ذكرى رحيل العلامة عبد الوهاب عزام.. الأديب الذي قدّم عوالم الفارسية والتركية والأردية للعرب

صورة للأديب المصري الراحل عبد الوهاب عزام
قدّم الأديب والمترجم الراحل عبد الوهاب عزام شعراء من شتى أنحاء العالم الإسلامي لقراء العربية (مواقع التواصل الاجتماعي)

في مطلع يناير/كانون الثاني من كل عام تحلّ ذكرى وفاة المفكر والأديب والشاعر والمترجم والسياسي عبد الوهاب عزام، الذي رحل في بداية عام 1959 بعد حياة حافلة ومليئة بالأوليات، فهو أول دفعته بمدرسة القضاء الشرعي، وأول مصري يدّرس اللغات الشرقية بجامعة عربية، وأول مدير لأول جامعة سعودية، بالإضافة لأوليات أخرى عديدة، وقال عنه الملك السعودي الراحل فهد بن عبد العزيز "إن خسارتنا بفقد العلامة عبد الوهاب عزام مدير جامعتنا الأول لأفدح من مصاب آل عزام فيه، وخسارتنا أفدح من خسارة وطنه مصر".

جمع عبد الوهاب عزام ثقافات العالم الناطق بالإنجليزية والفرنسية، إلى جانب عوالم الفارسية والتركية والهندية والأردية، فضلا عن تضلعه بالثقافة العربية التي قدم لقرائها عشرات المفكرين والشعراء والكتاب من العالم الإسلامي على رأسهم أسد الله غالب وشاعر شبه القارة الهندية محمد إقبال ومحمد أسد ومحمد عاكف أرصوي وغيرهم.

ابن القرية والكتاب

ولد عبد الوهاب محمد حسن سالم عزام يوم 28 أغسطس/آب 1894 الموافق 26 محرم 1312هـ بقرية "الشوبك الغربي" التابعة لمركز العياط بمحافظة الجيزة، وهو واحد من فروع عائلة عزام العريقة ذات التاريخ الكبير في الفكر والسياسة والوطنية والعلم والأدب والدين والوجاهة الاجتماعية.

أنجب والده 3 أبناء وبنات من زوجته السيدة شفيقة سعودي، وعقب وفاتها تزوج بشقيقتها زبيدة فأنجب منها 10 أبناء وبنات بينهم عبد الوهاب.

وكان والده الشيخ محمد حسن بك عزام عضوًا بمجلس شورى القوانين والجمعية التشريعية المصرية، ثم كان عضوًا منتخبا بأول مجلس نيابي مصري بعد دستور عام 1923، كما كان عمه عبد الرحمن باشا عزام وزيرًا للأوقاف، ثم وزيرا للشؤون الاجتماعية، ثم اختير أول رئيس لجامعة الدول العربية عام 1945، كما كان جده سالم بك عزام ناظرًا للجيزة، بل داعمًا كبيرا للثورة العرابية حتى انتهى به الحال إلى نفيه إلى السودان، حيث توفي ودفن بمدينة الخرطوم، وكان جده هذا عضوا بمجلس شورى القوانين، أول المجالس التشريعية المصرية.

التحق عبد الوهاب عزام بالكُتّاب، فحفظ القرآن الكريم، والتحق بعد ذلك بمدرسة الشوبك التي أنشأها والده، ثم انتقل منها ليدرس بالأزهر الشريف -على غير عادة أبناء الأثرياء- حيث كان والده حريصًا على تنشئته تنشئة إسلامية أصيلة، ثم التحق بعد ذلك بمدرسة القضاء الشرعي حيث تخرج عام 1920 مع رفاق دربه أحمد أمين وأمين الخولي، وكان الفرسان الثلاثة أوائل الخريجين، وكان ترتيبه بينهم الأول، وعين مدرسًا بها، وفي عام 1923 حصل عزام على ليسانس الآداب من الجامعة، فتم اختياره إماما ومستشارًا للشؤون الدينية بالسفارة المصرية بلندن.

