المؤرخة الأميركية ستايسي فهرنيثولد للجزيرة نت: المهاجرون العرب لعبوا دورا في المطالبة بالاستقلال

ستايسي فهرينثولد أستاذة التاريخ بجامعة كاليفورنيا مع كتابها (الجزيرة)

تعد حقبة الحرب العالمية الأولى بالنسبة للمهجّر السوري محطة تاريخية مهمة لم تعرف المعالجة التاريخية التي تستحقها، وذلك لأسباب أكاديمية عديدة منها تناثر المصادر التاريخية بين المخطوطات المرتبطة بتاريخ الهجرة وتلك المرتبطة بالتاريخ العثماني، وثالثة أشرف عليها المستعمر الفرنسي.

ولفهم بعض ملامح هذا المشهد المركّب تستضيف الجزيرة نت المؤرخة ستايسي د. فهرينثولد (STACY D. FAHRENTHOLD)، وهي مؤرخة مهتمة بالشرق الأوسط الحديث، متخصصة في قضية الهجرة في منطقة الشرق الأوسط، وهي أستاذة التاريخ بجامعة كاليفورنيا ومنتسبة لبرنامج دراسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا، وعضوة في هيئة تحرير مجلة "المشرق والمحجر: مجلة دراسات الهجرة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" (Mashriq & Mahjar: Journal of Middle Eastern and North African Migration Studies).

يدور الحوار حول كتابها "بين العثمانيين والوفاق.. الحرب العالمية الأولى في الشتات السوري واللبناني، 1908-1925" (Between the Ottomans and the Entente The First World War in the Syrian and Lebanese Diaspora, 1908-1925)، الصادر عن مطبعة جامعة أكسفورد العريقة لعام 2019، وهو الإصدار الذي حصل على مجموعة من الجوائز من بينها جائزة الكتاب العربي الأميركي لعام 2020، وجائزة خير الله لدراسات الهجرة لعام 2019.

ويعد الكتاب أول تأريخ اجتماعي للحرب العالمية الأولى من منظور الشتات العربي، ويدرس كيف واجه المهاجرون مطالب الولاء من قبل المجتمعات المضيفة لهم، وكذلك مواجهة نظام تقييد الهجرة ومراقبة جوازات السفر ونزاعات الجنسية للتحكم في تحركاتهم، ويدرس كيف اعتقد النشطاء في المهجر الغربي أن دعمهم للوفاق سيعزز استقلال بلدانهم قبل أن يستفيقوا على حقيقة أنهم أصبحوا أداة لتعزيز السياسات الاستعمارية في بلاد الشام ما بعد العثمانية، فإلى الحوار:

  • أول شيء يتبادر للذهن عند التفاعل مع مؤلفك القيّم أنك اخترت الاشتغال على المدة التي تمتد ما بين 1908 و1925، ما السر وراء اختيار هذه الحقبة بالذات؟

المدة الزمنية التي اشتغلت عليها في الكتاب كانت مدة تميزت بوجود اضطرابات امتدت من ثورة تركيا الفتاة عام 1908 إلى الثورة السورية الكبرى عام 1925، وهما انتفاضتان حدثتا في حقبة الحرب العالمية الأولى وما بعدها، وهي محطة تميزت بإعادة تشكيل طريقة تفاعل السوريين الموجودين في "المهجر" مع وطنهم بطريقة جذرية.

كان اهتمامي ينصب على استكشاف كيف أثّر صعود الحركات القومية على ما يقارب نصف مليون عربي يعيشون في المهجر، الذين كانوا يشكّلون حينها خُمس الشعب السوري.

