عندما يتحول الهول إلى ضحك.. النكتة السودانية ومحاولة قهر القهر والسخرية من الوباء

‎⁨كاركتير امبدي
كاريكاتير عن الانتشار العالمي لجائحة كورونا، للرسام والفنان السوداني الريح آمبدي (مواقع التواصل الاجتماعي)

قصائد مبكية وقصص حزينة كتبتها أقلام مبدعة، ألهمها ذلك ما تعيشه المعمورة بفعل جائحة كورونا؛ لكن هذا ليس كل المشهد الإبداعي، فهناك شعر، وطرائف، ورسومات كاريكاتيرية، تمثل إبداعا ساخرا صنع في ذات الزمان المر.

ومع ذلك يبقى السؤال عن التفاعلات والسياق الاجتماعي الذي تصنع فيه النكتة والطرفة الساخرة أو "لماذا نصنع النكتة؟" أقوى من سؤال "لماذا نضحك؟" حتى في زمن يكافح فيه البشر للنجاة من جائحة أصابت الملايين.

الطرفة الساخرة

لا تتفق المفردات الواصفة للضحك والسخرية والفكاهة اتفاقا تاما في معانيها، لكن بينها الكثير المتقاطع فيما يراه أهل اللغة، ويجيب الدكتور عمر محمد علي، رئيس قسم علم النفس بكلية الآداب جامعة الخرطوم عن سؤال الجزيرة نت حول سبب صناعة النكتة، قائلا "بدوافع واعية أحيانا، ولا واعية في أحايين أخر".

ويستدرك د. علي متابعاً "بشكل عام تشبع السخرية بعض الحاجات للإنسان، خاصة التي يصعب إرضاؤها بصورة مباشرة، فهي تمكن الفرد من التعبير عن الحرمان، والتشفي، والإحباط، والصراع، والظلم" وفي هذا كثير مما يعيشه الفرد والمجتمع في زمان كورونا الذي فرض واقعا جديدا وحرم الناس مما كانوا يتمتعون به.

ويستطرد مستندا إلى تحليل لعالم النفس النمساوي سيجموند فرويد، فيتابع "وقد تكون وسيلة تنفيس".

أما من يصنع ذلك؟ فالإجابة قد تكون واضحة في التغريدة، أو الكاريكاتير، وربما كانت هي ذاتها تطورا لطرفة قديمة، أما النكتة فالإجابة معقدة ولا شك. ويرى الكاتب الصحفي السوداني محمد عبد العزيز في حديثه للجزيرة نت أن "النكتة مثل الدعاية السوداء ليس لها مصدر معروف، وتعبر في ذات الوقت عن آراء جماعة أو تيار سياسي، وتأتي بغرض التعبير، أو لنقد الواقع عبر قالب ساخر".

وعلى كون السخرية والطرائف مصاحبة لحياتنا إلا أن صوتها يعلو مع الأزمات وتنشط قرائح منتجيها، رغم أن الموقف في الأزمة أشد رهبة من المعتاد، لكن حضور الضحك يكون أجلى وأوضح، وهذا ما لاحظه الأديب عباس محمود العقاد في كتابه (جحا الضاحك المضحك) عندما قال " الهول يتحول فجأة إلى الضحك، بطارئ من طوارئ التغيير، والتبديل، التي تتعاقب في أيام النصر، والهزيمة والقيام، والسقوط بين الجبابرة، وأصحاب الدولات".

أكثر من ابتسامة

وسألت الجزيرة نت وليد الطيب الباحث في معهد الدراسات الاجتماعية بجامعة هاجيتبيه التركية عما بعد الابتسامة، فأجاب "الطرفة أو المنتج الساخر بشكل عام يكشف عن أشياء كثيرة من خصائص المجتمع، وما يعتمل فيه من تغيرات، واهتمام علم الاجتماع بها قديم، فعلى سبيل المثال عام 1711 اقترح المفكر الإنجليزي إيرل شافتسبري أن تناقش النكات بجدية، لأن النكتة الجيدة تنقل بعض الحقيقة على حد تعبيره". ومن الواضح أن هذا ما يفعله المبدعون من أهل الدراية بدورهم المجتمعي.