ترحال وحياة حافلة

انخرط عزام منذ بواكيره في حومة الوعي الرشيد للإصلاح والدعوة، فأسس وهو طالب بالجامعة "جمعية الأخوة الإسلامية"، وكان مقرها بمسجد السلطان الغوري بقلب القاهرة، وكانت هذه الجمعية تضم الطلاب والعلماء من الأتراك والباكستانيين والإيرانيين الدارسين والمقيمين بمصر والخارج، وقد عنيت هذه الجمعية عناية علمية واعية بضرورة التقريب بين المذاهب الإسلامية، ومحاولة جمع الأمة على البر والتقوى، وتخفيف حدة الصراع المذهبي بين فرقها ومذاهبها المختلفة.

وفي المملكة المتحدة هاله ما يكتبه المستشرقون عن الإسلام والمسلمين، فقرر أن يتبحر في الدراسات الشرقية والإسلامية، فالتحق بمدرسة اللغات الشرقية بلندن، وحصل منها على الماجستير في الأدب الفارسي في عام 1927، وكان موضوعه "التصوف عند فريد الدين العطار"، عاد عزام من لندن ليعمل مدرسًا بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وحصل على الدكتوراه عن شاهنامة الفردوسي عام 1932، وكان يوم مناقشته "يومًا مشهودا من أيام الجامعة وعيدًا من أعيادها"، على حد تعبير الدكتور طه حسين، عميد الأدب العربي، ليأخذ بعد ذلك سلم الترقي الجامعي حتى صار أستاذا عام 1939، ثم أصبح رئيسًا لقسم اللغة العربية واللغات الشرقية، ثم عميدًا لكلية الآداب عام 1945.

وبعد أن وصل عزام إلى ذروة عمله الجامعي، بدأ مشوارا جديدًا في حياته السياسية حيث تم تعيينه عام 1947 سفيرًا لمصر بالمملكة العربية السعودية بدرجة وزير مفوض، ثم سفيرًا في باكستان عام 1950، ثم سفيرًا مرة أخرى بالسعودية واليمن حتى عام 1954، ومد له الرئيس جمال عبد الناصر فترة خدمته عامين ليتقاعد عام 1956.

نادته المملكة العربية السعودية من جديد، حيث رشحته المملكة ليؤسس وليترأس أول جامعة بها: جامعة الملك سعود (الرياض سابقا)، ليظل مديرًا لها حتى توفي يوم 18 يناير/كانون الثاني 1959.

وخلال هذا المشوار العلمي الدبلوماسي المتميز، اختير ليقوم بالتدريس بجامعة بغداد مرتين، كما اختير عضوًا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة عام 1946 والمجمع العلمي بدمشق وبغداد وإيران، التي حصل منها عام 1935 على النيشان العلمي، بالإضافة لوسام الأرز الوطني من الحكومة اللبنانية عام 1947.

شارك مع مجموعة من أعلام الفكر والأدب في تأسيس أول لجنة للتأليف والترجمة والنشر، ظلت تثري الحياة الثقافية حوالي 40 عاما، وكان من أعلامها محمد فريد أبو حديد، وأحمد عبد السلام الكرداني، ومحمد عوض محمد، وأحمد أمين، وأمين الخولي، وغيرهم.

أوليات حضارية

ورغم استيعابه وجمعه للثقافتين الشرقية والغربية، وإجادته اللغات الفرنسية والإنجليزية والتركية والأردية والفارسية، وإلمامه بالإيطالية والألمانية، فقد كان منحازا لتراثه العربي وكتب "قل للذين يلتفتون عن المشرق، ليولوا وجوههم شطر المغرب، إنما تعرضون عن أنفسكم وتاريخكم، ابدؤوا بأنفسكم فاعرفوها، وبمآثركم فعظّموها، ثم اعرفوا لغيركم أقدارهم، ولا تبخسوا الناس أشياءهم".

