البروفيسور جوناثان لورانس: بقاء الخلافة الإسلامية كان سيمنع صعود الإرهاب وهذا هو الفارق بين روما وإسطنبول

بعد جمع بيانات عن 8 دول قومية وإمبراطوريتين عابرتين للحدود على مدى عدة قرون، ينسج كتاب "التأقلم مع الهزيمة: الإسلام السني والكاثوليكية الرومانية والدولة الحديثة" مسار السلطات الدينية حتى نزع التمكين السياسي منها. يظهر الكتاب الخلفية التاريخية والمؤسسية للسلطات الدينية الكاثوليكية والمسلمة، وكيف تعاملوا مع الهزيمة رغم الاختلافات الجغرافية والسياسية والديمغرافية.

جونثان لورنس‎‎ Jonathan Laurence مواقع التواصل الاجتماعي
جوناثان لورانس، أستاذ العلوم السياسية في كلية بوسطن، ألف كتاب "التأقلم مع الهزيمة: الإسلام السني والكاثوليكية الرومانية والدولة الحديثة" الصادر عن مطبعة جامعة برينستون العريقة العام الجاري 2021 (مواقع التواصل)

كتبُ التاريخ ممتلئة بالمقارنات الدائمة بين الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان والخلافة الإسلامية سواء في بغداد أو إسطنبول، وهناك من يعدهما شبيهتين أو مقابلتين بعضهما بعضا، وهناك من يكتفي بالنظر للعلاقة الثنائية بينهما التي تجاذبتها ظروف الحروب والسلام.

ولكن قليلة هي الدراسات التي تعنى بعلاقة كل من الخلافة والبابوية وعلاقتهما بالدولة الحديثة ومفاهيم السياسة الحديثة، وفي هذا السياق يأتي كتاب البروفيسور "جوناثان لورانس" (Jonathan Laurence) أستاذ العلوم السياسية في كلية بوسطن، بعنوان "التأقلم مع الهزيمة: الإسلام السني والكاثوليكية الرومانية والدولة الحديثة" (Coping with Defeat: Sunni Islam, Roman Catholicism, and the Modern State) الصادر عن مطبعة جامعة "برينستون" العريقة العام الجاري 2021.

يقدمُ الكتاب -اعتمادا على المقابلات والزيارات الميدانية والبحوث الأرشيفية في تركيا وشمال أفريقيا وأوروبا الغربية- شرحا لكيفية تعرض السلطات السنية والكاثوليكية على مدى 3 قرون لصدمات بفعل صعود الدولة القومية.

ونتيجة لذلك، قبلت المؤسسات الكاثوليكية في النهاية بهيمنة الدولة الحديثة، كما يكشف عن التحولات التي شهدها العالم الإسلامي السني في القرن الحادي والعشرين.

يظهر الكتاب بين طياته معالم تفاعل التجربة المسيحية مع الدولة الحديثة، وكذلك اختلاف نيات السلطة السياسية الغربية تجاه الفاتيكان، في مقابل نيتها تجاه الخلافة في إسطنبول التي سعت إلى إسقاطها، بدل إصلاحها وجعلها سلطة دينية حاضنة وجامعة للأمة الإسلامية.

كتاب Coping with defeat تأليف: جونثان لورنس‎‎ - Jonathan Laurence مواقع التواصل الاجتماعي
يقدم الكتاب بانوراما تاريخية للإمبراطوريتين الإسلامية والكاثوليكية ويكشف عن تشابه علاقتهما بالدولة الحديثة (الجزيرة)

وحسب الكتاب، فإن هذا الإسقاط الذي أسهم فيه الغرب إسهاما كبيرا بوصفه سلطة سياسية إمبريالية في تلك الحقبة، أدى إلى تنامي الجماعات الإسلامية التي تتبنى العنف في أطروحاتها. والآن، نترككم مع الحوار:

  • الكتاب يسلط الضوء على نموذجين مهمين هيمنا على الحضارة البشرية لما تمتعا به من مكانة دينية وسياسية -والحديث هنا عن مؤسستي الخلافة والبابوية- لماذا هذا الاختيار؟

يسعى الكتاب لفك العلاقة التي تربط السياسة الدينية بالنموذجين الكاثوليكي والمسلم؛ إذ يرى الكتاب أن الواقع الديني للمجتمعات المسلمة التي تشهد انقساما يرجع إلى قرارات الأوروبيين لتقويض الخلافة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب شرق آسيا.

