في زمن الحرب العالمية الثانية وحرب العراق.. كيف استخدمت الموسيقى للاحتفال بالقتل؟

الموسيقى تتمتع بقدرة هائلة على خلق شعور مجتمعي وتأسر الموسيقى الإنسان، ما يجعلها في -"الجانب المظلم" من الصورة- خلفية لعمليات قتل وتعذيب وحشية

جندي من الحرب العالمية الثانية يعزف بينما يظهر جنديان آخران يؤديان التحية العسكرية من بعيد (غيتي)

على خلاف الصورة السائدة عن الموسيقى وارتباطها بقيم الخير والجمال، كانت للفن الصوتي العريق علاقة وثيقة بالحرب والعنف، إذ عبر العرب عن الحرب بقرع الطبول، ولفت الفيلسوف اليوناني أفلاطون في محاورة "الجمهورية" لوجود نوع موسيقي يربي ويهذب فضلا عن نوع آخر "سيئ، وفي العصر الحديث اعتبرت الحركة النازية الموسيقى واحدة من عوامل قوة النظام والجيش.

في ديسمبر/كانون الأول من عام 1943، وصلت شابة تبلغ من العمر 20 عاما تدعى روث إلياس في عربة إلى معسكر الاعتقال النازي "أوشفيتز بيركيناو". أبقيت في المبنى رقم 6 في "معسكر العائلة"، وهو ثكنة تأوي أوركسترا المعسكر المكونة من مجموعة من عازفي الكمان واليراعة (الكلارينيت) والأكورديون وضابطي الإيقاع المسجونين الذين كانوا يعزفون أثناء الجلد وحفلات التعذيب.

وقال الكاتب إدوارد بي ويسترمان، أستاذ التاريخ بجامعة تكساس، في تقريره الذي نشره موقع "ذا كونفرزيشن" الأسترالي (The conversation)، إن العروض كانت أحيانا مرتجلة وبناء على أهواء قوات الأمن الخاصة (الحرس شبه العسكري للحزب النازي) وفي مقابلة بعد الحرب، كشفت إلياس كيف اقتحمت قوات الأمن الخاصة المخمورة الثكنات في كثير من الأحيان في وقت متأخر من الليل.

أوركسترا التعذيب

أولا، كانوا يطلبون من الأوركسترا أن تعزف بينما هم يشربون ويغنون، ثم يسحبون الفتيات الصغيرات من أَسِرّتهن لاغتصابهن. كانت إلياس تسمع صرخات مرعبة من زميلاتها السجينات، وقبل أن ينخرط معذبوها في هذه الأعمال، "كان لا بد من تشغيل الموسيقى".

وأضاف الكاتب أنه غالبا ما يُنظر إلى الموسيقى على أنها جيدة بطبعها، وهو رأي يجسده القول المأثور للكاتب المسرحي الإنجليزي وليم كونغريف "الموسيقى لها سحرها في تهدئة الصدور". وغالبا ما تُعتبر أيضا شكلًا من أشكال الفن، يميز أولئك الذين يعزفونها ويستمعون إليها. ويبدو أن صفاتها الجمالية تتجاوز ما هو عادي ومخيف. ومع ذلك، فقد تم استخدام الموسيقى أيضا لتسهيل التعذيب والعقاب.

وأشار الكاتب إلى أن الموسيقى الجميلة المصاحبة للقتل والاغتصاب هي تجاور غريب ومثير للقلق، لكن استخدامها من قبل الجناة لتعذيب ضحاياهم والاحتفال بأفعالهم لا يكشف فقط عن الجانب المظلم من استخدامها، ولكنه يقدم أيضا نظرة ثاقبة للعقلية الاحتفالية للقتلة أثناء مشاركتهم في جرائم الإبادة.

النبيذ والقتل والغناء

إن قصص دمج الموسيقى والأغاني في أعمال التعذيب والقتل حاضرة في جميع مقابلات ومذكرات الناجين، وكان الكولونيل في قوات الأمن الخاصة النازية، والتر بلوم -الذي كان أحد القادة العسكريين في فرقة أينزاتسغروبن التي تعرف بفرقة الموت التابعة لقوات الأمن الخاصة- يقوم بجمع رجاله بعد يوم من القتل من أجل الغناء الجماعي في المساء حول نار المخيم.

