في هذا اللقاء الخاص بالجزيرة نت، فتح الحبيب السالمي قلبه وتحدث بكل تلقائية وصراحة عن روايته الجديدة “الاشتياق إلى الجارة”، فضلا عن عدة قضايا أخرى تهم الترجمة والأدب والثقافة والراهن العربي المتحول.
لم يكن الشاعر التونسي أمين الغزي يتوقع وهو يكتب كلمات قصيدته "كلمتي حرة" سنوات قبل الثورة أنها ستغنى يوم 14 يناير/كانون الثاني 2011 في شارع الحبيب بورقيبة من قبل آلاف الحناجر الصادحة بالحرية والباحثة عن الكرامة والمغنية بتلقائية.
كما لم تتوقع صاحبة الأغنية الفنانة أمال المثلوثي وهي تردد أغنية "كلمتي حرة" صحبة آلاف المتظاهرين والمعتصمين في الشارع الرئيسي للعاصمة التونسية، أن تصبح هذه الكلمات الصادقة العفوية المدوية سببا في هروب الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي من تونس، وسببا في قيام الثورة التونسية، لتنتشر هذه الكلمات المعبرة، "أنا أحرار ما يخافوش، أنا أسرار ما يموتوش، أنا وسط الفوضى معنى، أنا صوت الـ ما رضخوش، أنا حق المظلومين، أنا حر وكلمتي حرة"، كالنار في الهشيم على منصات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام العالمية، وتتلقفها الجماهير العربية وترددها في الساحات تعبيرا عن شوقها للحرية. ولتصنف هذه الكلمات والأغنية عالميا بعد ذلك على أنها نشيد للثورات العربية.
وبالإضافة إلى كتابة الشعر الثوري بالعامية التونسية والفصحى، كان أمين الغزي المقيم بفرنسا حاليا والحاصل على الإجازة (البكالوريس) ثم التبريز (الماجستير ) في التاريخ من الجامعة التونسية، ناشطا ومساهما بارزا مع مجموعة من الشباب المثقف في قيام الثورة التونسية من خلال تنظيم المظاهرات وتأليب الشباب وتحريضحهم على التصدي لاستبداد وظلم وقمع النظام السابق.
وهو علاوة على ذلك هو مهتم بالسينما وأخرج فيلمين قصيرين من إنتاج الجامعة التونسية للسينمائيين الهواة، فضلا عن كتابته القصة التي أصدر فيها مجموعة قصصية بعنوان "ظل شيطان خلف صورتي"، واهتم بالرواية حيث أصدر سنة 2019 عن دار زينب للنشر روايته الأولى "زندالي.. ليلة 14 جانفي (يناير/كانون الثاني) 2011″، التي تحاول استلهام وإعادة كتابة ملحمة الثورة التونسية وبناء سرديتها والقيم التي انبنت عليها من حرية وكرامة ومطالبة بالشغل، وتحاول استحضار أسئلة الثورة التي ما زال الناس يطرحونها إلى اليوم، كل ذلك عبر موسيقى الزندالي وأوديسا شعبية وملحمة غنائية وقصصية ورقصة زوربوية مجنونة لسمفونية الثورة.
من خلال هذا اللقاء الخاص بالجزيرة نت، حاولنا أن نسترجع ونستحضر مع الشاعر والكاتب أمين الغزي لحظات الثورة التونسية في ذكراها العاشرة، وكواليسها وتفاصيلها وخفاياها السرية، وحاولنا أيضا أن نغوص في تفاصيل رواية "زندالي" التي تتحدث عن الثورة التونسية من خلال ليلة 14 يناير/كانون الثاني 2011، وبقية الأحداث. فضلا عن عدة قضايا أخرى ثورية وثقافية تكتشفونها تباعا. فإلى الحوار.
حين اندلعت أحداث سيدي بوزيد، تناقلت مع صديقات وأصدقاء فيديوهات وأخبارا عن مسيرات سلمية كان عليها أن تخرج من كل مكان من العاصمة التونسية، ومن الجهات من أمام مقرات اتحاد الشغل، وفي باريس أمام مقر السفارة التونسية. شاركت مع أصدقاء في جلسة سرية لتنظيم واحدة منها بعد أن أغلق النظام المدارس.
