10 دروس لعالم ما بعد الوباء.. ماضي الجوائح ومستقبل الحياة الحديثة

عشرة دروس لعالم ما بعد الوباء
كتاب "عشرة دروس لعالم ما بعد الوباء" للإعلامي والمؤلف الأميركي فريد زكريا يرصد استجابة المجتمعات البشرية لجائحة كورونا (الجزيرة)

جاءت جائحة كورونا إشارة للتأكيد على ولادة عالم جديد بدأ يتشكل منذ 4 عقود. فتاريخ البشرية كان بحاجة إلى هزّة ارتدادية تشدّه من عالم الفضاء والاتصالات إلى واقع شديد القساوة في تعرجاته وانعطافاته. ويبدو أن هذا الفيروس سيسبب أكبر ضرر اقتصادي وسياسي واجتماعي، لم تشهده البشرية منذ الحرب العالمية الثانية.

وفي كتابه (عشرة دروس لعالم ما بعد الوباء) الذي صدرت ترجمته العربية حديثًا عن الدار العربية للعلوم ناشرون، لا يتحدث فريد زكريا، وهو صحفي ومؤلف أميركي مواليد بومباي في الهند عام (1964) ومقدم تلفزيوني ومؤلف بارز، عن الوباء بقدر ما يتحدث عن العالم الذي بدا منتفضا ليبقى حيّا بعد هذا الوباء، محللًا استجابة المجتمعات البشرية له.

وكما يبتعد المؤلف عن المعارك الكلامية والجدالات الدائرة يوميا بشأن ارتداء الكمامات ونجاعة عمليات الإغلاق، فإنه لم يركز على الإغلاق ومخاطره على حياة الناس اليومية، والسباق المحموم على إنتاج لقاح مضاد للفيروس على مستوى دول العالم، ولم يتطرق إلى التباعد الاجتماعي وثقافة الأقنعة المستجدة.

وعلى النقيض مما يذهب إليه فريد زكريا نجد على الضفة الأخرى أن الكاتب والروائي السوري إبراهيم اليوسف المقيم في ألمانيا الذي أصدر نحو 3 كتب عن كورونا، يرى أن فيروس كورونا استأصل عادات كثيرة من حياتنا العامة ليتم استبدالها بقيم أخرى، مستجدة، ستسمر، إلى وقت طويل، وأن الكمامة والمعقم ومسافة التباعد وغيرها ربما ستظل راسخة في ذاكراتنا جميعا.

الفيروس تحت المجهر

يتتبع زكريا بعض الحوادث التاريخية المرتبطة بالوباء، فيذكر كيف قضى الموت الأسود في أواخر القرون الوسطى على معظم سكان أوروبا، إذ بلغ عدد الوفيات كما يرد في الكتاب ما بين 75 مليون و200 مليون شخص، وأضاف الكاتب أنه كان لذلك المرض جولات مستمرة في حياة الناس فقد استمر مدة 100 عام. ويشير الكاتب إلى أن الأمر استغرق حتى ثلاثينيات القرن الماضي عندما تمكن العالم لأول مرة من رؤية فيروس تحت المجهر، ويؤكد أن إجراء تسلسل "فيروس كورونا المستجد" (SARS CoV-2) تم اليوم على الفور تقريبا.

ويقول الصحفي والكاتب اللبناني وليد نويهض إن العالم الآن يمر في مرحلة الفوضى الانتقالية، وجائحة كورونا التي خلطت الأوراق هي أكبر شاهد على تلك التحولات المتسارعة وما تعكسه من احتمالات انقلابية على واقع تغير فعلا.

ويتابع نويهض -في حديثه للجزيرة نت- أن الاكتشافات والاختراعات في الماضي كانت متباعدة زمنيا بين محطة انتقالية وأخرى، وهذا التباعد الزمني كان يعطي فرصة للعقل البشري لاستيعاب التحول والتفكر بآلياته وقوانينه، وإعادة تشكيله ذهنيا حتى يتناسب مع نسق التطور الهادئ في طبيعته الزمنية المتغيرة.

