عربي (ت: 638هـ/1240م) وسعيد النورسي (ت: 1380هـ/ 1960م) وغيرهم، وسيسعى هذا الحوار لتفكيك أفكار الكتاب ومسائله.

  • ركزتَ في كتابك القيم على السببية والحرية وعلاقتها بالإسلام، لماذا اخترت هذا الموضوع وما قيمة الحرية في المنظومة الإسلامية؟

لطالما اهتممت بالقضايا التي يتقاطع فيها الدين والعلم والفلسفة، ومنذ سنوات الدكتوراه أدركت أن موضوع "السببية" مهم بشكل كبير، لما يمنحه من أفضلية في مناقشة العديد من القضايا الخلافية في هذا المجال وذلك بطريقة بناءة، لذلك قررت أن أركز على هذا السؤال وأن أفحص التفسيرات المختلفة المقدمة للسببية والحرية التي صاغها المتكلمون والفلاسفة والمتصوفة المسلمون، لقد استغرق الأمر مني أكثر من 5 سنوات لإكمال هذا المشروع.

والآن، يمكن اعتبار أن الطريقة التي يفهم بها المرء العلاقات السببية الموجودة في العالم الطبيعي ذات آثار مباشرة على أي دين، يعلّم هذا الفهم إدراك المرء لعلاقته بالله والكون والتي بدورها تصوغ تصوره لعلاقة الله بالفرد، إن قناعاتنا في ما يتعلق بما إذا كانت العلاقات السببية ضرورية أم عرضية تشكل تفكيرنا حول الفاعلية البشرية والوعي والمنطق وثيوديسيا (نظرية العدالة الإلهية) والأخلاق.

تؤثر مسألة السببية أيضا بشكل كبير على النقاشات حول الدين والعلم، أحد التحديات التي تنتمي لهذا المجال هو وجود نظريات السببية التي تحافظ على صرامة المنهج العلمي التي تنضاف إلى الشعور بالوجود الإلهي في العالم، يتطلب بناء مثل هذه النظريات فهما عميقا للسببية المتجذرة بعمق في الطبيعة.

إن مسألة كيفية ترسيخ الحرية في النظام الإلهي وعلاقتها بالخلق هي أيضا مهمة بشكل أساسي لأي دين لتأسيس الاستقلالية البشرية والفاعلية الأخلاقية والمسؤولية. تفهم الحرية من خلال دراستي، على أنها تجويد للكينونة وقدرتها على أن تكون سببا غير مسبب لنفسه، فإذا وصفت مسألة الحرية على هذا النحو، فإنها ترتبط ارتباطا وثيقا بمسألة السببية، فالتوفيق بين حرية الخلق وعلم الله وقدرته المطلقة ووجوده المطلق والأقدار هي إحدى المسائل العلمية الرئيسية التي تجاذبتها أطراف الخلاف والنقاش بشدة بين علماء الكلام والفلاسفة والمتصوفين المسلمين لعدة قرون، وهو ما يشكل أحد الأركان الأساسية للتفكير الكلامي والفلسفي؛ فمن دون الحرية تنهار مفاهيم مثل المساءلة والحكم والوحي والأوامر والنواهي الإلهية وكذا سؤال العدالة.

كما يمكن للمرء أيضا تتبع الآثار المترتبة على التصورات المرتبطة بالسببية والحرية في مجالات متنوعة مثل السياسة والاقتصاد، ولن يكون من المبالغة القول إن الافتراضات الواعية أو اللاواعية المرتبطة بالسببية والحرية تشكل خلفية قوية للوجود وتؤثر على إجابات الفرد عن هذه الأسئلة وما شابهها في كل المجالات.

كتاب البروفيسور أوزگور كوجا حول كتابه الصادر عن دار كامبردج سنة 2020
كتاب كوجا المعنون بـ"الإسلام والسببية والحرية من العصور الوسطى إلى العصر الحديث" صدر عن كامبريدج 2020 (الجزيرة)
  • كيف شكلت السببية الاتجاهات الصوفية الرئيسية الموجودة في العالم الإسلامي؟

تتميز التوجهات الصوفية عادة بإبرازها للحضور الإلهي الجوهري في العالم، هذا الحضور بدوره، يرتكز على مفهوم خاص للسببية مرتبط برؤية الله في كل لحظة ضمن سيرورة العالم، هذا هو السبب في أن الطرح القائم على فكرة الإله البعيد الموجود في أصل سلسلة طويلة من الأسباب والمسببات يرفض عادة من قبل المتصوفة المسلمين.

أيضا، نظرا لأن إدراكنا للسببية يشكل فهمنا للعلاقة بين الله والفرد، فإنه يؤثر أيضا على الحالة الروحية للفرد وارتباطه بالشعائر الدينية، مثل تأديته للصلاة، وهو أمر مهم بشكل أساسي في المنظومة الصوفية الإسلامية.