ويقول في بعض كلماته "لجليس الدعة وحبيس الصومعة، فجّر الماء من الحجر، وأنبت الزرع والشجر".. ثم يهتف به شاعرًا:

أيها العابد المسّبح سبـح   في جهاد الحياة في الآفـاق

مثل ما سبّح الأوائل منا  ووميض السيوف في الأعناق

وكل شعر عزام يمتاز بفصاحة الإيجاز ولباقة التركيز وعمق الفلسفة وروح الإيمان، فترى فكرته تتحدر بين يديك كحبات المسبحة، وتسري إلى أوصالك كشربة الماء الزلال، ومن ذلك قوله:

قد تساوينا جميعا حين قمنا للصلاة

وركعنا وسجدنا فاستوت منا الجباه

إننا نحن سواء عمنا شرع الإله

جمعتنا واجبات وحقوق في الحياه

غير أنا في فنون العيش ما فينا اشتباه

من ذكي وغبي، وأخي جد ولاه

قدم عزّام لثقافتنا العربية محمد عاكف "شاعر الصفحات" التركي الكبير، كما قدم أسد الله غالب شاعر البنجاب المفكر، كما كان سفيرًا روحيا وفكريا لإقبال العظيم.. حتى إنه حمل معه عند زيارته لقبر إقبال عام 1947 قطعة من الرخام، نقش عليها 4 أبيات وثبتها على قبره، وهي:

عربي يهدي لروحك زهرا    ذا فخار بروضة واعتزاز

كلمات تضمنت كل معنى     من ديار الإسلام في إيجاز

بلسان القرآن خطت ففيها     نفخات التنزيل والإعجاز

فاقبلنها على ضآلة قدري    فهي في الجد "أرمغان" الحجاز

وكان ذلك قبل قيام دولة باكستان بأربعة أشهر.

وكان عزام -كما أسلفنا- قد التقى بإقبال لقاءه الوحيد وهو على قيد الحياة، حيث مر إقبال بالقاهرة في الأول من ديسمبر/كانون الثاني 1931 في طريقه إلى المؤتمر الإسلامي ببيت المقدس، فقدمه ولخص محاضرته التي ألقاها بالإنجليزية في دار الشبان المسلمين بالقاهرة، وعلق عليها للحضور الأعلام..

بين إقبال وعزام

وكان عزام أول من قدم للعرب محمد عاكف بك آرصوي شاعر نشيد الاستقلال التركي وصاحب ديوان الصفحات، وفتح له أبواب الجامعة لتدريس الأدب التركي. وبصحبة عاكف بك، استغرق عزام في الحدائق الإقبالية فترجم ديوان "بيام مشرق" أو "ديوان الشرق"، كأول ترجمة منه لديوان كامل من شعر إقبال، وكان الشاعر العظيم إقبال قد كتب هذا الديوان ردًا على "الديوان الغربي" للشاعر الفيلسوف الألماني غوتة.. فكان ديوان إقبال صوتًا هادرًا بالإسلام روحًا وعقيدة وأخلاقًا وسلوكا..

كما ترجم عزام لإقبال ديوان "ضرب الكليم" ونشره في كراتشي عام 1950 حين كان سفيرًا لمصر في باكستان.

ثم جمع عزام ترجمته لديواني إقبال "أسرار إثبات الذات" و"رموز نفي الذات" في ديوان ضخم هو "الأسرار والرموز"، الذي يجمع فلسفة إقبال ورؤيته للكون والإنسان والحياة، وقد استغرقت هذه الترجمة من عزام قرابة الأربعة أعوام.. وكأنما كان عزام في شغفه وولعه بإقبال قد أشرب روحه، وتملى فلسفته، ونطق بلسانه، وأشرق بومضات عقله الكبير.. وكأنما كان يناجيه:

يا سحابا لاح فيه برقه  كرجاء شق في اليأس ظلاما

إن تكن دمعا فقد جئت أسى  أو تكن ماء فقد جئت أواما

يقول عزام "ولقد راجعت الترجمة في الحضر والسفر.. في باكستان والحجاز واليمن ومصر، وعلى السفن وفي البحار، ولولا صحة العزم وعظيم الرغبة ما تيسرت ترجمة هذا الديوان المقيم، ولحال اليأس والعجز دون إتمامه".