لكن النظرة السطحية عند بعض المتلقين تمنعهم من إدراك الرسالة بشكلها كاملة، ويعلق فنان الكاريكاتير السوداني الريح أمبدي في إفادته للجزيرة نت قائلا "نظرة البعض إلى فن الكاريكاتير غير شاملة لمضمون ومعاني ما تحمله الرسالة الكاريكاتيرية من قيم ومفاهيم، لذلك انحصر جل تركيزهم على مفهوم السخرية بمعناها المضحك فقط، لا الباعثة على التفكير، المتجهة نحو صياغة أسلوب بصري خفيف الظل، يعكس رؤية الفنان المبسطة لمجمل القضايا الإنسانية المعقدة. وهذا مما يظهر فرقا بين الضحك المجرد والسخرية، وممن تناولوا ذلك الأكاديمي السوري آصف دريباتي في كتابه "السخرية في شعر نديم محمد" وقال "لا يكون الإضحاك هو غرض السخرية الأساس، بل غرضها الأساس يهدف إلى بيان ما في الفرد والمجتمع من هفوات وأخطاء".

كورونا والعدوى والحجر

ومرت السخرية في تعاطيها مع الوباء بمراحل ابتداء من أخباره الأولى في الدول التي كانت بؤر البداية إلى أن ابتليت بها المنطقة، ووصل الناس إلى حظر التجوال والحجر المنزلي، ويرى المراقبون أن المرحلة الأولى كثر فيها الاستهزاء والتنكيت الفج، واكتنفتها الكثير من السمات السلبية، ذلك أن إحساس المواطن في المنطقة العربية بالخطر لم يكن قويا، كما ظهرت بعض حالات التنمر تجاه البلدان التي بدأت من الموجات الأولى للوباء في شكل نكات وأغنيات وكاريكاتيرات، يضاف للتنمر سمات أخرى انتبه لها رسام الكاريكاتير أمبدي  فيما يخص مجاله في إفادته لنا، ويضيف "كثير من الأعمال جاءت عاكسة لصورة الجائحة عند الناس، بما فيها من المبالغة والتضخيم راسمة صورة (دراكولية) وتحولت الجائحة بموجبها إلى حالة من (كورونا فوبيا) الممجدة للفيروس مع تقزيم العقل البشري، مما جعل العمل الفني بمثابة جائحة أخرى تحتاج للنقد والتصويب". ويستثني أمبدي من هم على الشط الآخر الذين تعاملوا بحرفية وتحلوا بالموضوعية، وابتعدوا عن التنمر والإسفاف، مع المحافظة على السخرية. أما الحجر المنزلي فنال النصيب الأكبر من التندر والشعر والكاريكاتير.

وإذا كانت الغالبية ترجع ذلك لكونه تغيرا كبيرا في حياتنا اليومية، فإن الدكتور وليد الطيب ينظر للحجر من زاوية أخرى في إفادته المتصلة للجزيرة نت، قائلاً "الأسرة هي الوحدة الاجتماعية الصغرى القائمة على زوج وزوجة وأبناء، ويدور الصراع على السلطة في هذه الوحدة، لذا في كثير من النكات والكاريكاتيرات تبرز محاولة الزوجة تقليل منازعة الزوج لسلطتها في المنزل (مجالها الخاص) الذي بات يشاركها فيه، لذلك تجد الزوج هو المستهدف في الأغلب ما يمثل استهدافا للسلطة في صورتها النمطية في الوطن العربي".

مهمة توعوية

مع تمدد الوباء وتعدد الاحترازات الصحية والمحاذير الجديدة التي قيدت الحياة، وأبعدت العالم عن المألوف والمعتاد، برزت أهمية التوعية بالمرض والوقاية منه، وضرورة اتباع التعليمات الصحية.

