"العديد من الشموس بعد الظلام".. استدعاء جلال الدين الرومي في المعاناة الأميركية مع جائحة كورونا

يحظى تراث جلال الدين الرومي باهتمام كبير في الولايات المتحدة والعالم الغربي (مواقع التواصل الإجتماعي)

يعتقد المتصوفون المسلمون أن المعاناة والعزلة يمكن أن تجعلنا أشخاصًا أفضل، هكذا يقول أميد صافي أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة ديوك الأميركية، والمختص بالتصوف الإسلامي وتراث الشاعر جلال الدين الرومي.

نشأ صافي في إيران، وعاش في جنوب الولايات المتحدة لسنوات عديدة، ويشعر بقرب فكري من قادة حركة الحقوق المدنية مثل مارتن لوثر كينغ، وفي الواقع، يرى بعض أوجه التشابه بين وجهات نظرهم ووجهات النظر الصوفية عن الحب والعدالة.

تحدثت صافي مؤخرًا مع بودكاست "الطريق نحو المستقبل" المختص بالتصوف والجوانب الروحية في هذه الأوقات الصعبة، بحسب تقرير موقع فوكس الأميركي.

الحب الجذري

تناول صافي تقاليد الصوفية في "الحب الجذري"، والتي تنطوي على مزيج من الحب الإلهي وحب البشر، متسائلاً كيف يمكن الاسترشاد بها في عالم اليوم في ظل جائحة كورونا؟

وناقش أيضًا كيفية الاستفادة من المعاناة أو العزلة في هذه الفترة بدلاً من محاولة الهرب منها دون جدوى، وينسب للرومي قوله "هناك أملٌ بعد اليأس، والكثيرُ من الشموس بعد الظلمة".

وحاول صافي في الحوار الصوتي القيام بما أسماه "تجربة فكرية" عبر تخيل حياة جلال الدين الرومي في أميركا في ظل جائحة كورونا، وقال إنه متأكد تماماً أنه كان سيظهر في الأماكن العامة وهو يرتدي كمامة، فمن القسوة والأنانية عدم ارتداء كمامة في الأماكن العامة.

وتابع صافي متسائلاً هل كان يجلس ويصلي أم ينزل إلى الشارع، وأجاب "الاثنين معاً فحياة الجسد وحياة الروح لا يمكن فصلها عن بعضها البعض؛ لأن الله هو من يُلتمس للحفاظ على أجسامنا وقلوبنا وأرواحنا"، وأردف "ما يميز مسار الحب الجذري بعيدًا عن العديد من التقاليد الأخرى هو فكرة أنه إذا ادعيت أنك تحب الله، فعليك أن تحب خلق الله، ولا يمكنك أن تدعي أنك لا تبالي بمعاناة الإنسانية، بل والكائنات الحية الأخرى إذا ادعيت أنك على هذا الطريق".

وأضاف صافي "أعتقد أن هذا ما ستكون عليه رسالة الرومي وكل هؤلاء المتصوفة اليوم: إدراك المعاناة والوقوف مع أولئك الذين يتألمون، والضعفاء".

الحب والعدالة

واعتبر صافي أن البشر حالياً لا يفتقرون إلى الموارد والخبرة لمواجهة الجائحة، وإنما الحب والرعاية، مؤكداً أن الفردية مشكلة كبيرة.

ويعتبر أن الأميركيين لم يكونوا مثاليين عندما ارتكبوا الإبادة الجماعية ضد السكان الأصليين وكذلك خلال سنوات العبودية عبر المحيط الأطلسي، لكن "يمكن أن نصبح اليوم أكثر مثالية بقليل مما كنا عليه بالأمس" بحسب تعبيره.

ويكون ذلك عن طريق "إقامة العدل"، والعدالة ليست فردية أبداً؛ العدالة اجتماعية وفي المجتمع، يقول صافي، الذي يناقش فكرة صوفية عن الحب ليس باعتباره عاطفة ومشاعر، وإنما موجة تتدفق من خلال الإنسان ومن القلوب إلى الساحات العامة فتصير عدالة متحققة.

ويستشهد صافي بما قاله زعيم حركة الحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ والناشطة الأميركية من أصول أفريقية إيلا بيكر وأعضاء لجنة التنسيق اللاعنفية في عصر الحقوق المدنية في الولايات المتحدة؛ إذ اعتبروا أن "ما نعنيه بالعدالة في الساحات العامة هو الحب".

