أجمل الكتب التي بقيت راسخة في ذاكرة المبدعين.. القراءة تعيد تشكيل جغرافية تفكيرنا

القراءة حلم ومتعة وطاقة روحية وحرية. فبعد قراءة أي عمل إبداعي لا نعود كما كنا بل نحمل تأثيره تحت جلدنا، و لا نخرج من أي كتاب مثلما دخلناه.

كتاب مكتبة ساحة الأعشاب - خيوط الزعفران - الحسون
"مكتبة ساحة الأعشاب" و"خيوط الزعفران" و"الحسون"، من الكتب التي تركت بصمتها في ذاكرة القراء (الجزيرة)

باريس – "أن تحمل كتابا في جيبك أو حقيبتك، خاصة في أوقات الحزن، معناه أنك تمتلك عالما آخر، عالما يمكن أن يجلب لك السعادة"، تختصر هذه المقولة الجميلة لأورهان باموق -وهو كاتب تركي حائز على جائزة نوبل- قيمة القراءة الحقيقية التي تجعلنا نسافر في العصور، لأن في الكتب توجد روح كل الأزمنة الماضية والقادمة.

ولأن حياة واحدة لا تكفي كما قال العقاد، نلتجئ للكتب والقراءة لكي تهبنا حيوات جديدة في كل مرة. فبعد قراءة أي كتاب أو عمل إبداعي لا يعود الكائن البشري كما كان، بل يحمل تأثير تجربة القراءة تحت جلده وتتلبس به رائحة بعض النصوص الإبداعية المتفردة ويتضمخ بعطرها حاملا جنين الحروف والكلمات والقوافي والروي والقواميس في عقله وقلبه وروحه وتحت مسام جلده، ومدشنا ومفتتحا مع كل أثر ابداعي جديد، ولادة وحياة جديدتين.

blogs أورهان باموك
التركي أورهان: أن تحمل كتابا في جيبك أو حقيبتك، معناه أنك تمتلك عالما يمكن أن يجلب لك السعادة (مواقع التواصل)

وربما هذا ما تحمله تميمة الكتب السحرية بعد عام من القراءة والتفكير والتدبير والتنوير والعزلة والجنون والطفولة والغيوم والهطول والتسكع تحت زخات الأدب والمطر.

ولكل ذلك تظل أبواب المعرفة والسؤال مشرعة بحثا عن إجابات طريفة وحصاد ثقافي متميز، عن أجمل الكتب والقراءات التي بقيت عالقة في ذهن نخبة من الكتاب والمبدعين العرب في عام 2021. فضلا عن فعل القراءة وأثرها السحري على المبدع والإنسان عموما.

فإلى الاستطلاع. 

عين حمورابي” لعبد اللطيف ولد عبد الله، و“نازلة دار الأكابر” لأميرة غنيم، و“وشم الطائر” لدنيا ميخائيل
روايات "عين حمورابي” لعبد اللطيف ولد عبد الله، و“نازلة دار الأكابر” لأميرة غنيم، و“وشم الطائر” لدنيا ميخائيل ضمن القائمة القصيرة لجائزة الرواية العربية (الجزيرة)

روايات لم تكتب لتقرأ وإنما لتعاش

تعتبر الكاتبة التونسية أميرة غنيم رواية "الحسون" للكاتبة الأميركية "دونا تارت" (Donna Tartt) من أفضل قراءاتها لعام 2021، وهي الحائزة على أكثر من جائزة عالمية.

وأضافت مبررة اختيارها لهذا الكتاب بالقول "هو سمفونية إبداعية حقيقية لا يملّ منها قارئها رغم أنها تمتد على أكثر من ألف صفحة. أحببت في هذا الكتاب قدرة تارت الفائقة على تصوير أغوار النفس البشرية من خلال مجموعة من الشخصيات التي تورّط القارئ في الإعجاب بها والتعاطف معها. عاش معي الكتاب مدة من الزمن وعشت مع أحداثه المشوّقة ساعات من السعادة أبهجت نهاية هذا العام".

وتتحدث عن أهمية فعل القراءة وتأثيره عليها، بالتأكيد أن كل تجربة قراءة تترك في الإنسان دون شك أثرا مميزا ولا يكون بعدها كما كان قبلها.

