البشر استوطنوا الأميركتين أقدم بكثير مما نظن.. كيف انحدر السكان الأصليون عبر جزر أستراليا وشرق آسيا؟

من المحتمل أن يكون البشر قد استخدموا هذا الموقع بشكل ثابت نسبيا على مدى 20 ألف عام (سميثسونيان ماجازين)

أثبت اكتشاف أثري جديد فريد من نوعه وصول البشر إلى الأميركتين قبل 11 ألف عام على الأقل مما كان يعتقد سابقا، وهو أمر من شأنه أن يعيد كتابة تاريخ البشر على القارة ويغير فهمنا للعالم في عصور ما قبل التاريخ إلى حد كبير.

يكشف البحث الجديد أن الأميركيين الأصليين في العصور القديمة كانوا يعيشون في المكسيك، ويفترض أيضا أنهم عاشوا في أجزاء من بقية أميركا الشمالية، من فترة لا تقل عن 30 ألف عام قبل الميلاد فصاعدًا.

يكتسي هذا الاكتشاف الواقع في كهف بعيد في ولاية زاكاتيكاس في المكسيك أهمية كبيرة ويمثل أحد أهم الاكتشافات الأثرية في العالم بالعقود الأخيرة، ويفتح المجال واسعا أمام أسئلة من قبيل كيف وصل هؤلاء البشر إلى العالم الجديد، ومن أين أتوا، وكيف كانت رحلتهم القديمة؟

وفي تقريره الذي نشرته صحيفة "ذي إندبندنت" (The Independent) البريطانية، قال الكاتب ديفيد كيز إن الكهف الذي عُثر عليه في المكسيك يشير إلى أنه وقع استعمار القارة لأول مرة قبل 30 ألف عام قبل الميلاد، علما بأن تاريخ أقدم استعمار مثبت للقارة يعود إلى حوالي 19 ألف عام قبل الميلاد.

حفريات قديمة

ذكر الكاتب أن الحفريات الكبيرة داخل الكهف كشفت عما يقارب ألفي قطعة أثرية حجرية يرجع تاريخها إلى ما بين 30 ألف عام و11 ألف عام قبل الميلاد، من بينها حوالي 12 قطعة تعود إلى فترة ما بين 30 ألفا إلى 24 ألف عام قبل الميلاد، وهي أقدم مرحلة زمنية للموقع الأثري.

تعتبر القطع الأثرية الأحدث على غرار السكاكين الحجرية والكاشطات والشفرات وأدوات النحت والنقش التي تعود إلى فترة ما بين 24 ألف عام إلى 11 ألف عام قبل الميلاد ذات أهمية أيضا، خاصة أن تاريخ بعض القطع يسبق التاريخ المقبول عموما حتى الآن للتعمير الأولي للأميركتين.

أقدم مما نظن

وفقا للبروفيسور توم هيغام المسؤول عن وحدة التأريخ باستخدام الكربون المشع في جامعة أوكسفورد، الذي يعتبر من أبرز علماء الآثار المشاركين في المشروع، يثير اكتشاف تعمير القارة قبل أكثر من 30 ألف عام مجموعة من الأسئلة الجديدة الرئيسية حول أصل هؤلاء الأشخاص وكيف عاشوا ومدى انتشارهم ومصيرهم في النهاية.

وأشار الكاتب إلى أن البحث الذي نُشر في 22 يوليو/تموز في مجلة "نيتشر" (Nature) أجراه فريق من علماء الآثار وعلماء آخرين من المكسيك والمملكة المتحدة والدانمارك والولايات المتحدة والبرازيل وأستراليا.

بناء على هذه المعطيات، تم تحديد الفترة الزمنية لتعمير الأميركتين بشكل كبير باعتبارها أقدم بكثير مما نظن، ومن المرجح أن يضاعف علماء الآثار في كل من أميركا الشمالية وأميركا الجنوبية جهودهم للعثور على مواقع إضافية تعود إلى عصور قديمة جدا.

ويكاد يكون من المؤكد أن القطع الأثرية الحجرية المكتشفة حديثًا صنعها الصيادون الرُّحَّل أو شبه الرحل الذين يُعتقد أنهم تنقلوا عبر مساحات شاسعة من الأراضي في أجزاء من المكسيك والولايات المتحدة على مدى أجيال لا حصر لها.

وبعد أن عرف علماء الآثار الآن أن مجموعة صغيرة من البشر كانت نشطة في موقع الكهف، فمن غير المعقول أن يمثلوا المجموعة البشرية الوحيدة التي وجدت في الأميركتين خلال ذلك الوقت.

من هم الأميركيون الأقدم؟

يطرح هذا الاكتشاف ثلاثة أسئلة مهمة: من هم هؤلاء الأميركيون الأوائل الذين اكتشف أثرهم حديثًا، ومتى دخل أسلافهم إلى العالم الجديد، وكيف؟

نظرًا لعدم وجود بقايا بشرية وعدم اكتشاف حمض نووي بشري حتى الآن في الموقع، لا يمكن معرفة أصلهم على وجه التحديد من الناحية العرقية والجينية.

وبيّن الكاتب أن معظم الأميركيين الأصليين في كل من أميركا الشمالية والجنوبية ينحدرون بشكل أساسي من الشعوب القديمة نفسها التي ينحدر منها معظم الصينيين واليابانيين وغيرهم من الآسيويين الشرقيين.

لكن تشير الأبحاث الجينية الحديثة في أصول الأميركيين الأصليين إلى أن السكان الأصليين في الأميركتين ربما كانوا مجموعة مختلفة من الشعوب المرتبطة جزئيا بسكان أستراليا الأصليين في الوقت الحديث، أي سكان بابوا غينيا الجديدة وجزر أندمان وشعب المامانوا من الفلبين.