عزام في عيون الأعلام

ولعل الخصلة الكبرى والميزة العليا والشميلة الحسنى في العلامة الدكتور عبد الوهاب عزام هي تواضعه الجم، وخلقه الرفيع وهدوؤه المكين.. إلى الحد الذي يقول فيه الدكتور زكي مبارك عن عزام "إن صحبتي لهذا الصديق قد اتصلت بالفكر والروح أكثر من 20 سنة، وما أذكر قط أنني أحصيت عليه هفوة واحدة من هفوات الفكر والروح.. فقد عاش الرجل حياته فطريًا سمحًا لا زخرف لديه ولا تنميق.. كل ذلك وهو في القمة من سنام العلم والرفعة والمنصب والجاه والشرف".

وقال عنه الدكتور طه حسين "لم يكن عبد الوهاب عزام يكتفي بأن يكون مصريا عربيا، وإنما كان يريد -وقد حقق ما يريد- أن يكون عربيا إسلاميا، فأتقن العلم بأمور المسلمين جميعًا، قريبهم وبعيدهم، وسار سيرة المسلم الصادق في إسلامه. والمتصوف المخلص في تصوفه".

كما قال عنه أحد أبرز تلامذته الدكتور زكي المحاسني "ما كنت أحسب كاتبًا على ضفاف النيل، تمثلت حياته خصائص العروبة والإسلام وطوالعها كما تمثلت في حياة عزام وفي جهاده، وكما تجلت في سلوكه وثقافته، وفي رحلاته الإسلامية، التي كانت وراء سعيه وتقواه".

وتحضرنا هذه الأبيات للشاعر اليمني الكبير عبد الله البردوني، حين زار عزام اليمن فقال البردوني:

إيه عزام أنت وعي من النيل    إلى العرب تستثير المشاعر

وسفير تشيد الوحدة الشما       وتستنهض السنا في المصائر

إن للعرب غابرا داس كسرى  وتمشي على رؤوس القياصر

فاستمدي يا أمتي من سنا الما  ضي معاليك، وأعمري كل حاضر

يا سفير التضامن الحر غنت  سعيك الحر أمنياتي الشواعر

فتلقى يا شاعر النيل شعري  فهو شعر عنوانه: روح شاعر

وكما كان عزام صورة مشرفة لأمته طولا وعرضا.. كذلك كان صوتًا صادقا أمينا في رحلاته العلمية المعمقة في ثنايا تراثها الضخم، وبوابة حضارية مفتوحة على كافة العصور والعهود.. خاصة في العهود التي ظن البعض أن زيت الحضارة فيها قد نضب، وأن صوت الفكر والأدب فيها قد خفت، وأن حركة التجديد والاجتهاد قد تعطلت.. كالعهد المملوكي في مصر.. فأحيا عزام بإحيائه "مجالس السلطان الغوري العلمية" صفحات خالدة من هذا العهد من قرنه العاشر الهجري.. أما العهود الحية القوية فقد صال فيها وجال بروح الفارس وأدب المربي وتريبة السالك المريد..

وفيه قال العقاد "عالم سياسي إلا أنه مثال للصوفية والمتطهرين"، وقال تلميذه الأنجب الدكتور يحيى الخشاب "هذا رجل ألمّ بثقافات الإنجليز والفرنسيين والهنود والترك والفرس والأرد والعرب، وأشهد أني ما رأيت عالمًا فيه السماحة والتواضع وإجلال العلم كما رأيته، وأشهد أني ما جلست بمجلس علماء فيه الأستاذ إلا وكان أميلهم إلى الصمت، وأحرصهم على السمع، وأقلهم شوقًا إلى الكلام، ومع ذلك كان الذي ترنو إليه الأنظار، وتوجه إليه الأسئلة، وكان كلامه هو المرتجى، وحديثه هو المنشود".

وفي بعض أبياته عن عزام يقول وكأنه يعزي نفسه قبل رحيله:

قال لي صاحبي أراك غريبًا  بين هذي الآنام دون خليل

قلت: كلا بل الأنام غريب  أنا في عالمي وهذي سبيلي

المصدر : الجزيرة