ويقول صوفي إنه كمسلم يحب أن يستمع لمارتن لوثر كينغ عندما يتحدث عن "المعاناة والفداء" ويشبه الأمر مقولات جلال الدين الرومي، مؤكداً أن الكثير من القسوة تحدث بسبب عبادة صنم الذات والأنا.

ويتابع صافي "يعتقد الكثير منا أننا ننتهي عند حافة أطراف أصابعنا. لكنك كائن مائع. روحك تتوسع وتندمج بالفعل مع الآخرين. نفس الأنا المحدودة لديها ميل للاعتقاد بأنها سيد الكون، وأنها قادرة على تحديد مصيرها، والكثير من الألم الذي نواجهه هو إدراك أن قدرتنا محدودة، وأننا لم نتمكن من منع الألم لأنفسنا أو للأشخاص الذين نحبهم".

ويعتبر صافي أن مفتاح القلب هو شعوره بمعاناة الآخرين وكأنها معاناته الخاصة التي يتردد صداها في داخله.

وأشار صافي في الحوار إلى أن الأنبياء والمتصوفة مارسوا الخلوة أو الذهاب إلى كهف أو قمة جبل، ولكن لم يكن ذلك دائماً، فالهدف كان جلب ثمار العزلة إلى المجتمع، وهي الفرصة المتاحة حالياً في ظل الحجر الصحي المرتبط بجائحة كورونا، ويضيف "آمل أن تتيح لنا فترة التراجع غير المخطط لها هذه فرصة لفحص حياتنا الخاصة، والتفكير في ما كنا نعطيه الأولوية، وما كان يغذي قلوبنا. تعلمون، الكثير منا متصل بأجهزة الهاتف. نبدأ بالذعر حقًا عندما تنفد البطارية ونبدأ بتوتر في النظر حولنا: أين شاحني؟".

ويتابع "حسنًا، ماذا لو كان قلبك أوشكت بطاريته على النفاد؟ هل سنعرف أين نذهب لإعادة الشحن؟ هذا سيبدو مختلفًا لكل شخص. قد يبدو وكأنه قراءة شعر الرومي. الاستماع إلى بودكاست رائع، الحدائق، الذهاب في نزهة في الجبال. دعاء وصلاة. اليوغا. لا يهمني بشكل خاص تلك الممارسة التي تجدد روحك. لكن أعتقد أنه من المهم أن نسأل أنفسنا: هل نعرف ما هي؟ وهل نعرف كيف نحددها؟ وهل نعرف كيف نعود إليها مرارا وتكرارا حتى تصبح ممارسة؟

تراث الرومي

يحظى تراث جلال الدين الرومي باهتمام كبير في الولايات المتحدة ويستقبل بحفاوة بالغة، وترك الرومي عدة مؤلفات ما بين منظوم ومنثور تناول فيها العديد من المسائل الصوفية والفلسفية والأدبية؛ فمن منظوماته "ديوان شمس الدين التبريزي" الذي يحتوي ألف بيت سجل فيها ذكرياته مع أستاذه الأثير لديه التبريزي، و"الرباعيات" التي يبلغ عددها 1959 رباعية، وديوان "المثنوي" (يُعرف بـ"مثنوي مولوي") الذي يتضمن زهاء 26 ألف بيت شعر فارسي، وتظهر فيه شخصيته الفكرية المتصوفة.

استغرق تأليف "المثنوي" هذا -الذي يتوزع على ٦ أجزاء- ٧ سنوات، ويوصف بأنه من ذخائر التراث الأدبي العالمي، وقد وُضعت عليه شروح كثيرة بالفارسية والتركية والعربية، كما تُرجم كليا أو جزئيا إلى عدد من اللغات الأوروبية.

ومن مؤلفاته المنثورة كتاب "فيه ما فيه" المتضمن دروسا ألقاها في مجالسه العلمية وإجابات عن أسئلة وجهت إليه في مناسبات مختلفة، و"مكاتيب" أي رسائله إلى معارفه ومريديه، و"مجالس سبعة" وهو مجموعة مواعظ.

توفي جلال الدين الرومي في قونية يوم 5 جمادى الآخرة سنة 672هـ الموافق 17 ديسمبر/كانون الأول 1273، متأثرا بحمى أصابته.

المصدر : الجزيرة + الصحافة الأميركية