حديقة ضباب المساء.. أدب ماليزي عالمي يخطف الأنفاس

غلاف الرواية الماليزية The Garden of Evening Mists
رواية "حديقة ضباب المساء" نشرت للمرة الأولى مطلع عام 2012، وتجري أحداثها في مرتفعات كاميرون الخضراء في ماليزيا (الجزيرة)

في عام 2012 صدرت ثاني روايات الكاتب الماليزي الشاب "تان توان إنغ"، بعنوان "حديقة ضباب المساء"، ونال عنها "جائزة مان آسيان الأدبية" (Man Asian Literary Prize)، ليكون أول ماليزي يفوز بالجائزة التي كانت ترعاها "مان بوكر" الإنجليزية.

ولاقت الرواية انتشارا هائلا في السنوات التالية لصدورها، وصدر مطلع العام الجاري فيلم درامي ماليزي باللغة الإنجليزية يجسد الأحداث التي وقعت في البلاد خلال أوقات مضطربة من القرن المنصرم.

وتجري أحداث الرواية في مرتفعات كاميرون الشهيرة بمزارع الشاي الخضراء، على حواف غابة ضمت العديد من الأسرار، وتدور أحداثها خلال 3 فترات زمنية مختلفة هي أواخر الثمانينيات، عندما ذهبت الشخصية الرئيسة إلى الحديقة اليابانية لتنال تدريبا مهنيا في العناية بالحدائق، وتبدأ في كتابة مذكراتها، وحقبة الاستقلال عندما وقعت الأحداث الرئيسة للرواية، وزمن الحرب العالمية الثانية الذي يمثل خلفية القصة.

تصنف الرواية كواحدة من روائع أدب الخيال التاريخي وروايات الصراعات السياسية الحديثة، وتطوف بين الثنائيات في محاولة للتعايش بين التناقضات التي تشمل التذكر والنسيان، السلام والحرب، الفن والعنف، الحب والكره وغيرها، وتبدو الرواية في واحدة من وجوهها كقصة حب تتضمن الكثير من المعلومات التاريخية حول ماليزيا.

النجاة من الجحيم

بطلة الرواية وراويتها الرئيسة "يون لينغ" هي ابنة عائلة ماليزية صينية مرموقة، وكانت الناجية الوحيدة من معسكر اعتقال للقوات اليابانية الغازية في ماليزيا زمن الحرب العالمية الثانية، لتصبح أيضا قاضية جرائم حرب متقاعدة تحمل على جسدها آثار التعذيب، فيما تئن ذاكرتها لفقدان أختها في معسكر اعتقال لم يعد له مكان.

حوّلتها تجربتها في الاعتقال والتعذيب وفقدان أختها إلى شخصية صارمة تجاه مجرمي الحرب، وصارت ناقمة على كل ما هو ياباني، وسعت لتخليد ذكرى أختها ببناء حديقة جميلة. وتؤكد الرواية باستمرار على أهمية الاحتفاظ بالذاكرة والتصالح معها، وإن كان ذلك بطرق غير تقليدية.

لعدة عقود عملت القاضية يون لينغ في محاكمة نفس مجرمي الحرب اليابانيين الذين احتجزوها هي وشقيقتها "يون هونغ" كرهائن في سجن بأعماق الغابات الماليزية. لقد سلبتها المعاناة التي لا توصف أثناء اعتقالها أختها وهويتها ومستقبلها.

وبعد سنوات من الانتقام القانوني دون التمكن من إخضاع وحش العار والغضب الذي يستهلك الحياة، تعود يون لينغ إلى "يوجيري" أو حديقة ضباب المساء، حيث تعاليم "أريتومو"، البستاني الشهير للإمبراطور الياباني الذي هجر الحدائق الإمبراطورية ليصنع جنة خضراء في بلاد المالايو، حيث تكون تلميذته التي يعلمها فنونه هي نفسها ضحية جرائم جيش بلاده.

ينفد الوقت فيما يضطر عقل يون لينغ المضطرب إلى نسج مسارات متناثرة من الخرائط القديمة، في رحلات ذهنية ستأخذها إلى أراضي الأساطير الإسكندنافية، وداخل الكهوف التي توفر مأوى لأعشاش الطيور، والمعابد الصينية، وتجربة صعود التلال الخضراء، وفنون البستنة اليابانية والوشم والرماية، من أجل تحقيق التناسق والتعايش بين الذاكرة والنسيان، والحقيقة والخداع، والشعور بالذنب والألم واللامبالاة.

وفي حين أن القصة الرئيسة تدور أحداثها في ماليزيا، ينسج الروائي تان توين إنغ أيضا روايته حول حقائق عن الأنظمة الاستعمارية المختلفة، بما في ذلك نضال سكان البوير في جنوب أفريقيا ضد البريطانيين مطلع القرن الـ20.

ومع ذلك تمتلئ الرواية بالتأمل والهدوء، كما لو كان القارئ يسير في الحديقة اليابانية الجميلة بعناصرها الطاوية والبوذية والشنتوية، ويتنقل الكاتب ببراعة بين عناصر السكينة والسلام ومشاهد الحرب والعنف التي تظهر في خلفية الذاكرة والأحداث.