  • في كتابكم نجد أنك أوليت اهتماما بطرح الغزالي والجرجاني والفخر الرازي، والنورسي والسهروردي وغيرهم، فما السبب وراء اختيارك لهؤلاء العلماء والمتكلمين والفلاسفة في كتابك القيم؟

يمكن اعتبار هؤلاء العلماء هم أفضل من يجسد المدارس والتيارات الفلسفية والكلامية والصوفية الكبرى في العالم الإسلامي، فعلى سبيل المثال، يمكن إدراج الغزالي والجرجاني والفخر الرازي كتجسيد لفئة المتكلمين، أما ابن سينا ​​وابن رشد فيمكن اعتبارهما ممثلين رئيسيين عن الفلسفة الإسلامية، في حين يمكن اعتبار السهروردي (شهاب الدين) وصدر الدين الشيرازي ينتميان إلى التيار الإشراقي، بينما يعتبر ابن عربي وصدر الدين القونوي والقيصري من أبرز ممثلي الصوفية الفلسفية، وبالتالي فإن دراسة تفكيرهم ستسهم في فهمنا لكيفية تعامل المدارس الرئيسية التي تنتمي للتراث الإسلامي مع موضوعة "السببية والحرية".

كما سعيت لتبيين مدى استمرارية وتطور النقاشات المرتبطة بالسببية والحرية على مدى القرون الممتدة -من الفترة المبكرة والمتوسطة من تاريخ الفكر الإسلامي إلى العصر الحديث منه- لذلك تم اختيار علماء من العصور المبكرة والمتوسطة والحديثة.

  • قلتم إن جهود الفخر الرازي أسهمت في ظهور فلسفة علمية عرضية تتميز بموقف براغماتي متشكك تجاه النماذج العلمية السائدة، هل يمكنكم شرح هذه الفكرة؟

إن إدراك الفخر الرازي لإمكانية استخدام الهندسة الإقليدية (نسبة لعالم الرياضيات اليوناني إقليدس) للدفاع عن تصورين متناقضين للطبيعة الفيزيائية للعالم، المتجسدة في الفهم الذري المنفصل وكذا الهيلومورفية (نظرية فلسفية أرسطية تفسر تكون الأجسام بالهَيُولَى -أصل المادة- والصورة) التي قادته إلى التشكيك في قدرة النظريات العلمية على إخبارنا بواقع العالم بطريقة شمولية.

إن واقع العالم معقد للغاية بحيث لا يمكن تغليفه في مجمله بالنماذج العلمية السائدة في زمانه، والتي كانت حينها متجسدة في الهندسة الإقليدية وعلم الفلك البطلمي، والفيزياء الأرسطية، هذا هو السبب في أنه كتب أن "هذه النظريات في نهاية المطاف هي تقديرات وافتراضات".

هذا هو السبب في أنني وصفت فلسفته في العلوم بأنها فلسفة "تشكيكية"، ويعني هذا الشك أيضا أن هذه النظريات ليست قوية بما يكفي لتحديد التزاماتنا العقدية، ورغم ذلك فهي تكتسي ما يحتاجه المسلم من طابع عملي، لأنها رغم وجود أوجه القصور داخلها، فإنها ما تزال أفضل المتاح بما تمنحه من فائدة عملية، لذلك، يوصي الرازي باستخدام الهندسة الإقليدية لتحديد موضع القبلة المناسب لأجل الصلاة، وذلك على الرغم من عدم قدرتها على وصف العالم بشكل شامل.

  • تقدم كتابات شهاب الدين السهروردي تقييما للسببية من خلال استخدام استعارة لفكرة الضوء، وتشير إلى أن السببية يمكن تشبيهها بانبعاث النور الإلهي على الجواهر وأن السببية الثانوية فعالة بسبب مشاركة تلك الجواهر في النور الإلهي، بينما تنتمي العناصر العرضية ضمن السياق الأكبر للميتافيزيقا. ما تأثير ذلك على تصوره للحرية؟

كما تشير ملاحظتك المهمة، فإن السهروردي يدافع عن تفسير تشاركي للسببية، بالنسبة له عندما تتشارك الكيانات في النور الإلهي أو الوجود كنتيجة لإغداق الوجود الإلهي عليها، فإنها تتشارك أيضا في الصفات الإلهية، بما في ذلك الوعي والحرية، وبالتالي، يصبح الوجود الإلهي هو باعث مبدأ حرية الخلق، بعبارة أخرى، نحن أحرار لأننا أخذنا نصيبا من الحرية الإلهية.