كنا أكثر إيمانا بأن نظام بن علي سيسقط. وكان الشباب أشبه بهيئة أركان خفية تتحرك في الأوقات نفسها تقريبا وفي كل الأماكن
أجد أعذارا اليوم لكل هؤلاء المتحذلقين الذين نسبوا الثورة لقوى خفية، ماسونية، أميركية، برمائية.. كنا فقط أكثر إيمانا بأن نظام بن علي سيسقط. كان الشباب وقتها أشبه بهيئة أركان خفية تتحرك في الأوقات نفسها تقريبا وفي كل الأماكن.
أذكر كيف كنا نتناقل بحماس حدث خروجنا مع التونسيات والتونسيين للمشاركة في الاحتجاج المنظم على ما يحدث وعلى استحالة تواصل نظام يخنق أنفاسنا منذ سنوات. الحواجز والأسوار العالية التي رفعها بن علي حول الكلمة، التنظم، التنقل، تهاوت سريعا. الحرية أخيرا، وبداية طريق نحو كرامة وعدالة.. لكن الكلفة كانت باهظة، شهداء، جرحى، مساجين، هجرة سرية، هجرة كفاءات، تفقير، عشرية باردة وجافة قبل 14 يناير، عشرية ساخنة وعاصفة بعد الثورة، منظومة حكم جديدة لا تعمل، حرية كلام دون جديد، فساد وتعطل تعاقد يجمع التونسيين. اليوم أنا أشد تشاؤما مما قبل.
مسرور طبعا بما حققته كلماتي والأغنية من صيت. سعيد خاصة لأن العالم أنصت أخيرا لكلام تونسي غير كلمتي "يعيشك" و"عسلامه". لقد أنصف التاريخ "كلمتي حرة" في انتظار أن ينصف صاحبات وأصحاب الكلمة الحرة والعقل الحر في العالم العربي.
اختار روائيون التانغو، الكونسيرتو، الفالس، أما أنا فقد اخترت الزندالي.
الزندالي التونسي هو، على عكس ما ذهب إليه البعض، ليس موسيقى المساجين -ولو أن الرواية تضمنت أغنية سجنية- إنما هو نوع من الموسيقى الشعبية الرجالية الراقصة أقرب إلى الربوخ، تسمى أيضا الشوارعي، وهي الاستعارة التي اخترتها في روايتي عن حدث ما بعد هروب الجنرال.
روايتي "زندالي" هي أوديسا شعبية، ووقوف عند بداية تشكّل مرحلة جديدة من الوعي.
فكرة الكتابة عن الثورة تظل شديدة الجاذبية خاصة في زمن وقوعها، لكن الأمر الأكثر صعوبة يتمثل في إعادة كتابتها عند ظهور قتلتها للدفاع عنها قبل دفنها. لم تكن روايتي تأبينا لثورة فشلت، أو استحضارا لروحها أكثر من كونها وقوفا عند بداية تشكّل مرحلة جديدة من الوعي، بعد خروج بن علي.
استقيت في روايتي العديد من التفاصيل من التقارير المنشورة ومن الشهادات الشفوية، كما اعتمدت على جمع عدة شخصيات عايشت الأحداث، كل واحدة بطريقة خاصة، وهذا ما جعل الرواية تأخذ ذلك المنحى التسجيلي، لكنها كانت كذلك تخييلية لأن كل تلك الشخصيات لا تمت إلى الأحداث الواقعية بصلة "كما يقال عادة"، حادث إطلاق النار في اللوحة الأخيرة من الرواية لم يحدث إطلاقا، بينما حدث إطلاق النار الثاني مثلا مستوحى من واقعة حقيقية وردت في واحدة من التقارير التي اطلعت عليها. كانت لدي أيضا رغبة حقيقية في أن لا أقتل أي شخصية من شخصيات الرواية، وقد كان ذلك أمرا غير واقعي بالمرة في تلك الأيام.