وأضافت "لقد تركت بي رواية "الحسون" شعورا جميلا بالامتلاء ينتابني كلما تذوقت طبقا سرديا لذيذا لا يمكن للذهن أن ينسى مذاقه بسهولة".

غلاف كتاب - طائر الحسون
غلاف كتاب طائر الحسون للكاتبة الأميركية دونا تارت (مواقع التواصل)

من جانبه أشار الكاتب الليبي محمد الأصفر إلى أنه في عام 2021 لم يكتب أي عمل جديد، وقضى معظم وقته في قراءة الكتب ورقيا وإلكترونيا. ولكن الكتاب الذي أعجبه بشكل استثنائي هو رواية "مكتبة ساحة الأعشاب" للكاتب "إيريك دو كريميل" (Eric de Kermel) الصادرة عن المركز الثقافي العربي للنشر بترجمة الدكتور مصطفى الورياغلي.

وتابع قائلا "هذه الرواية لطيفة خفيفة الظل تعيدك إلى زمن بورخيس وعشقه للمكتبات، وتذكرك بمبدعين آخرين أولوا للمكتبات اهتماما كبيرا كألبرتو مانغويل وامبرتو ايكو، ومن قبلهم الجاحظ.

وتتحدث الرواية عن سيدة تحب الكتب، حيث تركت عملها وأسست مكتبة في مكان اسمه ساحة الأعشاب، ومن خلال المكتبة والكتب بنت علاقة إنسانية مع كل زبائنها وصارت عنصرا مهما في حياتهم، فهي من تختار لهم الكتاب المناسب لذوقهم، وتتعامل معهم بالطريقة التي يحبونها استعارة أو شراء.

ورغم أنها حديثة عهد في المكان والساحة إلا أنها نسجت علاقات مع الكل وصار الجميع يعرفها، كل زبون له حكايته يحكيها لها، أي لديه كتابه غير المكتوب على الورق".

وخلص الأصفر إلى أنه حينما قرأ رواية "مكتبة ساحة الأعشاب" اكتشف عبرها روايات أخرى وأفلام ولوحات تشكيلية وسيمفونيات وأغاني. لأنها رواية كريمة وليست أنانية، لم تكتب كي تقرأ فقط وإنما أيضا لتعاش.

وشدد على أنه حين انتهى منها حقيقة لم يشعر أنه قرأ رواية واحدة، إنما قرأ معها عدة روايات أخرى. مضيفا "لقد جعلتني هذه الرواية أقرأ أكثر وأكثر"، وفق تعبيره.

غلاف كتاب أشياء تتداعى
غلاف رواية أشياء تتداعى (الجزيرة)

القراءة تغيرنا من الداخل

بدوره لفت الروائي المغربي عبد النور مزين إلى أن من الكتب التي تركت أثرا بالغا على فكره وذاكرته هذا العام، وعلى طرق تعاطيه بعد ذلك مع مجمل الإنتاج الفكري الغربي والأدبي منه على الخصوص، تبقى رواية الكاتب النيجيري "تشنوا أتشيبي" (Chinua Achebe) "أشياء تتداعى"، الأكثر تأثيرا.

وتابع قائلا  "أنا أقرأ تلك الرواية وأعيد قراءتها، وأتمعن في كل ذلك الدمار الهائل الذي ألحقه المستعمر الإنجليزي في كل البنى الفكرية والثقافية والاجتماعية لشعب إيغبو تحت مسميات استعمارية عدة كالحضارة والتمدن والتقدم، استطعت أن أنفذ إلى المعنى العميق الذي أراد تشنوا أتشيبي أن يعطيه للكتابة التي تستطيع أن تفكك المفاهيم الحقيقية التي قام عليها الفكر الاستعماري في نظرته وتعاطيه مع المستعمرات وشعوبها وخيراتها.

تلك النظرة العنصرية التي لم تكن لتقوم لها قائمة لولا المقدمات الفكرية التي قام بها وأنجزها المبشرون الأوائل والكتاب ومفكرو الاستعمار الذين مهدوا الطريق. هكذا تغدو الكتابة والأدب، كما عبر عنه أتشيبي في رواية "أشياء تتداعى"، آلية جديدة وفعالة لتفكيك وإعادة قراءة المنظومة الفكرية الاستعمارية".