وذكر الكاتب أن الحكومات على مستوى العالم اتجهت إلى الانكماش الاقتصادي كما حصل مع انهيار عام 1929 الشهير، ويؤكد أنها بدت مستعدة لإنفاق تريليونات الدولارات بغير حساب من أجل السيطرة على الفيروس.

في حين يخالفه وليد نويهض الرأي، إذ يرى أن هناك نهضة اقتصادية كبرى سيشهدها العالم بسبب النمو السريع الذي سيتعرف عليه الناس في ميدان الاختراعات والاكتشافات، مما سيؤدي أحيانا إلى انعدام قدرة البشر على استيعاب الجديد.

وأضاف نويهض أن هذا الفائض من التطور ربما يسهم في اختناق التقدم وتعطيل حركة المرور في المنعطفات الحادة، الأمر الذي يعطي فرصة لنمو هويات مصطنعة/متخيلة تميل نحو الانغلاق والتقوقع في بيئات متجانسة تحتضن القلق، وتحدّ من التوتر أو الخوف من سلبيات عالم غامض ومتسارع في نموه.

العقاب الإلهي

يقول المؤلف إن الطاعون قضى على نصف سكان أوروبا تقريبا، ويوضح أنه بسبب الطاعون الدبلي انقلبت اقتصادات أوروبا في ذلك الوقت على رأسها، فقد فاز العمال وخسر النبلاء، واختفت العبودية في معظم أوروبا الغربية، في حين استخدم النبلاء في أوروبا الشرقية البؤس والفوضى لإحكام قبضتهم وفرض العبودية للمرة الأولى. ويؤكد أنه فضلا عن هذه الآثار المادية فإن الطاعون قد دفع إلى ثورة فكرية أوروبية، لينبثق العلم والحداثة والنمو من الموت والرعب.

وفي هذا الصدد يعلق وليد نويهض قائلا إن الانتقال من عالم تقوده قوة مركزية واحدة تشد مختلف الأطراف نحو نقطة تجذب مختلف الجهات إلى فضاء ثقافتها، إلى عالم تتجاذبه مراكز قوى متنوعة ومتنافسة سيؤدي في البداية إلى اهتزازات وارتدادات في المرحلة الانتقالية قبل أن يستقر ويتموضع في مدارات جغرافية تعيد تشكيل صورة العالم في خريطة سياسة لا تتشابه مع تلك الخرائط التي ارتسمت معالمها بعد انتشار وباء الطاعون واكتشاف أميركا وانطلاق الثورة الصناعية الكبرى.

ويتصور نويهض أن العالم بعد 500 سنة من التطور التقني انتقل من مرحلة الميكانيك إلى مرحلة التكنولوجيا، مما يعني أن هناك نهضة ثقافية وسياسية واقتصادية ستبدأ معالمها بالظهور فور استقرار الفوضى الانتقالية وبدء السيطرة على وباء كورونا.

دور الأوبئة في الحروب

يستعرض الكاتب نماذج من استخدامات الجيوش للأوبئة للانتصار على خصومهم في الحروب، ويذكر أن أعدادا صغيرة من الجنود الأوروبيين تمكنت من قهر الملايين من الأميركيين اللاتينيين وبسرعة.

ويؤكد فريد زكريا أن الطاعون الدبلي بدأ في آسيا الوسطى في ثلاثينيات القرن الـ13، وانتشر في أوروبا في العقد التالي الأكثر تأثيرا، ويضيف الكاتب أن أحد مؤرخي القرون الوسطى اتهم المغول بإدخال المرض إلى القارة عن طريق إطلاق الجرذان الموبوءة إلى قلعة جنوى الإيطالية بالمنجنيق.

ويقول المؤلف إن المستكشف الإسباني هيمان كورتيس واجه إمبراطورية الآزتيك التي كان سكانها بالملايين، بـ600 جندي، ويقرر الكاتب أن ذلك حدث بفضل الوباء.

ويضيف -زكريا لاحقا- أن الإسبان لم يكتفوا بإحضار أسلحة متقدمة ومتفوقة، بل أحضروا أيضا أمراضا مثل الجدري الذي كانت لديهم مناعة تجاهه إلا أن السكان الأصليين لم تكن لديهم المناعة نفسها.