وبعد الإبادة الجماعية في رواندا، قال أحد مرتكبي الجرائم من الهوتو (مجموعة عرقية اشترك كثيرون منها في الحرب الأهلية الرواندية 1990-1994) إن "الإبادة الجماعية كانت بمثابة مهرجان"، وتذكّر الاحتفال بيوم القتل بالجعة وحفل شواء مع زملائه القتلة. في المقابل، قالت إحدى الناجيات من التوتسي إن الجناة المخمورين يغنون بينما يطاردون ضحاياهم وينخرطون في عمليات اغتصاب جماعي.

ويُظهر اندماج الكحول والموسيقى والأغاني مع القتل الجماعي كيف تم تطبيع العنف، وحتى الاحتفاء به، من قبل النازيين. وفي ظل النظام النازي، شكلت الموسيقى والأغاني المجتمعَ والصداقة الحميمة والغرض المشترك. وفي الحانات المخصصة للوحدات وحول نيران المخيمات وفي مواقع القتل، كانت الموسيقى أكثر من مجرد شكل من أشكال الترفيه، لقد كانت أيضا أداة لتعزيز هدف مشترك وجمع الناس معا. ومن خلال طقوس الغناء والشراب والرقص، يمكن جعل أفعال النازيين أمرا عاديا وهدفا جماعيا، مما يجعل مشروعهم الأكبر للعنف أسهل بكثير.

في نهاية المطاف، يقول الكاتب، "الإبادة الجماعية هي مسعى مجتمعي، ومثل الفلسفات السياسية، تعد الموسيقى والأغنية جزءا من الآثار الثقافية للمجتمع. لذلك، عندما يصبح القتل الجماعي عقيدة مركزية في المجتمع، ربما ينبغي ألا يكون تنفيذ هذه الفظائع على خلفية أغنية مثيرة أو موسيقى المسيرة العسكرية الحماسية أو لحن شومان العاطفي أمرا مفاجئا".

العنف والموسيقى في حرب العراق

وفي تقرير سابق لمجلة النيويوركر، كتب الناقد الموسيقي أليكس روس معتبرا أن تقاطع الموسيقى والعنف ألهم سلسلة من الدراسات الأكاديمية، ويضيف المحرر بالمجلة الأميركية أن هناك العديد من الأدلة التي تشير إلى أن الموسيقى يمكن أن تلقي بظلالها على العقل، وتثير الغضب، وتسبب الألم، وحتى القتل، رغم أنه من غير المرجح أن تنتشر الأطروحات "الهامشية عن الجانب المظلم من الموسيقى"، ومع ذلك، يستدرك، ربما تقربنا من الوظيفة الحقيقية للموسيقى في تطور الحضارة الإنسانية.

ويناقش كتاب "الاستماع إلى الحرب: الصوت والموسيقى والصدمات والنجاة في زمن الحرب في العراق" لمؤلفه، الأكاديمي بجامعة نيويورك، جيه مارتن داتري (أكسفورد، 2015) أصوات ساحة المعركة في حرب العراق الأخيرة.

ويقول المؤلف إن الحرب الحديثة لها أصوات عالية للغاية، لدرجة تصم الآذان، ونظرا لحجم الحرب الهائل فقد تصم أصوات الحرب السمع تماما، مؤقتا إن لم يكن بشكل دائم، وفي السينما تحاول الأفلام التلاعب بالموسيقى التصويرية لمحاكاة التأثير العنيف للانفجارات وتأثيرها على المشاهد.

ومع ذلك، تظل النقاشات النقدية لتجربة الحرب، بما في ذلك تمثيل الحرب في وسائل الإعلام، مركزة بشكل كبير على أهمية وتأثير الصور القوية للحرب، ولذا يحاول الكتاب التركيز على الصوت بالمقابل، كعنصر أساسي في تجربة الحرب.

كتاب "الاستماع إلى الحرب: الصوت والموسيقى والصدمات والنجاة في زمن الحرب بالعراق"  (الجزيرة)

وحلل الكاتب الأصوات المتراكبة في كثير من الأحيان من أنواع وأحجام مختلفة من الأسلحة والمركبات الآلية مع أصوات تتحدث ( والصراخ الهائل) بلغات متعددة، كما حلل مجموعة الطرق التي يتعامل بها كل من الجنود والمواطنين مع أصوات الأسلحة واكتساب مهارات البقاء في مناطق الحرب.

