حدث في الذاكرة.. القاصة والروائية العمانية ليلى عبد الله وسرّ الطفلة الصموت

القاصة والروائية العمانية ليلى عبد الله (ليلى البلوشي)
لم تبدأ ليلى حياتها الإبداعيّة بالشعر أو القصة بل بكتاب نقديّ عن أدب الأطفال عام 2007 (الجزيرة)

تفتح الجزيرة نت مساحة لكاتبات وكتّاب لكي يتحدثوا عن الحدث أو الحادث الذي غيّر حياتهم، وجعل منهم شعراء أو روائيين أو قصاصا وأيضا مسرحيين ومترجمين أو حتى ناشرين، بخلاف توقعات الأهل أو الأصدقاء.

في الوقت ذاته، تعتبر هذه الزاوية نافذة للقارئ والمتابع، لكي يتعرّف على جزء حميميّ وربما سرّي لمبدعين مختلفين في طرق وأساليب التفكير والحياة والكتابة.

ضيفتنا اليوم القاصة والروائية العُمانيّة ليلى عبد الله التي تخرّجت من قسم اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود عام 2004 بتقدير امتياز، وقد نشرت أعمالها الأولى باسم ليلى البلوشي، ولكنها استقرت فيما بعد على اسم ليلى عبد الله الذي كانوا ينادونها به زملاؤها طوال أيام الدراسة.

وعملت ليلى في التدريس أكثر من عشر سنوات، قبل أن تتفرّغ للكتابة، رغم صعوبة ذلك في العالم العربي.

لم تبدأ حياتها الإبداعيّة بالشعر أو القصة، بل بكتاب نقديّ عن أدب الأطفال عام 2007، وبعدها بعام تصدر مجموعتها القصصية الأولى "صمت كالعبث". لتعود لاختصاصها النقديّ بنشرها كتاب "تحليقات طفولية في فضاء الكتابة الإبداعية.. دراسة تحليلية فنية لقصص أطفال" عام 2011.

عام 2014 صدر لها مقالات مجموعة في كتاب "غرفة العالم" عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، لينال المؤلف بعدها بعام جائزة الإبداع الثقافي لأفضل كتاب مقالات في العاصمة مسقط.

قصصها القصيرة جداً صدرت كذلك عام 2014 بعنوان "قلبها التاسع" عن دار بلاتينيوم بوك في الكويت.

عام 2016 صدرت مجموعتها القصصية "كائناتي السرديّة" عن دار نينوى السوريّة، والتي نالت عام 2017 جائزة أفضل إصدار في القصة القصيرة في السلطنة.

عام 2017 أصدرت كتاباً في سير الكتب والقراءة بعنوان "أريكة وكتاب وكوب من القهوة" عن دار مداد. وستصدر روايتها الأولى "دفاتر فارهو" عن دار المتوسّط في ميلانو، والتي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد، فرع المؤلف الشاب، لعام 2020.

خلال هذه الرحلة تُرجمت عدة نصوص شعريّة لليلى عبد الله إلى البولنديّة والإسبانيّة. كما أصدرت مجموعة شعريّة بعنوان "رسائل حب مفترضة بين هنري ميللر وأناييس نن" عام 2014 عن دار الانتشار العربي في لبنان.

وهنا شهادتها عن المواضيع التي طرحتها عليها الجزيرة نت.

عوالم الكتب والخيال

ممتنة أنا لكل كتاب وضع في طريقي، لوحدتي وعزلتي، لأحلام اليقظة التي من خلالها ولجت عوالم الخيال. كنت على يقين بأني طفلة مخلوقة من طين الخيال. كان الواقع المحيط بي مجرد لعبة أعيشها وفق تصوراتي. كل شيء من حولي كان قابلاً لإعادة تشكيل.

في المدرسة كانت المعلمات يثنين لا على تميزي الدراسي فحسب، بل على سكوني لدرجة أظل فيها صامتة لساعات. لكن غاب عن وعيهن أن هذه الطفلة الصموت في حقيقة الأمر شاردة في خيالاتها الشاسعة، لدرجة أنها لا تكاد تشعر بما يحيط بها. وأنها مستغرقة في عوالمها ومتزاحمة بشخصيات لا تمت لواقعها بصلة.

كان شرودي هو سرّي. السرّ الذي عمل على تكويني حتى غدوت ما أنا عليه. الكتابة هي أن تستغرق في عوالمك الذاتية. أن تحفر، وتظل تحفر وتحفر وتحفر، وكأن ثمة ما هو لك في مكان ما في أعماقك، تجهل عن كونه وهيئته ولكن عليك أن تحفّز كل اندفاعاتك لكي تجده.

غلاف كائناتي السردية للكاتبة ليلى البلوشي
تروي الكاتبة 21 قصة خيالية قصيرة متنوعة ومتراوحة طولا (الجزيرة)

الكتاب جمرة

في طفولتي الغضّة كنت أحب قراءة كل شيء قابل للقراءة، كتباً بأنواعها، المجلات والدوريات باختلافها. اقرأ باندفاع ويحدث أن يفوتني فهم كثير من الأحداث لأني كنت أقرأ كتبًا أكبر من رأسي الصغير. اذكر أن مكتبة أخي، التي عني بها ورصّ رفوفها بكتب تراثية ، كم غدوت ضئيلة أمامها!