  • هل إدراك المتكلمين للسببية هو الذي جعل مفهوم الحرية عاجزا عن مجاراة مفهوم الحرية الذي ينتمي لمنظومة الحداثة؟

ناقشت في الكتاب أن الفلاسفة المسلمين والمتكلمين والمتصوفة وضعوا مجموعة من النظريات حول السببية، ومع ذلك، هناك اتجاهان رئيسيان: التفسيرات العرضية، والتفسير الثاني هو ما أسميه، التفسيرات التشاركية للسببية؛ لذا أعتقد أنه يجب علينا أولا تحديد تصور السببية الذي نتحدث عنه.

أنا أزعم في الكتاب أن عرضية الأشاعرة -على الرغم مما تتميز به من قدرة على التكيف- فهي تحتوي على عوائق مركبة تحول دون تأمين الإرادة الحرة للمسلم، وذلك على الرغم من الجهود التي يبذلها العلماء الأشاعرة اليوم لتجسير هذه الهوة. في المقابل أزعم أيضا أن التفسيرات التشاركية للسببية التي تتمحور حول مسألة "الوجود" تقدم مسارا واعدا أكثر مقارنة بنظيرتها العرضية، وذلك لتأسيس منظومة متماسكة حول الحرية، وكذا التوفيق بين الأنماط الدينية والعلمية لشرح العالم.

  • الأكاديمي أحمد كورو، يرى أنه على الرغم من أهمية الكتاب، فهو لا يقدم سياقا تاريخيا كافيا لتحليل تاريخ علم الكلام الإسلامي الذي يتجاوز عمره الألف سنة، فالكتاب حسب كورو لا يقدم للقارئ الخلفيات الاجتماعية الكافية التي تكون هذه الأفكار الكلامية، فهو لا يتطرق إلى الجدل الدائر حول التدهور العلمي والفلسفي وأثر السببية في هذا المسار، هل يمكن أن توضح لنا وجهة نظرك في هذه القضية؟

أعتقد أن هناك سببين رئيسيين لذلك، أولا، كما ذكرت في السؤال، فالكتاب يتدارس أفكار مجموعة من الفلاسفة والمتصوفة والمتكلمين الذين عاشوا بين القرنين الـ8 والـ20 الميلاديين، وهو ما يتجاوز الألف سنة، وكذلك يجدر الإشارة إلى أن توفير خلفية تاريخية مناسبة لأفكار تمتد لألف عام هي مهمة صعبة للغاية، وفي نهاية المطاف أنا لست مؤرخا.

ثانيا، كان تركيزي بالأساس منصبا بشكل بحت للنقاش الفلسفي والكلامي لتدعيم مشروعي، وأعتقد أني قدمت شيئا ما حول طبيعة المناقشات المرتبطة بحرية الإنسان والسببية والتي تتخطى البعد التاريخي، وهي إلى حد كبير مستقلة عن الاحتمالات التاريخية.

كما أن موضوع الانحدار العلمي والفلسفي في العالم الإسلامي هو سؤال مهم، لكنه لم يكن موضوعا لهذا هذا الكتاب، لأن سؤال النهضة والانحدار يحتاج لدراسات متخصصة لمعالجته.

ومع ذلك، فإن كتابي يتضمن أمرا يمكن إدراجه ضمن هذا النقاش، وهو أني حاولت أن أبين في كتابي، استمرار النقاشات الفلسفية والكلامية والصوفية حول السببية والحرية في العالم الإسلامي على مر القرون، كما نشهد ظهور أفكار جديدة ومبتكرة أو ممارسات جديدة للأفكار القديمة التي تولدت على مر القرون، وبهذا المعنى، تظل الدراسات الإسلامية نابضة بالحياة بفعل تفاعلها مع هذه الأسئلة الفلسفية، وهو ما يمكن أن يكون إشكالا معرفيا ومنهجيا لأرباب نظرية التخلف الإسلامي.

  • درست العلاقة بين العرضية الأشعرية والعلوم الطبيعية عند كل من الرازي والجرجاني والنورسي، لكن لماذا لم تشمل معالجتك للآثار العملية المترتبة على الإنتاج العلمي الإسلامي؟

في الواقع، ناقشت بعض الآثار المترتبة على التفسيرات المختلفة للسببية في التراث الإسلامي المرتبطة بمناقشة الدين والعلم الحديث في الفصل الـ11 والمعنون بـ"نظريات السببية الإسلامية في السياق الحديث: جدلية العلم والدين"، ففي هذا الفصل ناقشت مسألة مرتبطة بكيفية إمكانية فهم السببية الإلهية وفق المنهج العلمي.

كما قمت باستكشاف ما إذا كانت النظريات الإسلامية المدروسة حول السببية تعد خيارات قابلة للتطبيق بشأن التفكير في السببية الإلهية دون تقويض لصرامة المنهج العلمي الحديث.

المصدر : الجزيرة