الحقبة التي تمتد من 1908 إلى 1925 كانت كذلك مدة تميزت بوجود سياسات الهجرة بشكل "مهم"؛ فقد دعمت الجمعيات السورية في الخارج ثورة 1908 (حركة تركيا الفتاة) لأنها اعتقدت أنها ستؤدي إلى تكريس دعائم دستورية ليبرالية في وطنهم، وعندما فشلت الحكومة العثمانية في تحقيق ذلك، عارضوا الدولة العثمانية. أما خلال الحرب العالمية الأولى، فإن المهاجرين السوريين تعاونوا مع جهود دول الوفاق الحربي، غير أن تحالف المهاجرين كان يسعى للاستقلال الكامل لسوريا، والدليل على ذلك أنه حينما دخل الانتداب الفرنسي لسوريا، عارض المهاجرون السوريون وجود الانتداب الفرنسي داخل أراضيهم.

  • أشرت في كتابك إلى الأدوار التي كان يقوم بها أمين أرسلان سواء مع الانتداب الفرنسي أو مع العثمانيين، ما هذه الأدوار التي لعبها في حقبة الحرب العالمية الأولى؟

أرسل العثمانيون أمين أرسلان إلى الأرجنتين عام 1910 ليشغل منصب القنصل العام للسلطنة العثمانية، كما أن أرسلان عارض بشدة دور الحكومة الوحدوية في الحرب العالمية الأولى، ثم إنه كان يعتقد أن الحرب كانت تتسم بطابع إمبريالي يحمل بين طياته حتمية دخول الاحتلال إلى وطنه.

قام أرسلان بالاحتجاج من الأرجنتين بشكل صريح على هذه السياسات الحربية، وهو ما أدى إلى طرده من منصبه الدبلوماسي، وهي لحظة فارقة في مسار أرسلان، حيث بدأ انطلاقا منها بإعلان دعمه للمقاومة العربية ضد السياسات العثمانية من منفاه.

Emir_Emin_Arslan_(Mount_Lebanon,_Ottoman_Empire,_1868_-_Buenos_Aires,_Argentina,_1943)
الأمير أمين بن مجيد بن ملحم أرسلان (1868-1943) دبلوماسي عثماني سابق وأديب وسياسي لبناني (الصحافة الأجنبية)

كان موقف أرسلان مركّبا؛ فقد أيّد استقلال سوريا الكبرى، لكن هذا يعني الإبحار في الجغرافيا السياسية للرغبات الفرنسية والبريطانية في المنطقة. تعاون مع الجهود الفرنسية خلال الحرب، ولكن بعد عام 1919 كان معارضا صريحا للاستعمار الأوروبي وقاوم سياسة تقسيم المنطقة، وهو ما انعكس على علاقة الفرنسيين به، فأثناء الثورة السورية الكبرى (1925-1927) وضع الفرنسيون أرسلان تحت رقابة صارمة وألغوا جواز سفره لأن مسؤولي الانتداب كانوا قلقين من أنه سيثير تمردا ضدهم من بوينس آيرس.

  • ما قيمة إعادة كتابة تاريخ المهجر خلال حقبة الحرب العالمية الأولى؟ وما أثر هذا الجهد الأكاديمي على التاريخ السوري؟

للحرب قوة مؤثرة على الحركات السياسية سواء بدفعها نحو التطور أو بإعاقتها. وأنا في هذا العمل سعيت إلى استكشاف العلاقة بين الهجرة وتفاعلاتها مع الحرب، لأنه حينما تمت كتابة العديد من الكتب المهمة حول حركات الهجرة التي عرفها المشرق، ظلت دائما حقبة الحرب العالمية محطة يعتريها الغموض الأكاديمي رغم أهميتها، وهو أمر مثير للفضول المعرفي.

هذا الصمت الذي اكتسبته هذه الحقبة كان مثيرا للفضول المعرفي بسبب تفاعلات الجمعيات السورية الموجودة في المهجر مع قضايا الوطن خلال مرحلة الصراع، القيام بتأريخ هذه الحقبة يعد أمرا مثيرا للاهتمام بالنسبة لي لأنه يوضح كيف أثر المهاجرون في الخارج على منطقة الشرق الأوسط بعد نهاية الهيمنة العثمانية.

