خارج التجنيس والإكراهات الأكاديمية.. صورة الزنجي في الرواية التونسية

غلاف كتاب صورة الزنجي في الرواية التونسية
ينطلق الباحث في تقصي صورة الزنجي في الرواية التونسية من أسماء الشخصيات أو الكنى التي ألحقها بهم المجتمع (الجزيرة)

تنشغل البحوث الجامعية في غالبيتها بالمسألة الأجناسية والشكلية منذ زمن، وعلى أهمية هذه البحوث فإن هيمنتها حوّل الكثير منها إلى نسخ متشابهة لا نكاد نميز الواحد منها وفرادته من الآخر، فتندر أصالة البحوث وجدتها.

ولأن المغامرة لا تكون إلا في فضاء حر تظهر علينا بين الفينة والأخرى بحوث أصيلة تطرق مواضيع جديدة وتقارب الأدب الحديث والمعاصر مقاربات مختلفة وتنتصر للتيمات والأفكار وما وراءها، وعادة ما تأتي تلك البحوث من خارج البحث الجامعي الذي يضع ضوابط تتحوّل في بعض الأحيان إلى إكراهات.

ضمن هذا الإطار يمكن أن نضع كتاب الناقد والشاعر التونسي نورالدين الخبثاني "صورة الزنجي في الرواية التونسية" والذي أنجز خارج هذه "الإكراهات الأكاديمية".

في نقد النقد

ينطلق الناقد بمدخل تحت عنوان "الرواية والنقد" متحدثا عن المفارقة في المشهد الأدبي، فأمام طفرة روائية هناك "غياب للنص النقدي أو ضموره"، ويعود الباحث إلى عبارة الفيلسوف الوجودي الفرنسي جان بول سارتر القاسية أن المشهد يعيش حالة من "فقر دم نقدي".

وكان سارتر يتحدث عن "الماركسية التي تبناها بعد بداياته الوجودية الأنطولوجية، لكونها نظرية ظلت، من خلال اهتمامها بمقولات الصراع والبنى وقوانين التاريخ، تفتقد إلى تشريع لحضور الإنسان الفرد ولحيوية دوره وكيانه".

ويتساءل الناقد عن أسباب خفوت صوت النقد والحال أنه كان مؤسسا لحداثة الفكر العربي الحديث، ورأى الناقد أنه باستثناءات قليلة قادها المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد ومواطنه الكاتب فيصل دراج والمغربي سعيد يقطين، لم يقدم النقد العربي المعاصر غير تكرار للمدونة الكونية وردد مكاسبها "بأشكال مختلفة كالنقل الحرفي والتلقين والانحياز والتلفيق، دون مساهمة ذات قيمة نوعية من جهة الإنتاج النظري وصياغة المفاهيم".

أصالة المبحث

لم يسبق ناقد أدبي نورالدين الخبثاني البحث في موضوع الزنوجة في الرواية التونسية، وظل هذا المبحث مغيبا حتى سنة 2019 عندما طرحه ملتقى تونس للرواية العربية تحت عنوان "قضايا البشرة السوداء في الرواية: العبودية، العنصرية، التحرر".

وكان البحث الذي تقدم به الخبثاني منطلقا للتعمق في المسألة وإنجاز هذا الكتاب الصادر عن دار شامة للنشر في 200 صفحة وضعه الباحث في ست أقسام كبرى: صورة الزنجي ومنزلته في المسارات السردية، استعارة شرودنغر أو التجسير نحو التقويض، ما وراء الزنجبار: ثنائية الهيمنة والمقاومة في السرد التاريخي والحكائي، النمط السردي: ملامح النموذج المؤسس وحدوده، في كيفية اشتغال نمط: التنويع على النموذج المؤسس: الاستلاب، الاسترقاق المضاعف وغيبة التاريخ، والخروج من النمط، الشكل الروائي من الاستنفاد إلى الاختراق.

وارتكز في بحثه على مدونة روائية تونسية يعود بعضها إلى النصوص المؤسسة كروايتي "حدث أبو هريرة قال" لمحمود المسعدي و"برق الليل" للبشير خريف ونصوص معاصرة مثل "جمان وعنبر" لمسعودة بوبكر و"ماء ونار" لآمنة الرميلي و"وراء السراب.. قليلا" لإبراهيم الدروغوثي و"الغوريلا" لكمال الرياحي و"أفريقستان" لعبد الجبار العش و"باغندا" لشكري المبخوت و"باي العربان" لجمال الجلاصي و"جهاد ناعم" لمحمد عيسى المؤدب.

واستند في مقاربته إلى أدبيات نقد الرواية والمنهج الإنشائي من جهة والمنهج التفكيكي من جهة أخرى، دون الإعلان عنه، بل أشار إلى ضرورة التعدد في عملية القراءة بما يوفر عملية استنطاق جيدة للنص.

يقول "لقد استقر لدينا أن سياق التعدد والتشابك، وبداية القبول بثقافة الاختلاف، من شأنه أن يساهم في تخفيف غلواء اعتقادنا في أحادية الحقيقة وثبات الماهية والمعنى المطلق في جوف بدء أصيل للوجود والدلالة".

المفاهيم التمهيدية

يحاول البحث أن ينطلق من ضبط المفاهيم الأساسية له من خلال الوقوف عند مصطلحات: العبودية والتمييز العنصري والزنوجة والزنجي؛ ليمهد الحديث عن صورة كل ذلك عند الروائيين، وانتهى إلى أن المقاربات مختلفة تماما، فبعضها كان ضربا من التطابق الصارم مع المرجعية التاريخية والاجتماعية ولم يمنح التخييل السردي الفاعل الزنجي أي فرصة للخروج والاختراق في اتجاه التحرر كما في روايات وراء السراب قليلا وباي العربان وجمر وماء.