ويرصد الكاتب عدد الوفيات على مدى القرن الـ16، التي راح ضحيتها عشرات الملايين، ويلفت الانتباه إلى أن السكان الأصليين اعتقدوا أن الإسبان يعبدون إلها أقوى من آلهتهم، وهذا يفسر سبب خضوع كثيرين منهم للسيطرة الإسبانية واعتناق المسيحية، حسب تعبيره.

عالم ما بعد الجائحة

ويقول الكاتب إن العالم تعرض منذ نهاية الحرب الباردة (1955-1989) لـ3 صدمات، 11 أيلول/سبتمبر 2001، والانهيار المالي عام 2008، وجائحة كورونا في 2020، ولكن الكاتب لا يعطي أحكاما مباشرة عن طبيعة عالم ما بعد كورونا، السياسي والاجتماعي والثقافي.

في حين يقول وليد نويهض إن هناك احتمال حصول نهضة في المجال السياسي تتجاوز إطار حدود الدول وسيادتها، إلا أن مشهد ما بعد الدولة لا يعني بالضرورة نهاية ما قبلها. وسيؤدي هذا الاضطراب في المرحلة الانتقالية إلى نشوء ظواهر متضاربة في أشكالها وألوانها بين عالم يتقارب فضائيا وعالم يتباعد أرضيا، مما يرجح أن تنمو بعنف تلك الهويات الصغيرة (العصبيات) التي تعيش في عزلة عن هذه التحولات المتسارعة.

أما إبراهيم اليوسف فيرى -في حديثه للجزيرة نت- أنه لا بد من الاعتراف بأن الإمبراطور كوفيد التاسع عشر استطاع أن يقسم التاريخ إلى ما قبل كورونا وما بعده، إذ إن ظهوره، على امتداد سنة عجفاء، لم يكن أمرا عاديا البتة.

ويتابع اليوسف قائلا إن فيروس كورونا استطاع بخطر شبحه اللامرئي أن يخضع الكرة الأرضية كلها إلى سلطانه، بل إن المركبة في البحر، والطائرة في الفضاء لم تتخلصا من وعيده وتهديده وأخطاره!

وبدوره يؤكد الكاتب والروائي السوري جان دوست المقيم في ألمانيا -للجزيرة نت- أن العلاقات أصبحت محدودة ومقتصرة على حدود ضيقة من الأسرة والأصدقاء المقربين، قائلا "أتكلم بطبيعة الحال عن البيئة التي أعيش فيها أي أوربا وبالتحديد ألمانيا. العلاقات الاجتماعية أصلا كانت محصورة في نطاقات ضيقة، لكن هذه النطاقات ضاقت أكثر وسبّب نمط العلاقات الجديد ضغطا على الجميع".

ويعود المؤلف للحديث عن المخاطر الطبيعية والبيولوجية التي من الممكن أن تنال من الدول والجماعات دون النظر إلى حالة الغنى والفقر التي تعيشها تلك البلدان، إذ إن الفيروس لا يميز بين الأعراق والأديان فالكل متساوون أمام الجائحة.

ومن جهته يقول جان دوست إن هذا الوباء على الأقل محفز لإنتاج مزيد من أدب الأوبئة، فقد أضيفت إلى الرصيد العالمي كتب ونتاجات جديدة تبحث في هذا الموضوع.

وأضاف دوست أن السنوات المقبلة ستشهد مزيدا من تأليف الكتب التي تتعلق بهذه المرحلة الحالكة التي عاشتها البشرية.

ويبين وليد نويهض أن هناك نهضة سيشهدها العالم في مجال الثقافة، ويرجح أن تؤدي إلى كسر الصور الذهنية المتعارف عليها أو تلك المتصلة مباشرة بالعادات والأعراف، إلا أنها ستحتاج إلى وقت حتى تنجح في تجاوز التقاليد التي هي أكثر رسوخا وتمتلك المقدرة على إعادة إنتاج أشكالها المتناسبة مع الظروف المستجدة.