  • كيف ساهمت الهجرة في تشكيل رؤية السوريين لفكرة النهضة وبناء الدولة الوطنية؟

بالطبع، من المعروف أن الناشطين السوريين في الأميركتين شاركوا في حركة النهضة الفكرية عربيا، وجراء تلك الأفكار التي ولدها المهاجرون السوريون أو تفاعلوا معها انبثق شعور بالوطنية.

يتناول كتابي بشكل أكثر تحديدا الحرب، والنشاط العربي الذي يهدف لمعارضة الحكم العثماني؛ حيث أناقش أداء النشطاء في نيويورك وبوينس آيرس وساو باولو، والعمل المنسق الذي قاموا به للضغط على القوى العظمى للحصول على الدعم في سوريا، وفي هذا الصدد نشروا المثل الوطنية عبر الصحافة السورية الموجودة في المهجر.

كتاب "بين العثمانيين والوفاق.. الحرب العالمية الأولى في الشتات السوري واللبناني، 1908-1925" (الجزيرة)

كما تم تجنيد المهاجرين في الجيش، وعندما انتهت الحرب عام 1918 سعوا للتأثير على القوى الأوروبية لدفعها نحو استقلال سوريا. ولكن بدلا من ذلك، وُضعت سوريا تحت الانتداب الفرنسي، مما دفع النشطاء السوريين في الخارج إلى معارضة الاستعمار الفرنسي من منفاهم خلال عشرينيات القرن الماضي.

  • أشرت في كتابك إلى أن الدراسات التي أجريت حول المهاجرين بين الحربين الأولى والثانية توضح أن "الهجرة" قدمت مزيجا يتأرجح بين الفرص والعقبات للانتداب الفرنسي، لكن أصول علاقة المهاجرين بالانتداب الفرنسي يكتسيها شيء من الغموض؛ هل يمكن أن توضحي ذلك؟

القضية المركزية هنا هي مشكلة المصادر؛ في كتابة التاريخ يختار المؤلف قائمة من الأرشيفات التي يجب استخدامها.

في عام 1919، عرض الفرنسيون قضية انتدابهم على سوريا وجبل لبنان في مؤتمر باريس للسلام في فرساي، ووظفوا لذلك بعض المستندات التي جاؤوا بها لدعم طرحهم، كانت عبارة عن آلاف الالتماسات والرسائل من المهاجرين العرب في الأميركتين والتي تزعم دعمهم للأطروحة الفرنسية في وضع انتدابهم في سوريا.

دخلت هذه الالتماسات في المحفوظات الأوروبية، وتم استخدامها لدراسة فترة الانتداب الفرنسي في التاريخ السوري واللبناني، أنا أزعم أن كثيرا من الحقائق فُقدت بسبب اختيار هذه المصادر القائم بالأساس على التماسات السوريين في المهجر، على سبيل المثال لا يوجد في تلك المحفوظات أصوات معادية للاستعمار من المهجر السوري، يجب على المؤرخ الوصول إلى الأرشيفات العربية الأميركية والصحف التابعة للمهاجرين السوريين.

وهذا ما قام به بالضبط كتابي الذي انفتح على مصادر أخرى مثل الأوراق العائلية وأعداد الصحف التابعة للمهاجرين السوريين الذين عاشوا في الأميركتين، لتوسيع رقعة فهم المشهد وتفاعلاته مع الانتداب الفرنسي المخالف للصورة السائدة.

وانطلاقا مما ذكرت، يصل الكتاب لأطروحة مفادها أن العلاقة السياسية للسوريين في المهجر مع الانتداب الفرنسي كانت معقدة للغاية، ولا يمكن اختزالها بأنها كانت داعمة للوجود الفرنسي في سوريا؛ على سبيل المثال سعت السلطات الفرنسية إلى وضع عراقيل قانونية لآلاف السوريين في الخارج بسبب تخوفها من عودة المهاجرين لسوريا الذين قد يؤججون من وتيرة حركة المطالبة بالاستقلال.