وهنا تجدرُ الإشارة إلى أن الإمبراطوريات البريطانية والهولندية والفرنسية والروسية فعلت كل شيء عدا اختطاف أو اغتيال الخليفة لضمان النتيجة المتمثلة في الإجهاز على مؤسسة الخلافة، بدل إصلاحها داخليا.

أما الفكرة الثانية التي يرمي إليها الكتاب، فهي تتمحور حول التناقض الحاصل بين تجربتي روما وإسطنبول مع الحكومات الأوروبية في مطلع القرن؛ ففي الوقت الذي أجهزت فيه الدول الأوروبية على التسلسل الهرمي للكنيسة، لم تقم بحلها أبدا. وعندما غزا القوميون الإيطاليون المناطق التابعة للكنيسة وحولوا روما لعاصمة جديدة لهم، فإنهم توقفوا عند بوابات الفاتيكان.

قامت القوى الأوروبية في أوائل القرن العشرين بنفي البابا، لكنها -في نهاية المطاف- أنقذت الكنيسة الكاثوليكية من الحل وإدخال الكاثوليكيين في دوامة الكرسي الفارغ المكرس لغياب الشرعية الدينية.

  • نجدُ -في الكتاب- أن الدول القومية رغم أنها حاولت تجفيف منابع قوة الفاتيكان، فإنها حافظت عليه ودعمت مكانته الرمزية الدينية، كيف ذلك؟

بعد تمدد القومية الإيطالية باتت الكنيسة تحت السيطرة الإدارية للدول الأوروبية، حيث مارست التعيينات الدينية. لكن كان لدى الفاتيكان الوقت والمساحة لبناء الموارد التنظيمية من أجل العودة للإشراف على السلطة الدينية.

عاد الفاتيكان منظمة مغايرة؛ فكانت هناك عزلة دبلوماسية للفاتيكان دامت ما يقرب من 70 عاما (1861-1929) إلى حين اتفاقيات "لاتران" مع إيطاليا التي أعادت إحياء دولة الفاتيكان المستقلة.

لقد دخل الفاتيكان النظام العالمي الجديد بوصفه دولة ذات سيادة، وإن كانت بشكل رمزي بحت. لدى البابا مئات الملايين من الأتباع، لكنه يمارس سلطته العملية على أقل من ألف مواطن. منحت هذه التسوية الحياة للكنسية الكاثوليكية في زمن الدولة القومية.

استعادت الكنيسة الحكم الذاتي في شؤونها الداخلية، كما باشرت الإشراف على تدريب رجال الدين وكذا تعيين الأساقفة. هذا الأمر جسد استعادة ناعمة للكاثوليكية الرومانية، وهو ما جعل "دولة" الفاتيكان حلا لحفظ ماء الوجه يمكنُ عبره لـ"ظل الله على الأرض (البابا) أن يحكم ويتمتع بسيادة".

هذه النتيجة، التي تجسد انتصارا للكنيسة رغم القيود التي شهدتها، شكلت حلا خفف من وتيرة تسييس الدين الذي تجذر في العالم الإسلامي بعد سقوط الخلافة.

  • كيف تعاملت الدول الغربية مع الخلافة الإسلامية؟ وما الذي تسبب به فراغ كرسي الخلافة حسب نظرك؟

لم تشهد الخلافة الإسلامية بإسطنبول مثل هذا الحل الذي قُدِمَ للكنيسة الكاثوليكية؛ فمنذ أن نفت الجمهورية التركية الخليفة الأخير وألغت مؤسسة الخلافة عام 1924، ظل سؤال الشرعية الدينية عند المسلم حاضرا، فلمن تقدم البيعة؟ وخلف من تجتمع الأمة؟

هذا السقوط جعل السلطة الدينة في زمن الدولة القومية تنتقل إلى وزارات الشؤون الإسلامية الوطنية. إن الشرعية الدينية لكل من هذه الوزارات يتمُ التنازع عليها من طرف الجماعات الدينية، مثل الإخوان المسلمين التي تؤمن بالانتخابات، كما يمتدُ التنافس عليها كذلك من الجماعات الدينية العنيفة مثل القاعدة وداعش.