ويعد الكاتب دراسة رائدة عن مركزية السماع في تجربة الحرب الحديثة، واستنادًا إلى سنوات من المقابلات مع أفراد الخدمة العسكرية الأميركية والمدنيين العراقيين، يكشف المؤلف كيف تعلم هؤلاء السكان استخراج معلومات قيمة من البيئة الصوتية المحيطة بينما يكافحون الآثار الضارة التي في آذانهم وفي أجسادهم وفي نفوسهم.

ويفحص الكاتب الطبيعة ذات الحدين للصوت -فعاليتها كمصدر للمعلومات ومصدر للصدمة- ضمن إطار مفاهيمي متطور يسلط الضوء على القوة العاطفية للصوت ونقاط الضعف، من خلال تنظير العنف عبر منظور الصوت، والصوت عبر منظور العنف.

مثالية حقيقية أم رومانسية مزيفة؟

وعلى الرغم من "الكارثة الثقافية" لألمانيا النازية، فقد استمرت النظرة المثالية الرومانسية للموسيقى في الانتشار، وإذ تُعتبر موسيقى البوب ​​في التقاليد الأميركية "قوة رمزية كبيرة"، يفضل العديد من مستهلكيها رؤية الجانب الإيجابي فقط منها، فهم يعتزون بها كقوة تحرير ثقافي وروحي وخالية إلى حد ما من جشع الرأسمالية، لكن كلما ناقش أحد النقاد أن الموسيقى قد تثير أو تحرض على العنف يقلل المعجبون فجأة من قوة وأهمية الموسيقى، ويصورونها على أنها وسيلة لتحقيق المتعة غير المؤذية، لا أكثر، بحسب أليكس روس.

وكشف المؤلفان بروس جونسون ومارتن كلونان عن هذا التناقض في كتابهما "الجانب المظلم من النغم.. الموسيقى الشعبية والعنف" (2008)، ويقول المؤلفان إنه إذا تمكنت الموسيقى من تشكيل "إحساسنا بالممكن"، كما يقولون، فيجب أن تكون أيضًا قادرة على التصرف بطريقة هدَّامة، فإما أن الموسيقى تؤثر على العالم من حولها أو لا تؤثر.

كتاب "الجانب المظلم من النغم.. الموسيقى الشعبية والعنف" صدر عام 2008 (الجزيرة)

يتجنب جونسون وكلونان الادعاءات بوجود علاقة سببية مباشرة بين الموسيقى والعنف، لكنهما يرفضان استبعاد الروابط بينهما، خاصة أن "أغنية التشهير هي بحد ذاتها فعل عنف اجتماعي".

ويقول تقرير المجلة الأميركية إن نمط العدوان الصوتي يمتد من حصار نورييغا (الغزو الأميركي لبنما نهاية 1989 وبداية 1990) إلى حرب العراق، إذ استخدمت الموسيقى لإذلال السجناء، وكتب جونسون وكلونان "كانت ذاتية المعتقل تضيع في سيل من الأصوات الأميركية".

وعلى الرغم من أن الموسيقى تتمتع بقدرة هائلة على خلق شعور مجتمعي، فلا يمكن لأي مجتمع أن يتشكل دون استبعاد الغرباء. قد يبدو الشعور بالوحدة الذي تغذيه الأغنية في مجموعة بشرية شيئًا جميلًا أو مثيرًا للاشمئزاز، اعتمادًا على ما إذا كنت تحب أو تكره أغنية معينة، ويمكن أن تمثل الموسيقى الصاخبة إعلان ازدراء لأي شخص يفكر بشكل مختلف.

وسواء كنا نسير أو نرقص أو نجلس بصمت على الكراسي، فإننا نتشكل في كتلة واحدة عن طريق الصوت. كما يلاحظ الكاتب الفرنسي باسكال كوينارد في مؤلفه "كراهية الموسيقى"، ولذا فإن الموسيقى يمكن أن "تنوم مغناطيسيا وتجعل الإنسان يتخلى عن المعقول" فالإنسان "يُؤسَر بالسماع" والنغم.

المصدر : الجزيرة + الصحافة الأميركية + ذا كونفرسيشن + نيويوركر