الذكريات المؤرقة

تتساءل الرواية ما هو الإنسان بدون ذكريات؟ وتجيب بأنه شبح محاصر بين عوالم، بلا هوية، بلا مستقبل ولا ماض. تبدو الذاكرة في الرواية مثل بقع من ضوء الشمس في واد ملبد بالغيوم، تتغير مع حركة السحب، وبين الحين والآخر يسقط الضوء على نقطة زمنية معينة، ويضيئها للحظة قبل أن تسد الغيوم الفجوة، ويعود العالم إلى الظل مرة أخرى.

وتبدو رمزيات الرواية الموغلة في الثقافة والأدغال الآسيوية، متعددة المستويات ويمكن تفسيرها بعدة طرق تماما مثل الحديقة اليابانية، لكنها مرسومة بالكلمات ويكتنفها الجمال والغموض والخداع، في سرد غير متسلسل ويمزج بين خيوط الزمن ويضم الحقيقة إلى الخيال التاريخي والغموض الإثاري.

وعبر سرد القصص وتفاعل الشخصيات التي تشتبك مع آلام الحرب، تتراجع العزاءات وتغيب السلوى في حقبة ما بعد الحرب التي كانت عنيفة أيضا، وتتقاطع فيها مصائر المالايويين، والصينيين واليابانيين في الرواية حيث نال كل منهم نصيبه من الخسارة والألم والأسى، مما قد يقرب بينهم بشكل أو بآخر بعيدا عن المحاكم وساحات التقاضي، وقريبا من الفن وأحضان الطبيعة.

الكاتب الماليزي تان توان إنغ ولد ونشأ في كوالالمبور وكان أول ماليزي يفوز بجائزة والتر سكوت للرواية التاريخية (رويترز)

شقيقة يون لينغ

أثناء الاحتلال الياباني لبلاد المالايو، أُجبرت يون هونغ -شقيقة بطلة الرواية- على أن تصبح "امرأة متعة" للجنود اليابانيين قبل أن تموت في أحداث فوضى الحرب، وبعد الحرب تريد يون لينغ الوفاء بوعدها لأختها، ببناء حديقة يابانية في منزلهم في كوالالمبور.

لكنها بدلا من ذلك، تسافر إلى مرتفعات كاميرون الخضراء لزيارة صديق العائلة القديم، وهو مغترب جنوب أفريقي ومزارع شاي شارك في حرب البوير في جنوب أفريقيا وفقد فيها إحدى عينيه، وتقع مزرعته على حدود حديقة البستاني الياباني الذي كان معروفا وكان الكثيرون يرغبون في رؤية حديقته لكنه فضل أن تظل ملاذا خاصا، وأقنع البستاني يون لينغ أن تصبح تلميذته لتبني بنفسها حديقة تكرم ذكرى أختها.

على الرغم من موقفها المرير تجاه اليابانيين، وافقت يون لينغ على تلقي التدريب المهني، وفي النهاية، أصبحت هي وأريتومو عاشقين.

وخلال محادثة ليون لينغ مع مؤرخ ياباني انتُقد في بلده بشدة لمحاولته إلقاء الضوء على جرائم الحرب التي قامت بها قوات بلاده، وأثناء عودتها إلى الحديقة اليابانية بعد سنوات، تبين أن البستاني الياباني شارك في برنامج سري أثناء الحرب لإخفاء الكنوز المنهوبة من الأراضي المحتلة لصالح الإمبراطورية، وانتشرت شائعات ما يسمى ببرنامج "الزنبق الذهبي" على نطاق واسع، وقتل المزارع الجنوب أفريقي وهو يحاول إنقاذ عائلته من رجال العصابات الشيوعيين الذين أتوا بحثا عن الكنز.

وكانت رواية الكاتب الماليزي الأولى "هدية المطر" تدور حول حقبة الحرب والغزو الياباني لماليزيا كذلك، وترجمت الرواية للغات الرومانية والإسبانية والإيطالية والتشيكية والصربية والفرنسية والروسية وغيرها.

ويكتب الأدب الماليزي بواحدة من 4 لغات رئيسة في البلاد هي المالايو، والإنجليزية، والصينية، والتاميل، ويصور جوانب مختلفة من الحياة الماليزية وتاريخها. وازدهر التقليد الشفهي قديما بين المالايو، وشمل الفلكلور والأساطير والحكايات الشعبية والملاحم والأشعار، فيما انتعشت الرواية والقصة القصيرة المكتوبة في البلاد مع موجة التحديث التي طالت جوانب الحياة المختلفة في البلاد.

وخلال حقبة الاحتلال الياباني (منذ نهاية 1941 حتى نهاية الحرب العالمية الثانية 1945)، وضعت البلاد تحت إدارة عسكرية للجيش الإمبراطوري الياباني، وكان الأدب مدفوعا بشكل أساسي لخدمة المصالح الإمبراطورية، ولم يُكتب الكثير من الأعمال الروائية أو القصصية خلال هذه الفترة، ولم يبقَ كذلك سوى القليل من أدب الثلاثينيات المالاوي مثل أعمال إسحاق حاج محمد وعبد الرحيم كاجاي.

المصدر : الجزيرة