الأدب والشخصية التونسية.. إبداع مغاربي ينافس المشرق العربي

كتاب سرديات تونسية
الناقد الأكاديمي التونسي محمد البدوي ينتصر في كتابه "سرديات تونسية" للأدب الوطني معتبرا أنه لم يحظَ بالإنصاف (الجزيرة)

مازالت المدرسة التونسية والمغربية في النقد الأدبي تمثل علامات فارقة في المستوى الأكاديمي غير أن قليلا من الأكاديميين انخرطوا في ما يسميه الناقد الأكاديمي محمد صالح بن عمر بالنقد في مقابل البحث الجامعي الواصف.

ومن ضمن هؤلاء الأكاديميين الذين اقتربوا من المشهد الأدبي، الناقد الشاعر التونسي محمد البدوي الذي سبق له أن نشر كتبا متنوعة منها "أوهام العقاد والعبقرية" و"المنهجية في البحوث والدراسات الأدبية" و"علي الفزاني.. ظمأ الشاعر إلى الحياة" و"الهادي نعمان.. شاعر الأمل والألم" وأيضا "خصائص أدب الأطفال" و"مصادر أدب الأطفال".. وآخر ما صدر له عن دار ابن عربي للنشر "سرديات تونسية" الذي تناول فيه عددا من الأعمال القصصية والروائية التونسية بالنقد والمراجعة.

الأدب والشخصية التونسية

ينطلق الناقد من فكرة الانتصار للإبداع التونسي ضمن مشروع الكاتب النقدي ومواصلة للأطروحات التي أشرف عليها بالجامعة أو البرامج التي قدمها في الإذاعة. ويعتبر أن هذا الانتصار يدخل ضمن إعادة الاعتبار لنصوص تونسية متميزة لم تلقَ حظها من النقد ولا من الانتشار عربيا نتيجة "لما يعيشه النشر والتوزيع في تونس من أزمة حصار".

ويرجح أيضا أن هذا الاهتمام يدخل ضمن ذلك الامتداد "لحركة أدبية سعت دوما إلى منافسة هيمنة المشرق على المغرب منذ عهود طويلة حين كانت بغداد وحواضر العراق تهيمن على باقي الأقاليم بما فيها أفريقية والأندلس".

غير أن المؤلف يستدرك ليكتب أن "هذه الحركة لا تعبر عن نزعة شوفينية وإقليمية مقيتة، ولا تهدف إلى إلغاء الآخر، وإنما تريد أن تنافسه لتعضده حتى يصبح المشهد الأدبي كاملا يمتد من الماء إلى الماء وقد يتجاوز حدود الجغرافيا ليصل إلى كل مكان يقول فيه الحرف العربي: إني هنا.. معكم".

ويرى الناقد أن من وظيفة النقد ونقد النقد أن يبحثا في الخصائص التي تميز هذا السرد في تونس أو في بلدان مغاربية أخرى لكي تكتمل صورة الأدب العربي وخصائصه مع ما ترسخ من صورة عن الأدب المشرقي.

ويرجع الأستاذ محمد البدوي أصل الأزمة في ظهور تلك الخصوصية ووصولها إلى القارئ العربي للإعلام والنشر ويعتبر النقد العابر للجغرافيا والمؤلفات النقدية ربما من شأنها أن تساهم في فك الحصار عن ذلك الأدب.

النقد البراغماتي

إن حرص المؤلف على تبسيط المقاربات النقدية التي تناولت المدونة القصصية والروائية التي اشتغل عليها جعله يتخفف من النظريات النقدية المعقدة والإحالات الكثيرة التي يتوسل بها الباحثون الذين يسقطون أحيانا في إرهاق النصوص والانحراف بها نحو تأكيد النظرية عوض أن تكون تلك النظريات مساعدة لفهم النصوص نفسها.

لذلك يقول محمد البدوي "سيلاحظ القارئ أن هذه الدراسات لم تحرص على التبرج النقدي، ولم تحفل بتكثيف المصطلحات وما يقابلها بلغة العجم، ولم تتزين بمقولات (جيرار) جينيت و(تزفيتان) تودوروف ومن لفّ لفهما، بل كان التعامل المباشر مع النص بعد التمرس بقراءة النصوص على ضوء المناهج الحديثة طيلة سنوات طويلة".

والحق أن هذا ما ذهب إليه عدد من النقاد التونسيين في مقاربة النصوص وعلى رأسهم الناقد الراحل الأستاذ توفيق بكار الذي كان أول من أدخل المناهج النقدية الغربية إلى الجامعة التونسية وأول من تحرر منها.

المدونة المتنوعة عابرة للأجيال

يلاحظ القارئ بسهولة ومنذ الغلاف ذلك التنوع في المدونة المدروسة الذي يصل حد التنافر أحيانا فالمدونة تجمع نصوص المؤسسين بآخر الإصدارات للجيل الأدبي التونسي الجديد فقد انصبت القراءات تحليلا على روايات وقصص محمود المسعدي والبشير خريف والطاهر قيقة، ولكنها أيضا عبرت ذلك الجيل لتتوقف عند أعمال صلاح الدين بوجاه ومحجوب العياري ومنصور مهني ويوسف عبد العاطي ورشيدة الشارني حتى وصلت إلى هند الزيادي وتوفيق الببة ونبيهة العيسى وعلي الحوسي.