  • بحلول عام 1914 اكتسبت الصحف السورية المطبوعة في نيويورك وساو باولو وبوينس آيرس شعبية غير مسبوقة خلال تلك الفترة، في نيويورك وحدها عملت ما يقرب من 12 دورية باللغة العربية في وقت واحد، ما هو تأثير هذه الصحف في تعزيز الهوية الوطنية ومحاربة الاستعمار الغربي؟

عندما كثف العثمانيون الرقابة أثناء الحرب، أصبحت صحف المهاجرين السوريين صحافة حرة، كان المحررون في نيويورك وبوينس آيرس وساو باولو أكثر حرية في معارضة السياسات العثمانية بطريقة لم يستطع مواطنوهم في بيروت ودمشق القيام بها.

عندما شنق جمال باشا صحفيين سوريين عام 1916، أيد المثقفون في المهجر التمرد على الحكم العثماني لأول مرة، لقد استخدموا الصحافة لصقل الأفكار الوطنية وتدعيم ركائزها النظرية، وقاموا من خلالها بدعوة المواطنين السوريين إلى حمل السلاح ونشر المعلومات العسكرية، ودعوا للإغاثة الإنسانية خلال مرحلة الحرب، كما غذّت هذه الصحف الأحزاب السياسية السورية الجديدة التي لعبت فيما بعد أدوارا مهمة في مفاوضات السلام التي أجريت بين 1918 و1920.

  • ذكرت في كتابك أن الجمعيات السورية قدمت بنية اجتماعية مهمة "أعادت الدولة العثمانية اكتشافها" عقب ثورة تركيا الفتاة عام 1908، كيف أثرت هذه الجمعيات على نظرة السوريين للدولة العثمانية؟

لقد شكلت الجمعيات السورية في المهجر سياسة النقد التي حددت أنشطتهم المقاومة، شهدت السنوات الحرجة الممتدة من 1908 إلى 1914 ازدهارا لنوادي وجمعيات المهاجرين في المهجر، ولفترة وجيزة دعّم العثمانيون هذه الأندية معتقدين أنها وسيلة لتوجيه الولاءات السياسية للمهاجرين لقضاياهم السياسية، لكن خلال الحرب انضمت العديد من الأندية السورية في الخارج للتيار المناهض للدولة العثمانية، كما سعت لدعم حركة الاستقلال.

  • أشرت في كتابك إلى أن التجنيد الإجباري كان وسيلة رمزية قوية للمهاجرين للتعاون مع قوى المصالحة، لكن في الأشهر التي أعقبت الهدنة عام 1918، تفاوض المهاجرون السوريون بسرعة على الحدود الوطنية لمرحلة ما بعد العثمانيين، كما قدمت جمعية الوفاق خرائط جديدة وآمنت بأهمية مبدأ تقرير المصير، وأنشؤوا أول نظام يتضمن تصاريح وجوازات السفر وقوانين الجنسية في سوريا ولبنان بعد عام 1920، فهل ساهم ذلك في تشكيل سوريا ما بعد الوجود العثماني؟

نعم، دفعت المجتمعات السورية الفرنسيين للاعتراف بقوانين حقوق المهاجرين السياسية، كما سعوا إلى تحرير السفر بين سوريا وأماكن وجود المهاجرين، وكان المهاجرون معارضين صريحين للاستعمار الفرنسي خلال الثورة السورية الكبرى بين عامي 1925 و1927، كما أود أن أشير لفكرة اختتم بها كتابي تتقاطع مع سؤالك المهم، مفادها أنه لا يزال هناك المزيد من العمل الذي يتعين القيام به بشأن علاقة المهاجرين السوريين والدولة السورية خلال المرحلة الممتدة من 1927 إلى حدود الاستقلال، حيث استمرت العديد من مجتمعات المهاجرين السوريين في نشاطها حتى الأربعينيات. سيكون مهما معرفة المزيد عن تأثيرهم.

المصدر : الجزيرة