فراغ مقعد الخليفة أدى إلى ظهور الجماعات الإسلامية التي تسعى إلى حيازة المشروعية الدينية في المنطقة الإسلامية، وتظهر شعبية الأحزاب الإسلامية التي يشكك بعض قادتها في شرعية الدولة للتسييس المستمر للدين.

  • كيف ينبغي فهم تطور مواقف السلطات الدينية تجاه الدولة الحديثة؟ وهل التراث الإسلامي بحاجة لإصلاح "بروتستانتي" جديد؟

يفشل الكثيرون في رؤية اللغز؛ يشيرُ كثيرون إلى الوحدة بين الدين والسياسة في الإسلام من ناحية، وفي المقابل يصرون على أن المسيحية كان مقدرا لها دائما الامتثال للمعايير المعاصرة التي تجسد الفصل بين الكنيسة والدولة؛ وهنا أريد القول بأن المسلمين السنة ينخرطون في الفصل بين ما هو ديني وما هو سياسي، ويجب أن تبدأ الحكومات بالتخلي عن احتكارها الديني الحالي.

هناك كثير من الدراسات حول الإسلام والسياسة اليوم ترى ضمنيًا أو بشكل صريح أن الإسلام يحتاج إلى إصلاح شبيه بالإصلاح البروتستانتي، في حين ترى دراسات أخرى استحالة تحقق هذا النوع من الإصلاح، وهنا أريد أن أشير إلى أن التحول الأول لمسيحيي القرن الرابع الذي نقل المسيحية من الوعظ إلى الحكم كان أيضًا غير متوقع؛ كلنا يعرف المبدأ القائل "إعطاء ما لقيصر لقيصر، وما لله لله" هذا المبدأ صالح فقط حينما يكون المسيحيون أقلية؛ في هذا الصدد كتب عالم اللاهوت "شاي كوهين" (Shaye J. D. Cohen) أنه "بمجرد أن يصبح قيصر مسيحيا، يصبح كل شيء لقيصر".

من الناحية النظرية، كانت المسيحية الغربية مملكة روحية يحكمها البابا، الذي تجاوزت سلطته كل الحدود. إلا أن تمدد الدولة الحديثة جعل زعماء الدول يطلبون من رجال الدين أن يكونوا مواطنين مخلصين، واستندت الكاثوليكية إلى "إطار قانوني يربط بين الله والبشرية".

بدا تخلي الكنيسة الكاثوليكية عن حظوتها السياسية واعتناقها للديمقراطية بعيدا في فترة الخمسينيات من القرن الماضي، ثم بدأ ما لم يمكن تصور حدوثه؛ حيث خضعت الكنيسة للتحديثات (1962-1965). وهو الأمر الذي دفع صموئيل هنتنغتون مثلا إلى أن يصف البابا بأنه بات فاعلا عالميا رائدا في مجال حقوق الإنسان ومحركا لإرساء الديمقراطية.

من خلال جمع البيانات من 8 دول قومية وإمبراطوريتين عابرتين للحدود على مدى عدة قرون، ينسج هذا الكتاب نسيجا من مسار السلطات الدينية حتى نزع التمكين السياسي منها. يظهرُ الكتاب الخلفية التاريخية والمؤسسية للسلطات الدينية الكاثوليكية والمسلمة وكيف تعاملوا مع الهزيمة رغم الاختلافات الجغرافية والسياسية والديمغرافية.

  • ما المنعطفات الثلاث التي شكلت مسار مؤسسة الخلافة والبابوية؟

أخضعت الدول الحديثة الإسلام والكاثوليكية؛ حيث اضطلعت الدولة بأدوار كانت تشغلها سابقا السلطات الدينية، مثل التعليم وسن القوانين وكل ما يتعلق بالأحوال الشخصية، وكان عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم أول من أدرك أن الدولة الحديثة ستتولى دور الدين في هيكلة التماسك الاجتماعي، وافترض المُنظِّر الألماني ماكس فيبر أن العلم سوف يتجنب الدين.

تفرد التفسيرات التاريخية للعلمنة الأدوار التي لعبتها الرأسمالية والقومية والثورة العلمية والإصلاح؛ وافترضت نظرية التحديث أن فصل الدين عن الدولة سيكون إحدى نتائجها الطبيعية.