القطيعة التاريخية

يقول زكريا إن العمل عن بعد هو أداة رائعة، لكنه بديل غير مثالي من الاتصال البشري الفعلي. وليس بعيدا عن توصيف المؤلف فريد زكريا نجد أطروحة المفكر وليد نويهض أكثر تفصيلا ووضوحا حين يقول إن هناك ثورة تكنولوجية حدثت ونقلت الإنسان من عالمه الأرضي إلى مدار فضائي، وساعدت على التقارب بين البشر، وهي تحتاج إلى مدة زمنية حتى تسهم في رسم الطريق للتعارف بين البشر.

ويؤكد نويهض أن هناك فجوة زمنية بين لحظة التقارب الفضائي ولحظة التعارف الميداني. فالعالم الذي نشاهده يتسارع في التقارب لكنه يتعارض في التعارف.

ويشاطره الرأي الروائي السوري جان دوست -في تصريح للجزيرة نت- الذي يؤكد أنه سواء بوجود الفيروس أو عدمه فإن البشرية تتجه نحو نمط الحياة الرقمية، وأن الأمر يمضي بخطى متسارعة متناغمة مع إيقاع العصر الرقمي الذي يشبه صاروخا انطلق في الفضاء، ولا يمكن أن نتنبأ بما سيحدث غدا من ثورات في مجال الرقميات.

العزلة

بنى الكاتب هيكلا يساعد القراء على بدء التفكير في ما وراء الآثار المباشرة لجائحة كورونا، التي يؤكد المؤلف أنها ستصبح عنصرا أساسيا دائما في حياة البشر.

وعلى هذا النسق يذهب وليد نويهض إلى أن الانكسار (التباعد) قد حصل، لكن إعادة التجميع (التقارب) سيأخذ وقته حتى يصل إلى هدفه البعيد وهو التعارف بين البشر. فالأوبئة عادة ترسم الحدود بين محطات التطور، وهي تشبه الاكتشافات والاختراعات التي تنمو دائما للاستجابة لحاجات الناس، وتكون لها وظيفتها حين تبدأ بالتمدد والانتشار، إلا أن وتيرة التقدم تختلف بين مرحلة وأخرى وذلك بسبب اختلاف الحاجات والوظائف والمواقع والأدوار.

وتابع نويهض أن العالم يمر الآن في مرحلة العزلة التي تفصل بين مرحلتين، وهذه العزلة التي تتمثل في الانزواء المنزلي (الحجر الصحي) والتباعد الاجتماعي وكسر عادة الاحتكاك المباشر، ستؤدي لاحقا إلى تشكيل سلوكات اجتماعية لم تتوضح معالمها اليومية حتى الآن.

العالم الجديد

ويؤكد المؤلف أنه يمكن أن يكون لأي صدمة كبيرة أثار متنوعة، اعتمادا على حالة العالم وقتئذ، وعلى رد فعل البشر سواء كان خوفا، أو إنكارا، أو تكيّفا.

ويقول إننا نعيش الآن في عصر جديد، موضحا أن هذا الفيروس سيكون حدثا مفصليا في التاريخ الحديث، لحظة تغير مساره إلى الأبد.

ويستنتج إبراهيم اليوسف -في حديثه للجزيرة- قائلا إننا الآن أمام ما يشبه النبوءة، لكنّ وقائع كثيرة تؤكد أننا على مفترق حياتي كوني، ولا سيما بعد أن مررنا في منعطف ما خيّل إلى كثيرين منا، أن العالم انتهى.

ويضيف اليوسف أن ثمة من رأى أن الحياة فوق هذا الكوكب انتهت، ولربما ستأتي كائنات أخرى تعيش على أنقاض آثارنا، كما يمكن أن يتم تصوير ذلك ضمن سينما أو أدب الخيال العلمي -وقد وجدنا بعض ذلك- ولا سيما بعد تسويفات السياسي، ومقولة "العلم عاجز عن مواجهة هذا الكويئن/الشبحي".

في حين يرى فريد زكريا أن الوباء لن يعيد تشكيل التاريخ بقدر ما سيسرعه، ويبدو أن هذا السيناريو الأخير هو النتيجة الأكثر احتمالا كما يوضح المؤلف، مستشهدا بمقولة للينين قالها ذات مرة "هناك عقود لا يحدث فيها شيء، ثم تأتي أسابيع تمر مثل العقود".

المصدر : الجزيرة