الغازي خسرو بك.. حفيد السلطان الفاتح الذي جعل البوسنة منارة حضارية

برج الساعة أحد معالم وقف الغازي خسرو بك
برج الساعة أحد معالم وقف الغازي خسرو بك بالعاصمة البوسنية سراييفو (الجزيرة)

منذ خمسة قرون وحتى يومنا هذا، لا يزال جامع الغازي خسرو بك في العاصمة البوسنية سراييفو يجذب الأنظار ببنائه التاريخي وجماله المعماري.

ولد خسرو بك عام 1480م من سلالة عرفت بالملك والحكم، فأبوه البوسني فرهاد بن عبد الله كان واليا على مدينة سرز في اليونان، وأمه هي الأميرة سلجوقة بنت السلطان العثماني بايزيد الثاني، حفيدة السلطان محمد الفاتح.

قُتل أبوه عام 1486 في معركة قرب مدينة "أضنة" في الأناضول بينما كان قائدا في جيش السلطان بايزيد الثاني، ولهذا حظي خسرو باهتمام مبكر من جده السلطان وأخواله الأمراء، فنشأ وتربى في القصر العثماني بإسطنبول، مما ساهم في صقل شخصيته وقدراته الإدارية والسياسية والعسكرية.

أظهر خسرو منذ صغره نبوغا واستعدادا لتحمل المسؤولية، مما أهله للقيام بالكثير من المهام والأعمال الدبلوماسية الهامة للدولة، فأُرسل عام 1503 مبعوثا رسميا باسم الدولة العثمانية إلى أمير روسيا، ورافق خاله محمد بن بايزيد أثناء ولايته على القرم، ثم عُين عام 1519 واليا على مدينة سميديريفو الصربية، ثم أصبح واليا على البوسنة عام 1521.

أما على الصعيد العسكري، فقد تميز خسرو بشجاعة نادرة بوصفه جنديا، وبتفوق ملحوظ بوصفه قائدا عسكريا. وبعد أن أصبح واليا على البوسنة، بنى جيشا بوسنيا قويا، شارك به في العديد من المعارك ، فكان على رأس الجيش البوسني (تحت راية الخلافة العثمانية) في معركة موهاكس ضد مملكة المجر عام 1526، والتي انتهت بانتصار العثمانيين ودخول المجر تحت سلطة الدولة العثمانية، كما شارك في حصار فيينا الأول عام 1529، لكن المشاركة العسكرية الأبرز له كانت مساهمته بكفاءة في فتح بلغراد، والتي كانت سببا في أن منحه السلطان لقب "الغازي".

ضريح الغازي خسرو بك وبجواره ضريح مراد بك ناظر الوقف
ضريح الغازي خسرو بك وبجواره ضريح مراد بك ناظر الوقف في سراييفو (الجزيرة)

استشهد الغازي خسرو بك سنة 1541 في إحدى المعارك ضد الصرب بالقرب من "الجبل الأسود"، ودفن -بناء على وصيته- في سراييفو على يسار المسجد الذي يحمل اسمه.

ظهرت شخصية الغازي خسرو بك بشكل جلي خلال ولايته للبوسنة، فعلى الرغم من أنه أنفق بسخاء في أعمال البر بوازع من التقوى والورع، فإنه في الوقت نفسه أبدع في الإدارة والسياسة وقيادة الدولة.

وقف غازي خسرو بك

اهتم الغازي خسرو بك بإنشاء المؤسسات التعليمية والاقتصادية والخدمية، كما أسس وطوّر نظام الوقف الإسلامي ليضمن التمويل الذاتي لتلك المؤسسات، وعلى رأس تلك المؤسسات يأتي الجامع الذي بناه عام 1530 في أجمل مناطق سراييفو، وأسند تصميمه إلى عجم علي كبير المعماريين في الدولة العثمانية، الذي جعله تحفة فنية ومعمارية، بالإضافة إلى توافر كل المرافق اللازمة من أماكن للوضوء وكُتّاب لتعليم القرآن ومكتبة وغيرها.

في إحدى وثائق وقف الغازي خسرو بك في العاصمة البوسنية سراييفو، يقول "يُدرك كل حكيم وعاقل أن هذا العالم عابر وليس منزلا ولا مسكنا، بل هو ممر يوصل المرء إلى دار النجاة أو الجحيم، والحكيم هو الذي لا يخدعه هذا العالم…".

وفي موضع آخر يقول "الأعمال الصالحة تمنع الشرور، وأفضل الأعمال الصالحة هي الصدقة، وأفضل أعمال البر هو ما ينمو ويستمر، ومن الجلي أن من جميع الأعمال الخيرية فإن الوقف هو الأكثر ديمومة." ويضيف "طالما بقي هذا العالم، فإن ميزة الوقف لن تتوقف وسيستمر نفعها حتى يوم القيامة بإذن الله".

جامع خسرو بك

تحدثت الجزيرة نت إلى منصور مالكيتش إمام جامع الغازي خسرو بك، والذي قال إنه رغم مرور مئات الأعوام "فإن الجامع لا يزال شامخا بهيا، يؤدي دوره في حفاظ مسلمي البوسنة على إسلامهم، كما أنه منارة تجذب السائحين والراغبين في التعرف على الإسلام لا سيما من الدول الأوروبية".