في عصور ما قبل التاريخ، يبدو أن الشعوب ذات الصلة بالميلانيزيين (أسلاف السكان الأصليين الحديثين لأستراليا وبابوا غينيا الجديدة وغيرها) قد ازدهرت على مساحات كبيرة من شرق وجنوب شرق آسيا. لذلك من الممكن أن يكون الأميركيون الأوائل الذين اكتُشف أثرهم حديثًا مرتبطين جزئيا بأسلاف السكان الأصليين لأستراليا في العصر الحديث والبابواويين وما إلى ذلك، بحسب تقرير الصحيفة البريطانية.

متى وكيف دخلوا العالم الجديد؟

تظل البصمة الجينية للميلانيزيين الأوائل بمثابة عنصر صغير مقارنة بجينومات العديد من المجموعات الهندية الأميركية الأصلية في حوض الأمازون.

ويأتي الدليل الجيني الوحيد لهذا الارتباط من الأمازون (خمسة هياكل عظمية قديمة جدًا يبلغ عمر كل منها على الأقل 10 آلاف عام).

ولا تظهر جميع أدلة الحمض النووي القديمة المأخوذة من الهياكل العظمية للأميركيين الأصليين أي علاقة بالميلانيزيين، وإنما توجد بشكل أساسي روابط جينية مع سكان شرق آسيا الحاليين فقط.

في آسيا وأستراليا وغيرها من المناطق، يأتي دليل الحمض النووي البروتو- ميلانيزي القديم من هيكل عظمي عمره 40 ألف عام عُثر عليه في شمال الصين، بينما يعود الموقع المكسيكي المكتشف حديثًا إلى 30 ألف عام قبل الميلاد، ما يعني أن هؤلاء الأميركيين الأوائل وصلوا في وقت مبكر جدا إلى عالمهم الجديد قبل ذلك التاريخ.

كيف وصلوا إلى هناك؟

يكاد يكون من المؤكد أنهم لم يصلوا عن طريق السفر عبر المحيط الهادئ، لكنهم ربما يكونون قد قطعوا جزءًا من الرحلة على الأقل عن طريق البحر (ربما في زوارق الكاياك القديمة) من خلال التنقل بين الجزر، على مدى أجيال عديدة، من الصين أو حتى من جنوب شرق آسيا على طول عشرات الجزر التي تمتد في قوس كبير بين الفلبين وألاسكا (أطول رحلة بحرية كانت ستبلغ 120 ميلا).

بعد الوصول إلى ألاسكا، كان يمكن لأحفادهم السفر جزئيا على الأقل عن طريق البحر على طول الساحل الغربي لأميركا الشمالية إلى كاليفورنيا والمكسيك.

وأوضح الكاتب أن الملاحة البحرية المعقدة التي باشرها الإنسان بدأت في ميلانيزيا والجزر الآسيوية الأخرى ولا يعد هذا مفاجئا، نظرًا لأن المنطقة الواقعة مباشرة في جنوب وشرق البر الرئيسي الآسيوي تضم أكبر مجموعة جزر في العالم.

منذ حوالي 60 ألف عام، قام الميلانيزيون الأوائل برحلة بحرية امتدت على 40 ميلا من جزر مثل سولاويزي (Sulawesi) وتيمور إلى غينيا الجديدة/ أستراليا، وبذلك يكون السكان الأصليون من أصول أسترالية، بحسب تقرير الصحيفة البريطانية.

منذ حوالي 30 ألف عام، كان الميلانيزيون الأوائل يتنقلون على بعد 100 ميل من غينيا الجديدة إلى جزر سليمان – وقبل 32 ألف عام، كان البحارة الأوائل يتنقلون بين الجزر لمسافة 300 ميل إلى أوكيناوا – من تايوان أو اليابان.

وإثر ذلك، كان سكان تلك المنطقة من الجزر الآسيوية أول من قاموا بالاستكشافات الكبرى عبر المحيطات في العالم (عبر المحيط الهندي، وفي سلسلة من الرحلات، وعبر المحيط الهادئ).

وأشار الكاتب إلى أنه ليس من الممكن حتى الآن معرفة ما إذا كان الأميركيون الأصليون، الذين عاشوا في الكهف بوسط المكسيك، من بين الأجيال الأولى من البشر الذين عاشوا في عالمهم الجديد.

وذكر الكاتب أن الكهف نفسه كان يمثل قاعدة مثالية للصيد، ويعد بمثابة منطقة آمنة لسكانه، حيث لا يمكن رؤيته بسهولة من بعيد.

في عصور ما قبل التاريخ، كانت المناظر الطبيعية المحيطة مكسوة بأشجار الصنوبر الضخمة والمياه العذبة متوفرة على مقربة من الكهف، وكانت درجة الحرارة داخله (ولا تزال) مستقرة بشكل ملحوظ على مدار السنة، بغض النظر عن حالة الطقس في الخارج.

ويثير هذا الاكتشاف الاحتمال المثير للاهتمام بأن جنسنا البشري، وصل لأول مرة إلى الأميركتين في الوقت نفسه تقريبا الذي وصلوا فيه إلى بريطانيا وبقية أوروبا الغربية.

وحتى الآن، كان يُعتقد بشكل عام أن الأميركتين استعمرتا لأول مرة من قبل البشر بعد 20 ألفا أو 40 ألف عام، وهو الاعتقاد الذي ينبغي التخلص منه وإعادة كتابة التاريخ من جديد.

المصدر : الصحافة البريطانية