كنت أهاب أشكال الكتب وأغلفتها الداكنة وهي هناك متراصة خلف أبواب زجاجية محكمة. ولا أكاد أنسى أول إحساس ساورني حين لمست كتاب الحيوان للجاحظ كما لو أني مسكت بيدي جمرة!

صندوقا كتب وتفاح

كانت القصص والحكايات هي أولى اهتماماتي القرائية، ويبدو أن قدري كان مخططًا سلفًا لجعلي قارئة، ففي طفولتي صادفت مرة عند باب منزلنا صندوقًا فائضًا بكتب تفوح بروح المغامرة. هل كانت ستتغيّر حياتي لو كان صندوق تفاح مثلا؟! بل هل سأكون ما أنا عليه لو أن أحد أخوتي فتح باب المنزل الخارجي عوضاً عني، وصار الصندوق من قدره؟! ولماذا اختارني الله دون إخوتي لكي تستحوذ الكتب على عوالمي؟ ظللت طوال سنوات أتعثر في فخ الأسئلة المستعصية!

وقعت في شرك الكتب في سن مبكرة. اعترف بأني عشت طفولة مضاعفة. فقد كان يستهويني ابتياع الحلويات والألعاب كباقي الأطفال، وفي الوقت نفسه كنت مفتونة بشراء القصص أيضا. أطالع بفضول نزق مجلات الكبار. اقرأ كل شيء. ما يناسبني وما لا يناسبني. لا أدري، هل كان من حسن حظي ألا تكون رقابة من قبل والديّ على ما اختاره من كتب؟

غلاف دفاتر فارهو
تحكي القاصة العُمانية غربة صبي صومالي فر من الحرب ليعيش حياة اللجوء والاغتراب بالخليج العربي (الجزيرة)

مكتبة ليلى

كانا يتعاطيان مع المسألة بحسن نية، رغم أن أمي كانت تخشى من تأثير هذه الكتب عليّ. وأكبر مخاوفها أن تسلبني من حياتي الاجتماعية. لاسيما بعد أن طلبتُ شراء أول مكتبة لي في البيت. مكتبة خاصة بي وبكتبي. وأصبحت مكتبتي هي عالمي وصار الجميع ينعتونها بمكتبة ليلى!

تضاعفت مساحات عزلتي. وصارت شخصيات الحكايات هي الوحيدة التي أتعاطى معها اجتماعيًّا وصدقت نبوءة أمي!

ماذا لو كانت هناك رقابة على ما أقرأ؟ ربما بقيت طفولتي أقل تشويشاً. أكثر براءة ونقاء. لما كنت أتخبط في هواجسي عن العالم الذي سأعيشه حين أكبر. ولما رافقني إحساس بأني كبرت قبل أواني بكثير.

روايات للنسيان

ترعرعت في زمن يتمتّع بحسن نيّة تجاه كل شيء. لم تكن ثمة مخاوف لدى الكبار. كانت الكتب هي أقل الأفعال ضررًا على عقول الأطفال، وبمثابة عالم آمن. والطفل القارئ هو طفل ذكي ونمط نادر.

الدهشات لم تنضب من حياتي يوما، ودائما كانت تأتي على هيئة صناديق فائضة بالكتب. ففي مرحلة المراهقة قدمت لي صديقة صندوقًا مكتظًا بروايات غرامية تدعى روايات عبير، تداولها المراهقون في ذلك الوقت بنهم، انبهرنا بها لأول وهلة، ولكن هناك كتب وجدت لمرحلة معينة وكانت روايات عبير من هذه النوعية تفرغ منها سريعًا ولا تكاد تذكرها بعد ذلك.

تتخيل الكاتبة رسائل متبادلة بين الرسام الأميركي ومواطنته (الجزيرة)

حيوات عديدة

بعدها أصبحت انتقائية أكثر. وصرت أتبع حدسي لاختيار الكتب. لم أكن أميل إلى الأخذ بنصائح الآخرين. كيف يمكن لقارئة تسعى إلى تكوين عوالمها القرائية الخاصة أن تُنصتَ لوصايا الآخرين؟! كنت أريد أن تكون لي التجارب التي تخصني وحدي في القراءة، أن أنمّي ذوقي، فليس نهاية العالم أن تقرأ كتابًا سيئًّا.

ويبدو أنني كنت محظوظة، فالقارئة، التي تلبّستني، وجدتُ في داخلها شغفًا من نوع ما لممارسة ما يحاول الكتّاب عمله، ووجدت في نفسي استرسالاً لوصف أشياء وتخيل عوالم وخلق أبطال شخصيات، فتجرّأت على الكتابة وتورطت بها، وتخبطت بي حيوات عديدة وما عدت كما أنا مطلقًا!

لعل أغرب ما في الكتابة هو أن تفاجئ نفسك أثناء الكتابة، كما كان الروائي "راي برادبري" صاحب رواية "فهرنهايت 451" يمضي أثناء الكتابة قائلاً: أحب أن أفاجئ نفسي!

لا أضع خططًا في الكتابة، تأتي لوحدها كعاشق مجهول وتبدأ لعبتي المشتهاة: لعبة التخيّل. لعل أروع ما يحدث هو أن تنسف كل توقعاتك عما ستكتبه!

المصدر : الجزيرة