ومارس الإبداع الساخر دورا توعويا في قوالب متعددة تحذر بأسلوب طريف. فمنهم من رسم أو صدح بأغنية خفيفة مطربة ومنهم من صاغ أراجيز على طريقة نظم العلماء أو حاكى المتون، وظهرت عدد من القصائد (وأغلبها باللهجات المحلية) ومن ذلك قول من سمى نفسه المتنرفز الزهجي قبيل العيد:

عيـد بـدارك فـوق الحبس مرتهنا

إن المكـوث بصحن الـدار محمـود

عند الضرورة فاخرج ولتكن حذرا

إن (الزويــل )بعيـن اللص مرصــود

و(اعمل حسابك) و احذر من مكابسة

أو من زحام ففي الزحمات "كوفيد"

لكن مثل هذا الصنيع يحتاج حرفية عالية، وإداركا لدور المبدع. وفي ذلك يرى رسام الكاريكاتير أمبدي "رسام الكاريكاتير يعرف كيف يعكسها فنا وسخرية وجمالا في عقول الناس، بحسه الفني ورؤيته المتفردة، ومخالفة لما يراه الناس في هذا الكون. هذا ما يجب أن يكون عليه الفنان في زمن كورونا.. يعرف متى وكيف يصنع من الفكرة الكاريكاتيرية المتفردة غير المكررة علاجا ناجعا للوباء والسياسة والابتسامة. ويؤكد الطيب على ذلك، ويضيف "الطرفة وسيلة للتوعية سهلة التداول، سريعة الانتشار، بسيطة مستندة إلى موروث ثقافي مشترك، وهذه إيجابيات، أما السّلبي فيتمثل في أن القضية الخطيرة يمكن أن تتحول لأمر غير جاد. كما يتشكل سؤال: هل الاستجابة للمعلومة المنقولة بالطرفة جادة على عكس الوسيلة؟".

‎⁨الكاتب الصّحفي محمد عبدالعزيز⁩ للاستخدام الداخلي فقط
‎⁨الكاتب السوداني محمد عبد العزيز⁩ يرى أن للسياسة تداخلاتها في استخدام النكتة (الجزيرة)

وإذ يتحرج البعض من فكرة الضحك، أو الابتسام عند ارتباط الأمر بالمرض، تبقى الطرفة والإبداع الساخر منتجا إبداعيا مجتمعيا خاضعا للمعايير الثقافية المجتمعية، للخطاب المعتمد على الثقافة والقاعدة المشتركة للتلقي، ما يجعل بعضها مرفوضا بشكل تلقائي خاصة التي تتناول المرضى أو البلاء في أصله.

وتبقى كورونا مسيطرة على المشهد ما يقتضي التفاعل معها، كل بأسلوبه وهذا أمر طبيعي من منظور علم النفس، كما يراه الدكتور عمر في إفادته، قائلاً "هناك منبهات أو مثيرات في البيئة يستجيب لها الإنسان، ويتفاعل معها فيظهر السلوك. وكورونا هي الظاهرة المسيطرة على الأذهان والمشاعر لأشهر متصلة، ما يخلق استجابة لها بشكل جاد أو هازل".

لكن عمر ينتقد بعض هذا المنتج خاصة المنكر لوجوده، واصفا إياه بالمسنود من السلوك الفوضوي الجمعي. وعطاء علماء النفس في تفسير السخرية وتبريرها قديم، ومن أهم الذين تناولوا ذلك سيغموند فرويد في كتابه "الأنا والهو" بفرضياته عن الإستراتيجيات النفسية، ويعد الفكاهة من الآليات الناضجة للدفاعات النفسية "هي تعبير عن الأفكار أو المشاعر التي عادة ما تكون ذات طبيعة مؤلمة بصورة مزاحية تعطي البهجة للآخرين".

وتبقى السخرية والنكتة في أي مكان شأنا متغلغلا بالنفس والثقافة والمجتمع، لذا يقول الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون في كتبه (الضحك) "لا مضحك إلا ما هو إنساني، والنكتة محاولة لقهر القهر.. وهتاف الصامتين".

المصدر : الجزيرة