ويرجع ذلك التنوع أيضا إلى المناسبات التي كتبت فيها ومن أجلها هذه النصوص وعمد الناقد بعد ذلك إلى جمعها والتقديم لها بما يتناسب مع الموضوع العام الذي يجمعها وهو الانتصار للأدب التونسي الذي لم يلقَ حظا وافرا في المشرق مع أن بعض هذه الروايات والقصص معروفة وبعضها يعتبر من النصوص المؤسسة للرواية العربية مثل رواية "حدث أبو هريرة قال" لمحمود المسعدي.

أسئلة الزمن وشعرية الفضاء

تدور معظم هذه المقاربات حول الزمن ورهان المكان سرديا ويأتي اهتمام البدوي بالمكان من إيمانه بأن المكان "ليس مجرد فضاء تتحرك فيه الشخصيات وتدور فيه الأحداث بل يكون فاعلا فيها ويحمل دلالات عديدة عن توجهات الكاتب ومواقفه من جملة القضايا التي تدور حولها القصص".

وهذا ما أثبته في تحليل كتاب "نسور وضفادع" لإدريس قيقة و"ريح الوقت" ليوسف عبد العاطي و"في مكان ما" لتوفيق الببة و"حبك درباني" للبشير خريف، حيث تمثل عملية رسم الأمكنة ونقلها عملية مركزية في السرد مما يؤكد هوية النص التونسي و"أرضنته".

بينما يدخل الاهتمام بالزمن في هذه المقاربات ضمن رصد الناقد لإيقاع السرد من ناحية وتفكيك العناصر الاجتماعية التي تقولها الرواية وتحليله لأفكار الشخصيات الروائية والقصصية حسب تلك الأزمنة التي تتحرك فيها خاصة الأزمنة الكبرى المتعلقة بتاريخ الأحداث، وهي مناسبة كان الكاتب يتذرع بها للحديث عن تاريخ نشأة النص انطلاقا من طبوغرافيته (توطينه) وما يعلن عنه أو ما تستّر عليه وفضحته الشخصيات عبر سلوكها ولغتها، فاللغة أيضا رهينة الزمن وتتلون به.

لغة تونسية متنوعة

لا يمكن الحديث عن لغة واحدة ونحن نقرأ هذه المختارات من المدونة السردية التونسية لأن الكتابة مدارس.

فلئن أقحمنا الأدباء والروائيين التوانسة صلاح الدين بوجاه ومحجوب العياري ضمن خانة الكتابة مع الروائي المسعدي القائمة على البلاغة وجزالة اللفظ، تلك اللغة الاستعارية الشعرية حيث يقول مثلا متحدثا عن لغة المسعدي، "إنه يكتب من ذاكرة مكتظة تتزاحم فيها نصوص الجاحظ والتوحيدي وأخبار الأصفهاني وإيقاعات المقامات فكانت كتابة منحوتة نحتا من اللغة الصوان… جاء نشر المسعدي كأنه شعر بفعل ما توفر فيه من جمال الإيقاع وحسن السبك والنظم بعيدا عن حوشي الغريب، يتوفر على جمال الصورة وبلاغة الإيجاز".

فإن لغة الطاهر قيقة وهند الزيادي ورشيدة الشارني يمكن إقحامها في لغة البشير خريف ولكن بتفاوت وحسب إدراك كل واحد منهم لأهمية اللغة في الكتابة السردية بصفتها مستويات ورطنات اجتماعية وطبقية وليس بلاغة. ومدى تأقلم هذه الاختيارات اللغوية مع طبيعة التيار الأدبي الذي يكتب فيه كل كاتب من هؤلاء الكُتاب.

ويعتبر البدوي أن اعتماد البشير خريف العامية التونسية كان من دوافعه التوثيق للمتداول اليومي وللأغاني والأهازيج التي كانت رائجة وقتها، وهذا من شأنه أن يوطن الرواية أيضا في فضائها التونسي عبر هوية خطابها ولغتها بذلك التجاور المدروس بين الفصحى والعامية، تلك العامية التي تظهر عادة في الحوار.

وقد خاض البشير خريف معارك كبرى من أجل تكريسها ضد كُتاب متعصبين للفصحى ولا يرون في وجود العامية في الحوار إلا تشويها للأدب وعجزا عن الإبداع فيه، بينما كان البشير خريف يعتبر ذلك جهلا بالسرد وبالأدب وصناعته وهو الكاتب الذي قرأ الأدب الإسباني والفرنسي وتأثر بهما خاصة رائعة ميغيل دي ثربانتس "دون كيشوت" التي حاورها بذكاء في روايتيه "برق الليل" و"بلارة".

يمثل كتاب البدوي سرديات تونسية على كثافة المقاربات وبساطتها التي كانت متوجهة لعموم الناس ومحبي الأدب إضافة مهمة لتداول الأدب خارج التقاليد البحثية الجامعية من ناحية وتسليطا لأضواء جديدة على نصوص، بعضها جديد وبعضها قديم للتحريض على قراءته أو إعادة قراءته وفق ثقافة المتعة والبحث عن "لذة النص" بمفهوم رولان بارت وبعيدا عن النظريات الإنشائية والتفكيكية والتأويلية وما أحدثته النظريات البنيوية والسيميائية من نفور لدى متلقي النقد الأدبي.

المصدر : الجزيرة