وختم مزين قوله بالتأكيد على أن القراءة تغيرنا من الداخل بشكل عميق بالرغم من أننا لا نفطن لذلك بتلك السرعة التي نتغير لها. الكتابة تعيدنا إلى طفولتنا الأولى وإلى براءتنا الأولى، كأن تلك البراءة تغدو ذخيرة حية ضد الرداءة والنفاق والاستعباد. القراءة تعيد تشكيل جغرافية تفكيرنا وتستطيع أن تجعل الربيع يزحف من جديد مهما طغت وتجبرت حرائق الذاكرة.

كتاب فخاخ الرائحة
كتاب فخاخ الرائحة (الجزيرة)

ملحمة الألم العظيم

في حين اعتبر الكاتب والشاعر السوري المقيم في فرنسا أسعد آل فخري أن القراءة هي نافذة يطل منها القارئ على عوالم تشكل المعادل الذي يجعله يرى ويدرك مالا يراه ويدركه غيره، في الوقت الذي تُعد فيه القراءة المتأنية الشجرة الوارفة التي تثمر الصمت الكليم.

وأضاف قائلا بخصوص كتابه المرج لعام 2021، "لقد تركت فيّ سردية "فخاخ الرائحة" للروائي السعودي يوسف المحيميد أثرا مهما، جراء ما اتسمت به تلك التجربة السردية المختلفة من بعد إشكالي يخص طرائق السرد فيها، وتحولات اللعبة الحكائية إذ يُعَدّ المحيميد لافتا ومهما من جهة التكنيك السردي، وتعدد أصوات الرواة داخل السياق الروائي، وهو بذلك استطاع تحقيق "الطفرة الأسلوبية" التي خصَّته، وميزته.

لفتني أيضا في السردية ماهية السيريَّة التي تقوم على فلسفة الفقد المرتبط بحاسة الشّم بين 3 شخصيات تتناوب في سرد متواليات حكاية الفخاخ التي تخبرنا عن فقدان كل منهم لعضو من جسمه؛ طراد صاحب الأذن المقطوفة، وتوفيق صاحب الرجولة المَخْصيَّة، وشخصية ناصر اللقيط صاحب العين الواحدة".

وخلص آل فخري إلى أن هكذا ملحمة أسست لمفهوم الألم العظيم الذي ما انفك يطل بصوت أنينه وحزنه الشديدين على هيئة سؤال "إلى أين؟" تنتهي الرواية ولا نجد جوابا، من حيث أن الرواية في حقيقة الأمر سؤال الديمومة الذي يحمل في أجوبته سؤاله الجديد.

الشاعرة إيمان موسى (الجزيرة)

لا نخرج من أي كتاب مثلما دخلناه

أما الشاعرة التونسية المقيمة في فرنسا إيمان موسى، فأشارت إلى أن رواية "المتسرعات" (Les Impatientes) للكاتبة الكاميرونية "دجايلي أحمدو أمل" (Djaïli Amadou Amal) الفائزة بجائزة جنكور لطلاب المدارس الثانوية. من القراءات التي بقيت عالقة في ذهنها هذا العام.

وقالت مبررة هذا الأثر الكبير "تكمن خصوصية هذه الرواية في ارتباطها الوثيق بتجربة النساء الكاميرونيات في زمننا الحالي. تروي المؤلفة قصة 3 نساء تتشابك مصائرهن، رملة التي تم استبعادها عن حبيبها لتزويجها غصبا بزوج السيدة سفيرة، بينما تضطر أختها هندو للزواج من ابن عمها.

غلاف رواية الكاتبة الكامرونية دجاللي
غلاف رواية الكاتبة الكاميرونية دجايلي (الجزيرة)

الزواج القسري والاغتصاب الزوجي والنفاق الاجتماعي وعواقب تعدد الزوجات، هي مواضيع شائكة تتناولها الكاتبة بشجاعة كبيرة. تكسر هذه الرواية لجالي أمادو الموضوعات المحرمة من خلال إدانة حالة المرأة المتردية في بلدها وفي بلدان أفريقية كثيرة. رواية مؤثرة حول قضية العنف ضد المرأة في بعدها العالمي".