ومع ذلك، الواقع يؤكد أنها رحلة صعبة وطويلة انطلقت من التفوق الديني على الدولة إلى الاستعادة الناعمة للذاتية القانونية، والانتقال من موقع القدرة المطلقة إلى العمل في المجتمع المدني.

الحجة المركزية لهذا الكتاب هي أن 3 صدمات، أو هزائم، أدت إلى تآكل الروابط السياسية الدينية لدى آخر الإمبراطوريات. اختلفت الصدمات في التوقيت بالنسبة للكاثوليك والسنة، ولكن كان لها التأثير الثوري نفسه المتمثل في إلزام السلطات الدينية تدريجيا بسيادة القانون.

تم تكريس 3 أجزاء من الكتاب حول هذه المنعطفات الحرجة الثلاث؛ الجزء الأول عن "نهاية الإمبراطورية"، أما الجزء الثاني فيتناول "عصر الدولة القومية"، والجزء الثالث يعرض "عصر المؤمنين عابري الحدود".

دفعت كل صدمة تاريخية السلطات الدينية إلى مزيد من العلاقات بين الدولة والدين التي امتدت من السيادة إلى شبه الاستقلال الذاتي. كل هزيمة أقامت حدودا قانونية جديدة بين القيادة الدينية والمتدينين ووضعت سيادتهم السياسية على المحك. كان الاستسلام لسيادة الدولة هي التكلفة التي دفعتها السلطات الدينية للحفاظ على توحيد الشعائر الدينية في الأراضي التي لا تسيطر عليها سياسيا.

لقد عززوا 3 جوانب: البنية التحتية، والمؤسسات التعليمية، والتسلسل الهرمي. تم توسيع الأبرشيات والكليات والمعاهد الدينية الكاثوليكية لمواجهة تحديث الدول القومية.

في المقابل، حدث التطوير العثماني للتعليم الديني الرسمي الموحد ليكون رد فعل على الجهود الأوروبية لاستبداله، كانت هذه المؤسسات موجودة دائما في شكل ما، لكن البنية التحتية موزعة بشكل غير منتظم، وجودتها خاضعة لرقابة مخففة.

يتطلب الانخراط في هذه الحجة استعدادا لإعادة تفسير العلاقات بين الدولة والدين منذ القرن السادس عشر للإصلاح المضاد في القرن التاسع عشر.

  • ألم تكن الكاثوليكية مركزية دائما؟ ألا تنتشر السلطة في الإسلام ولا تتركز في مؤسسة واحدة؟

مقارنة بالهيكل التنظيمي الراسخ للكاثوليكية الرومانية، كان للإسلام العثماني درجة أقل من إضفاء الطابع المؤسسي المركزي.

ترك خلفاء السلطان مساحة للسلطة الدينية المحلية، وحافظوا على سيطرة أكثر مرونة في جنوب شرقي أوروبا وشمالي أفريقيا والجزيرة العربية.

ومع ذلك، كان الإسلام السني أكثر مركزية مما هو معترف به بشكل عام، وكان الاحتكار الهرمي للكاثوليكية الرومانية أقل إحكاما من سمعتها.

كان العثمانيون من الأنظمة الإسلامية القليلة في التاريخ التي احتفظت بوصاية على أقدس الأماكن الإسلامية في مكة والمدينة والقدس، وألهم خلفاء السلطان مئات الملايين من المسلمين الذين عاشوا تحت الحكم البريطاني والهولندي والفرنسي والروسي.

على الرغم من أن نفوذهم السياسي بلغ ذروته في القرن السابع عشر، فإنه في الربع الأول من القرن العشرين، أصبح الخليفة الزعيم الروحي لنحو 80% من مسلمي العالم البالغ عددهم 350 مليونا.

إذا كانت الضرورة الدينية للخلافة محل نقاش محتدم، فإن استمرارها التاريخي أمر لا مفر منه. إن محاولة الدول القومية الحديثة للاضطلاع بهذا الدور تجعل غياب الخلافة ملموسا؛ وهو ما سبب ظهور الحركات الإرهابية والجماعات المتطرفة.

المصدر : الجزيرة