ويضيف "ما زلنا، والحمد لله، نلتزم بكل ما جاء في وثائق الوقف التي تركها لنا الغازي خسرو بك، ومن أهم وصاياه الاهتمام بالقرآن الكريم، تعليما وقراءة وحفظا، فالكُتّاب ما زال يعمل، كما أننا نختم القرآن يوميا في المسجد بعد صلاة الظهر، وندعو له بالقبول والرحمة".

برج الساعة والمدرسة

وبجوار الجامع بنى برج الساعة، الذي يُعد معلما فريدا من نوعه ليس بسبب روعة التصميم والبناء فحسب، بل أيضا بسبب تفرد الساعة في طريقة عملها. يُشرف على الساعة شخص يسمى "المؤقت" ويُختار من أهل الثقة والعلم.

مسجد الغازي خسرو بك من الداخل في العاصمة البوسنية سراييفو (الجزيرة)

المؤقت الحالي منصور زلاتار قال للجزيرة نت إن "الساعة تعمل طبقا للتقويم القمري، وهي الوحيدة من نوعها في أوروبا، حيث تظهر الساعة منتصف الليل وقت غروب الشمس في سراييفو، بمعنى أن اليوم يبدأ مع غروب الشمس"، ويضيف "ورغم كبر سني فإنني أصعد مرة كل أسبوع إلى برج الساعة ذي الـ76 درجة خشبية لأقوم بتعبئة النابض (الزنبرك)، هذا شرف عظيم لي لا أتخلف عنه طالما بقيت حيا".

وفي مقابل المسجد، بنى الغازي خسرو بك مدرسة تُعد أول مؤسسة تعليمية في البلقان. وقد تخرج منها عشرات العلماء والمثقفين ورجال الحكم في البوسنة والهرسك. كما أنشأ مكتبة للمخطوطات والكتب الإسلامية، تؤدي دورا مميزا في الحياة التعليمية والثقافية والبحثية في البوسنة والهرسك وفي أوروبا والعالم أجمع.

شبكة المياة

اهتم الغازي خسرو بك بالحفاظ على رقي سراييفو ونظافتها، فأمر بإقامة شبكة لتزويدها بالماء العذب، وبحسب المؤرخين فإن سراييفو من أول المدن الأوروبية التي عرفت نظام شبكات مياه الشرب، وسبقت بذلك عواصم أوروبية شهيرة مثل فيينا (1553) وباريس (1602) ولندن (1609).

وحظي الجانب الاقتصادي باهتمام الغازي خسرو بك، فبنى عشرات المحلات أوقفها للإنفاق على الأوقاف، كما بنى عشرات الدكاكين خصصها للحرفيين، كما بنى سوقا مغلقا يسمى "سوق بازستان" يحتوي على عشرات المحلات، وبنى تكية لتقديم الطعام مجانا للمحتاجين من أهل البلاد، وللمسافرين وعابري السبيل.

الشيخ منصور مالكيتش إمام جامع الغازي خسرو بك
الشيخ منصور مالكيتش إمام جامع الغازي خسرو بك يقول إن الجامع لا يزال منارة تجذب السائحين والراغبين في التعرف على الإسلام في أوروبا (الجزيرة)

إدارة الوقف

وقد حدد الغازي خسرو بك نظاما دقيقا لإدارة الوقف، ويقول ناظر الوقف مصطفى فاترنياك "أنا من ذرية مراد بك تارديتش ابن عبد الله، كان جدي مسيحيا كرواتيّا ثم أسلم والتحق بالجيش العثماني، وشارك في مواقع حربية هامة وأظهر كفاءة كبيرة في الإدارة والقيادة، فحاز ثقة الغازي خسرو بك، فعينه ناظرا للوقف، بل نص في وثائق الوقف على أن تظل إدارة الوقف في عائلة جدي مراد بك، ونتوارثها جيلا بعد جيل، لكنه اشترط أن يكون الناظر مثقفا قادرا على الإدارة ومعروفا بالبر والفضيلة". ويضيف "شغل أبي المنصب، وبعد وفاته تم اختياري من قبل المشيخة الإسلامية في البوسنة والهرسك".

ويضيف فاترنياك "نحن نطبق ما جاء في "وثائق الوقف" التي كتبها الغازي خسرو بك لتنظيم إدارة الأوقاف والتي تحدد آلية استخدامها وكيفية الحفاظ عليها وتطويرها".

هذا وإن كان اهتمام الغازي خسرو بك قد انصب في الأساس على بناء الدولة وإعادة تطويرها ثقافيا واقتصاديا وخدميا، إلا أنه اهتم بالحفاظ على الحريات والحقوق الدينية لكل الطوائف والملل من البوسنيين، لذا فقد أصدر عام 1532 وثيقة للحكم تسمى "أمر نامه" يضمن فيها الحريات الدينية لجميع المقيمين في البوسنة، وينص على حق أهل البوسنة من المسيحيين في بناء الكنائس ودور العبادة.

جاء الغازي خسرو بك إلى البوسنة بعد 60 عامًا من بداية الحكم العثماني، فلم تكن إدارته للدولة إدارة تقليدية، ولم تكن أقل كفاءة من قيادته للجيش، واستطاع أن يجعل سراييفو مركزا حضاريا واقتصاديا متميزا، فاستحق بجدارة أن يطلق على عصره "العصر الذهبي".

المصدر : الجزيرة