وفي نفس السياق تجزم موسى أنه لا نخرج من أي كتاب مثلما دخلناه. حيث نخرج منه أكثر استنارة، وأكثر حساسية لموضوعات لم تكن تهمنا في السابق. نتركه أكثر قلقا بشأن حالة العالم في بعض الأحيان. هذا هو أيضا دور الكتاب، إذا نجح في إدهاشنا وجعلنا نفكر، فهذا يعني أن مؤلفه قد قام بعمل جيد. مضيفة "هذا ما أبحث عنه غالبا عندما أبدأ مغامرة القراءة"، وفق تعبيرها.

للاستخدام الداخلي فقط - الكاتبة السورية نور طلال نصرة
الكاتبة السورية نور طلال نصرة (الجزيرة)

نضوج قلم المبدع من عمق قراءاته

وليس بعيدا من موسى، ترى الكاتبة والمترجمة السورية نور طلال نصرة، أن للقراءة تأثيرا كبيرا على وعينا وعلى مخزوننا الثقافي والعاطفي. لكن مع تزاحم الأعمال وضجيج السوشيال ميديا بات من الصعب تحديد ما يجب أن نقرأ، وباتت القراءة عمل شاق لمترجم يقضي معظم ساعات نهاره في ترجمة عمل روائي.

وتابعت في نفس السياق "ومع هذا كله، ورغم تأخري في قراءة رواية "دروز بلغراد" للروائي ربيع جابر، كونها صدرت في عام 2012، فإنها أثرث عليّ، فلم تكن رواية سهلة على الإطلاق. الاعتناء الكبير بالتفاصيل التاريخية والاشتغال على العناصر الروائية والشخصيات جعلني أتوقّف عند مقاطع كثيرة في السرد. فتناول مأساة كبيرة كترحيل عدد كبير من طائفة معيّنة، لا يطغى على المآسي والظلم الإنساني الواقع على شخصيات الرواية والذي يفرد له الكاتب مساحة كبيرة. تأني الكاتب في وصف مظاهر الاستغلال والقهر ومن ثم موت الشخصيات بأقسى الطرق يضعنا أمام صورة قبيحة للتاريخ".

كتاب دروز بلغراد
كتاب دروز بلغراد (الجزيرة)

وتخلص في الأخير إلى أن القراءة تمنحها متعة بالدرجة الأولى، فأجواء كل كتاب عالم جديد وجميل ومتفرد بكل تفاصيله، سواء كان رواية أو كتابا فكريا. ومن ناحية أخرى تؤكد نصرة أن للقراءة تأثير إبداعي على كتابتها، لأن نضوج قلم المبدع سواء كان مترجما أو كاتبا مرده عمق اطلاعه وقراءاته.

وتقول "ولا أخفيك أنني أتجاوز عزلتي عندما أقرأ وأخرج من قوقعة الواقع المتردي الذي نعيشه جميعا في بلداننا العربية".

الذاكرة التي تؤرخ للمعاناة

من ناحيته لفت الكاتب المصري عبد النبي فرج أن رواية العراقي زهير كريم "خيوط الزعفران" الصادرة بالأردن عن "دار الآن، ناشرون وموزعون". هي التي شدته كثيرا عام 2021، نظرا لكونها فيها استطاعة بمهارة وذكاء، ضفيرة سردية قدمت عوالم متشابكة ووقائع تخص فترة من حياة الشعب العراقي ما بعد الاحتلال.

وتابع قائلا "هي رواية الصراع على الحافة، بين كل الأطراف ولا شخصية تستطيع أن تكون حيادية أو رمادية. رواية الحب والشغف والأسرار والفانتازيا واللعب والمؤامرة. رواية أصوات، لأنه لا يمكن أن يقدم هذا العالم راويا عليما يرصد هذا العالم المتشابك والأحداث الساحرة والطموح الجموح والرغبات الهستيرية. هذه رواية الذاكرة، التي تؤرخ بفنية عن الجرائم المروعة التي تعرض لها العراق، هذا الشعب الذي يخرج من محنة ليسقط في محنة كبيرة".

وختم كلامه بالتنصيص على أن قراءة أي عمل سردي أو جملة شعرية لا نعود بعدها كما كنا بل نحمل كل هذا الأثر تحت جلدنا. القراءة حلم ومتعة وطاقة روحية، وهي تساوي الحرية. القراءة تجعلك أكثر رحابة وتفهم للآخر وتزيد الإنسان نبلا، لأنها تعمق لديك الإحساس بقيمة الحياة.

المصدر : الجزيرة