المفكر الفلسطيني الأميركي إدوارد سعيد وموقف نقدي من الأدب الروائي

قصة روايتين سريتين لم تكتملا ولم تنشرا

قالت صحيفة غارديان (The Guardian) البريطانية إن المفكر الفلسطيني-الأميركي الراحل إدوارد سعيد رغب في كتابة روايات أدبية عدة مرات لكنه لم ينجح أبدا.

ووفقا لتقرير الصحفية دونا فيرجسون، كان سعيد واضحا وحازما تجاه الأدب، فعمل الناقد -كما يعتقد سعيد- أهم من دور الشعراء والروائيين، ويعتبر أن المثقفين (النقاد) في الحياة العامة هم الكتاب الأكثر قدرة على تحدي السلطة وتغيير العالم.

لكن وفقا لسيرة غير ذاتية جديدة نشرتها مطبعة بلومزبري مؤخرا، كتب سعيد الشعر والخيال سرا ودون أن يذكر ذلك لأصدقائه، ويكشف الكتاب الصادر في فبراير/شباط الجاري عن المسارات المتشابكة لسعيد، وعمله كمفكر في نيويورك وبيروت، وفي نفس الوقت كمفاوض سياسي فلسطيني وناقد فني.

وبالاعتماد على شهادات العائلة والأصدقاء والطلاب والخصوم على حد سواء، وبمساعدة أوراق رسمية أميركية وكتابات غير منشورة ومسودات للروايات والرسائل الشخصية يحاول الكتاب استكشاف تأثير سعيد الفكري الهائل في القرن الـ20.

سعيد -الذي توفي عام 2003- ترك خلفه روايتين غير مكتملتين لم تنشرا، إحداهما قصة قصيرة، وما لا يقل عن 20 قصيدة، حسبما كشفت سيرة تيموثي برينان لأول مرة.

ويعمل برينان -وهو تلميذ سعيد- أستاذا للأدب المقارن في جامعة مينيسوتا، ومكنته عائلة المفكر الراحل من الوصول إلى المخطوطات غير المنشورة لسعيد.

وقال برينان إن المفكر الراحل عانى من صعوبات كبيرة في كتابة الرواية، مؤكدا أنه توصل إلى قناعة مفادها أن الإخفاق هو مصير من يريد تغيير العالم بكتابة الرواية.

تسلط السيرة غير الذاتية" أماكن العقل.. حياة إدوارد سعيد" ضوءا جديدا على كيفية رفض سعيد للرواية في عام 1992 كشكل أدبي ، بعد أن قضى حياته في تدريس الأدب، وقال "لمن يشعرون برغبة في إحداث تغيير سياسي: إن الخيال الروائي ليس الأداة المناسبة لفعل ذلك".

كانت هذه النتيجة صدى لمحاولات سعيد غير الناجحة في كتابة الأدب الروائي، ولهذا لم يكمل مشروعه الروائي (غير المنشور)، وفضل تجاهل رسائل أصدقائه ومحيطيه ممن دعوه لكتابة الرواية.

وقال برينان إنه تعمد إخفاء محاولاته الروائية عن الناس، وفضل إبقاء هذه الرؤية "المحرجة" للأدب الروائي سرا.

لكن كان هناك شخص أو اثنان فقط عرفا بمحاولات سعيد بحسب برينان، وكانت الروايتان تضمان رؤية سياسية وشخصية للمفكر الفلسطيني الراحل، ودارت أحداثهما في منطقة الشرق الأوسط.

قصة روايتين

الرواية الأولى سماها سعيد "المرثية"، وتكونت من 70 صفحة، وتدور أحداثها في القاهرة التي قضى فيها مؤلف "الاستشراق" طفولته في الأربعينيات من القرن الماضي، وبدأ بكتابتها عام 1957 عندما كان عمره 22 عاما، أي قبل عقدين من صدور كتابه الذي انتقد فيه ما اعتبره تواطؤا معرفيا تجاه الشرق استمر قرونا طويلة، وشارك في صياغته أشهر عقول الغرب بقصد أو من دون قصد.

ويرى برينان أن المفكر الراحل حاول -كمواطن أميركي- التعريف بشيء لا يعرفه كثير من الناس في الولايات المتحدة، وهو أن ثمة ثقافة عربية مستقلة حاولت بنجاح البحث عن سبل مقاومة النفوذ الأجنبي الذي فرض على أماكن، مثل العاصمة المصرية.

وفي مقاله السابق بالجزيرة نت كتب الأديب الأردني الراحل أمجد ناصر أن عائلة إدوارد سعيد عاشت -كما يصف بمقال له عن العاصمة المصرية في كتابه "تأملات حول المنفى"- "في قاهرة داخل قاهرة داخل قاهرة، الأولى هي وسطه الاجتماعي والعائلي المنكفئ على نفسه، والثانية قاهرة الأثرياء والأقليات الأجنبية، والثالثة قاهرة المصريين، أو كما كان يصفهم الخطاب الغربي المتعالي: المحليين!".

وبحسب ناصر، "يصف إدوارد سعيد تنوع الجاليات الأجنبية التي كانت تعرفها قاهرة تلك الأيام بأنه أشبه بمتاهة بشرية من كل نوع: إنجليز، أميركيون، إيطاليون، يونانيون، أرمن، يهود، شوام (من بلاد الشام)".