والبعض الآخر من النصوص سعت إلى أن يضطلع الفاعل الزنجي بدور التمرد والاحتجاج الفردي بتحريك سواكن المجتمع وتفجير جل متناقضاته، وهو ما يعرضه للاغتيال والتصفية كما في روايتي الغوريلا وباغندا، بينما سعت روايات أخرى إلى استكمال صيرورة التحرر والتزمتها تخييلا مخترقة انعدام توفر المرجعية الواقعية التاريخية حسب رأيه، ويرى ذلك في روايات برق الليل وجمان وعنبر وأفريقستان.

تفاصيل أو الاسم الجريح

ينطلق الباحث في تقصي صورة الزنجي في الرواية التونسية من أسماء الشخصيات أو الكنى التي ألحقها بها المجتمع من "شوشان" و"شوشانة" إلى "برق الليل" و"كحلة" و"الأزرق" و"باغندا" و"الغوريلا"، ويشرح الناقد كيف شطب السرد أسماء الشخصيات واكتفى بتلك الكنى الدالة على مواقعها في المجتمع أو التي أراد لها المجتمع تلك المكانة، وينطلق من ذلك الشطب الأولي ليتقصى صورة الميز العنصري والعبودية والعنف المجتمعي ضد الآخر الملوّن.

يسعى الناقد إلى الاستعانة بمرجعيات متنوعة منها مؤلفات الفيلسوف الفرنسي فرانز فانون حول الزنوجة ونظرية الفيلسوف الألماني هيغل حول جدلية العبد والسيد، وآراء جان بول سارتر حول الأدب والزنوج، للتدليل على فكرة أن الرواية التونسية لم تكتب زنجيا واحدا فقد تلونت صورة الزنجي فيها عبر الروايات وبحسب الانتماءات الفكرية والجمالية التي ينتمي إليها الكاتب. فيرفع الروائي كل مرة على وجهه قناعا مختلفا ليتحدث عن الزنجي.

وتتعمق الروايات بحسب تلك المقاربات والأطروحات التي تطرحها من الوجودية التي طرحتها نصوص محمود المسعدي المؤسسة إلى استعادة تلك الأسئلة حول الإنسان عبر توطين النص في المكان مع الروائي التونسي عبد الجبار العش ومواطنه إبراهيم الدرغوثي، مرورا بالأسئلة السياسية والاجتماعية وكتابة المروق والثورة على النظم أو كتابة النوستالجيا في أعمال بقية الكتاب الآخرين.

يحاول البحث أن يلاحق الأشكال الفنية التي قُدّم بها الزنجي فهي في غالبها تعيد إنتاج الشكل الغربي الذي أنتجه الرجل الأبيض لتقول الأسود عبر التخييل، وهذا وإن حقق نجاحا في مستوى بعض الروايات في طرح قضايا التحرر بإعطاء زمام المبادرة إلى الزنجي فإنها في بعض الروايات اكتفت باستعادة الصورة النمطية للزنجي فكانت عبودية جديدة داخل الرواية التي من المنتظر أنها ستفك قيده عبر التخييل.

ومن جهة أخرى، يرى الناقد أن بعض الروايات تحدت واقع الهيمنة التي يفرضها التخييل الغربي لتعْبُر بالمشهدية نحو صورة جديدة وتدفع بالجنس الأدبي عبر ما وصفه الناقد بـ"الضغط على الشكل الروائي السائد وقلبه على نفسه"، ليقول بالعجائبي واللامعقول ما قيده به الشكل الغربي النموذجي للرواية.

وهنا نستحضر ما كان يردده الروائي والمفكر السوري ممدوح عدوان كلما تحدث عن الأدب الافريقي بأننا لم نعرف من فنون السرد والرواية على وجه الخصوص إلا نمطا غربيا ليس هو كل الرواية، لأن المنطق الذي يحكم الرواية الأفريقية القائمة على الحكي الشفوي واستدرار الأساطير والأديان الكثيرة ليس هو المنطق الذي يحكم الرواية الغربية الأوروبية، وهو ما يشكل عائقا أمام تلقيها إذا ما باشرها القارئ بثقافة أحادية.

إن "منزلة الزنجي" في الرواية التونسية كما كشف عنها البحث مع نورالدين الخبثاني مثلت تيمة مشتركة للكثير من الروائيين، وما زالت تنتج إلى اليوم نصوصا روائية جديدة عبر مقاربات جديدة، ولعل آخر رواية "دمع أسود" لعثمان الأطرش الصادرة هذا العام والتي تتناول موضوع الزنوجة عبر "بوسعدية" أشهر الخرافات التونسية، وهذا من شأنه أن يغني المكتبة الروائية ويدفع بالتجارب النقدية لمقاربة هذه الأعمال مقاربات اجتماعية ونفسية.

وهذا الذي سيفتح جدلا، كما يحدث مع هذا الكتاب، حول دور المثقف في تدبر العناصر المكونة للمجتمع، خاصة أن واقع السود في تونس أثبت أنهم ليسوا أقلية كما في بعض البلدان، بل هم عنصر أساسي ورئيس من مكونات النسيج المجتمعي.

لكن عملية تغييبهم سياسيا واجتماعيا ومحاصرتهم في حقول كالرياضة والغناء الشعبي يحتاج إلى تحليل، ولعل الرواية هي القادرة على طرح قضاياهم وكشف ما استبطنه هذا الغياب ومساءلته وفق تحليل الخطاب هل هو فعلا غياب أم تغييب وشطب من خطاب آخر مهمين لا يريد له أن يظهر كهوية؟

المصدر : الجزيرة