هي فعلا أوديسا شعبية. قد لا تجد الرواية مكانا بين ملحمة أوديسة هوميروس (الشاعر الأسطوري الإغريقي) والكاتب الأيرلندي أوليس جويس، لكن بينلوب (زوجة أوديسيوس الوفية في الملحمة) ما زالت تنتظر زوجها، مستعدة هي بدورها لإطلاق النار من أجله أو من أجل نفسها. بلوم في أوليس جويس يتحول إلى علي الدو.. إلى علي الدوعاجي بلا قلم ويشعر في النهاية بأنه يعيش فصلا من فصول في انتظار غودو (مسرحية الأيرلندي صمويل بيكيت).
شخصيات الرواية هم مجموعة من البسطاء، من البكم "كنية أحدهم البكما" وجدوا أنفسهم داخل فضاء عام لم يشاركوا ولو مرة في تنظيمه أو في الدفاع عنه. هم "أبطال مضادون" يحاولون كل بطريقته التعايش مع أحداث تؤكد أن وحدة الشعوب وتوحد الصفوف ليست سوى جمل إنشائية.
لغة الرواية هي العربية، وتأتي الحوارات أحيانا باللهجة التونسية تعبيرا عن منطوق الشخصيات في تلك اللحظة والحدث الواقعي الذي يفرض نفسه. وقد تكون هذه اللغة الصريحة والصادمة أحيانا أقل بذاءة من الاستبداد والقمع والهيمنة التي يريد الطغاة بسطها على الأدمغة، والأجساد والأماني.
حرية التعبير أصبحت نوعا من المجازفة مع تصاعد أصوات كل الشعبويين، ونحتاجها لنعبر عن غضبنا وسخريتنا ويأسنا
نحتاج حرية التعبير لنعبر عن غضبنا حين يسيئنا أمر، لنسخر أو نضحك حين نكتشف نسبية الأفكار والمواقف وحدود الجهد الإنساني. نحتاج أن نعبّر بحرية عن شعورنا بالحب، بالرغبة، بالألم أو بالإحباط.
هي ملكة إنسانية، حق من الحقوق الطبيعية لأي إنسان كان، وليست ملكا لسلطة ما، وليست حكرا على المثقفين والكتاب. نشعر اليوم بأن حرية التعبير أصبحت نوعا من المجازفة مع تصاعد أصوات كل الشعبويين. وجب فقط التذكير بأن ملايين الأصوات كانت قبل الآن مغيبة، ولم يكن أحد يعرف فعليا كيف تتفاعل هذه الأصوات قبل أو حين تتحوّل إلى حشود.
ما أنتجه التونسيون في أولى سنوات الثورة على منصات التواصل الاجتماعي جدير حقا بأن تشتغل عليه وحدات بحث علمي متعددة الاختصاصات. لقد شاركنا جميعا كل حسب طاقته، وكل حسب إمكانياته، في ملحمة لم تخف منذ يومها الأول بعدها التراجيدي الكوميدي، ومحدودية فعلنا الثوري فيه أمام اليم الذي غمرنا وأمام الزندالي الذي أخرج أسوأ ما فينا في الفضاء العام الذي صار أشبه بحانة بلا سقف.
أستمتع كل يوم بعشرات الأصوات الشعرية والأعمال الموسيقية البديلة والقادمة من كل مكان في العالم العربي، وهذا دليل على أن الساحة الثقافية قادرة على إضافة العديد من التجارب المختلفة حتما عن تجارب السابقين، والذين لحسن حظنا لم يتحولوا قط إلى كهنة في معبد الفن الملتزم.
أعتقد في راهنية ثورة عربية شاملة. إذا كان لا بد من واحدة بعد وقت، فلتكن أولا من أجل مواطنة، تعليم وشغل متاح للجميع دون ميز وحيف. بذلك يمكن تعبيد طريق أسلم من أجل الحرية والكرامة والعزة.
نعم، نحن في لحظة مختلفة لكنها ليست فارقة. لحظة دون قطيعة إبستيمية (نظرية المعرفة) مع السابق، زائد ما يحدث على المستوى الكوني من عولمة للمعلومات في إطار رأسمالي احتكاري، الأمر الذي زاد من إضعاف مكانة العالم الاجتماعية وتراجع سلطته الرمزية في عالم أصبح يشبه أرخبيلا بجزر متشابهة ومتباعدة. السؤال عن دور المثقف اليوم يجب كذلك أن يطرح على السياسي وعلى صاحب المؤسسة: أي واقع وأي مستقبل نريد؟