عاد إدوارد سعيد إلى القاهرة بعد أكثر من 15 عاما على مغادرتها، فلم يجد "قاهرته" التي فقدت -كما يقول- تفاعلها العجيب مع أوروبا.

ويقول ناصر إنه رغم أن سعيد "أصبح -بحسب قوله- "ناصريا ومعاديا عنيفا للإمبريالية" فإنه ينعى ضياع القاهرة "الكوزموبوليتية، الحرة، المفعمة بضروب التميز والدهشة!"، قد لا تكون هناك غرابة في ذلك، أقله على الصعيد الشخصي لسعيد، فقد مثلت تلك القاهرة "فردوسه" الطفولي الضائع".

شعر سعيد

وبخصوص الشعر، يرى برينان أن قصائد المفكر الراحل -التي كتب بعضها في خمسينيات القرن الماضي- متجذرة بـ"العروبة"، مؤكدا أنها تمثل مواقفه الواضحة والمناهضة للاستعمار، وتعبر عن حالة "العيش بين عالمين" التي ميزت حياته كشخص ولد في الشرق وعاش في الغرب، ومع ذلك كانت بعض القصائد أكثر شخصية وعبرت إحداها عن علاقته غير المستقرة مع زوجته الأولى.

والأهم من ذلك -بحسب مقال الصحيفة البريطانية- أن هذه الأعمال المبكرة غير المنشورة تظهر أن سعيد لم يكن سياسيا قبل حرب الأيام الستة عام 1967 كما يعتقد عموما.

ويقول برينان "هذه خرافة من نواح كثيرة، قبل ذلك الوقت كان منغمسا بعمق في الأشياء التي شكلت حياته المهنية لاحقا".

في عام 1987 بدأ سعيد روايته الثانية، وهي قصة سياسية مثيرة عن الخيانة تدور أحداثها في بيروت عام 1957 "إنها مليئة بالتجسس، تشبه إلى حد كبير رواية جون لو كاريه، الأمر كله يتعلق بالمؤامرات السياسية المحيطة بغزو الولايات المتحدة والقوى المختلفة المتورطة به".

كتب سعيد حوالي 50 صفحة، لكنه تخلى عنها لصالح كتابة مذكراته عندما تم تشخيص إصابته بسرطان الدم، لقد أصبح أكثر اقتناعا بأن "المثقفين في النهاية أكثر أهمية" من المؤلفين "وهم من يغيرون الأجندات ويتحدون السلطة".

ناقد الاستشراق

وقبل 40 عاما كانت الساحة الفكرية العالمية على موعد مع "الاستشراق"، والذي أصبح خلالها أداة رئيسية في تفكيك البنية المعرفية لإنتاج المستشرقين، وعلاقته بالمشروع "الإمبريالي الغربي".

وبعكس ما اعتقده البعض، لم يتخذ إدوارد سعيد موقع الدفاع في كتابه، بل موقع المنتقد الكاشف لخطأ الغرب في مقاربته ورؤيته للشرق، وطرح مقاربة جديدة تسهم في ردم الهوة بين الشرق والغرب، وذلك من خلال احترام التعددية الثقافية وربط المعرفة بالنزعة الإنسانية بدل النزعة التسلطية الأيديولوجية.

واعتبر سعيد أن "الاستشراق" شكل منذ أواخر القرن الـ18 أسلوبا غربيا للسيطرة على الشرق، مؤكدا أن دراسة الشرق من قبل الغربيين هي دراسة منحازة مدفوعة بأغراض استعمارية ووجهات نظر مسبقة ونظرة دونية لشعوب الشرق مهما حاولت أن تبدو علمية وموضوعية.

وألف سعيد أكثر من 20 كتابا، من بينها "تغطية الإسلام.. كيف تحدد وسائل الإعلام والخبراء الطريقة التي نرى فيها العالم؟"، و"مسألة فلسطين"، و"الثقافة والإمبريالية" الذي يعتبر تكملة لكتابه "الاستشراق"، وترجمت كتبه إلى أكثر من 20 لغة.

وبخلاف نشاطه الفكري، كان سعيد عضوا في المجلس الوطني الفلسطيني، لكنه استقال بسبب معارضته الشديدة لبعض مواقف الرئيس الراحل ياسر عرفات، كما رفض اتفاقيات أوسلو التي كان يعتقد أنها صفقة خاسرة للفلسطينيين.

وتميزت العقود الثلاثة الأخيرة من حياة سعيد بمواقفه الجريئة وكتاباته عن الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية، ودفاعه عن ضرورة قيام دولة فلسطينية ذات سيادة، كما ألف سيرة ذاتية صدرت عام 2000 بعنوان "خارج المكان".

وبالإضافة إلى الكتابة، امتلك إدوارد سعيد معرفة بالموسيقى وتاريخها، وألف فيها كتابين هما "متتاليات موسيقية"، و"عن النموذج الأخير.. الموسيقى والأدب ضد التيار"، فضلا عن ممارسته العزف على البيانو بمستوى المحترفين.

المصدر : الجزيرة + الصحافة البريطانية + غارديان