بين التجسس والتمرد والفن.. كيف تحول فنانون أوروبيون من أدلاء للحملات الاستعمارية في الشرق لمبدعين عالميين

لوحة "القاهرة" رسمها الفنان الأسكتلندي دافيد روبرتس وتظهر فيها القلعة أعلى التلة

عبد الرحمن مظهر الهلّوش-القامشلي

أثناء حقبة الاستعمار الغربي للعالم العربي، رافق الحملات العسكرية باحثون وكتبة ورسامون وكثير من المغامرين الذين انبهروا بجمال الشرق الذي لا يقاوم، وتفجرت قرائحهم الفنية في الأرض الجديدة التي قدموا إليها مجندين أو للمساعدة في رسم الخرائط العسكرية.

ويقول الفنان التشكيلي السوري غيلان الصفدي إن الرسامين الأوروبيين الذين قدموا إلى الشرق رسموا الحياة الاجتماعية بكل تفاصيلها، ولم يساعدوا الاستعمار إنما حاولوا نقل واقع الحياة الشرقية وتفاعلوا معه، ورسموا المدن بكل تفاصيلها، وأسهمت لوحاتهم في جذب الأوروبيين لزيارة الشرق، لا سيما مع غياب الكاميرا.

ويستدرك الصفدي للجزيرة نت بأنه ربما استفاد الاستعمار من بعض رسوم الفنانين الاستشراقيين الذين وصفوا الشرق بأنه متخلف، في بعض رسومهم، خاصة اللوحات التي ركزت على الجواري والعبيد.

أسرار الشرق الباهرة

أما عن بدايات الاستشراق الفني، فقد تكونت في عام 1893 جمعية الفنانين المستشرقين الفرنسيين، التي تزعمها مدير المحفوظات في متحف اللوكسمبورغ ليونس بنيديت، الذي اهتم بدراسة الحضارات الشرقية القديمة، لا سيما العمارة والزخرفة الإسلامية، وكان من أول أنشطة تلك الجمعية تنظيم أول معرض للفن الإسلامي أُقيمَ عام 1893، في أروقة متحف القصر الكبير (غراند باليه) في باريس.

كان الشرق العالم الجديد -الذي شُرِعت أبوابه بالترسانة العسكرية- غارقا في متع الجمال والغرائبيّة والإبهار، الجنات المترامية في خلاء الصحراء، مدن باهرة وغامضة تلتحف بالأسرار.

تلك المشاهد كانت الأكثر تصويرا في لوحات المستشرقين الغربيين، وتعددت الموضوعات التي جسدها الفنانون التشكيليون في لوحاتهم، وشملت حفلات الزفاف والختان وجلسات المقاهي والطقوس الرمضانية، على سبيل المثال.

يرى الفنان التشكيلي الصفدي أن الشرق أثر في الفنانين المستشرقين في عدة مجالات، كونه أسس التجريد؛ كالزخارف في المساجد، وصوفية الأشياء والأشكال والأماكن واللون والشكل، وقصص الشرق الغامضة التي أثرت على الفن الأوروبي بطريقة ملهمة.

لوحة “المدرسة” للفنان النمساوي لودفيغ دوتيش (ويكي كومنز)

روائع فنيّة

منذ عام 1480، وفد الفنان الإيطالي الشهير جنتيلي بلليني (1429-1507) قادما من مدينة البندقية الإيطالية على الأستانة، بناء على طلب من السلطان العثماني محمد الفاتح، وعاش معالم حضارة كان يكتنفها الغموض والسر؛ إذ كانت العادات والأزياء وطرز العمارة والزخرفة والمنمنات الفنية؛ موضوعات جديدة بقيت زاده في بلاده.

وكذلك الرسام الأسكتلندي دافيد روبرتس (1796-1864)، الذي رسم معالم مصر، ومن أعماله التي وضعته ضمن المستشرقين الكبار من الفنانين الأوروبيين قناطر على النيل، وجامع الغوري، وقصر محمد علي، وهناك لوحات شرقية لروبرتس تصور البتراء الأردنية، وأخرى للمعبد الكبير في بعلبك اللبنانية.

وتُصور لوحة الرسام والمستشرق النمساوي لودفيغ دوتيش (1855-1935) "حارس القصر" معتدا بنفسه وهو يرتدي ملابس غنية بالزخارف، ويقف في حالة تأهب دائم، ويرتدي حذاء ذهبيا لامعا ويحمل مجموعة من الأسلحة الذهبية، وعلى رأسه قلنسوة فارسية من الفولاذ، وإلى جانبه درعه المائلة على الأرض.

وسافر الفنان النمساوي رودولف إرنست (1854-1932) عام 1890 إلى إسطنبول، حيث صوّر في إحدى لوحاته واجهة قبر السلطان سليم، الواقع في منطقة آيا صوفيا.

ويؤكد الصفدي أن الرسامين المستشرقين كانوا مؤرخين عبر نقلهم لحظات الحياة اليومية في الشرق في تلك الفترة للأوروبيين في بلدانهم.

لوحة البتراء الأردنية رسمها الفنان دافيد روبرتس عام 1839 (ويكي كومنز)

التجسس والفن

كانت رحلات الفنانين ضمن مهمات عسكرية أو دبلوماسية، مثلما حدث مع الرسام الفرنسي أوجين ديلاكروا (1798-1863) بعد الاستيلاء على مدينة الجزائر عام 1830؛ فقد اتجه الضابط العسكري الفرنسي أوجين ديلاكروا مع أحد الدبلوماسيين ويدعى لوكونت دي مورناي إلى المغرب عام 1832 في مهمة دبلوماسية تجسسية.

وضمن هذا السياق عمل الرسام الفرنسي أنطوان جان جرو (1771-1835)، عندما سافر إلى مصر، حيث رسم لوحة "معركة الناصرة" 1801، مجسدا زيارة بونابرت إلى مرضى الطاعون في يافا 1804.

ومن الفنانين المستشرقين ورسامي المعارك هوراس فرنيه (1789-1863) الذي حل هو الآخر في الجزائر عام 1832، منجزا عدة لوحات تعبر عن انتصار فرنسا ونشوتها باحتلال الجزائر، حيث أظهر فرنيه في لوحة "سقوط قسنطينة" تتويج الجنرال الفرنسي لويس لاموريسيار.

ولم يخرج الضابط البريطاني توماس إدوار لورنس (1888-1935) أو ما عرِف "بلورانس العرب" عن هذا الاتجاه، فقد رسم لوحة تمثل عربيا يمتطي جواده، بالحبر الأسود.

ويقول الفنان التشكيلي سعود العبد الله إن الاستشراق لم يكن بهدف الرومانسية أو الفن في حد ذاته، بل لغايات أخرى سياسية ربما.

ويتابع العبد الله للجزيرة نت أن هذا الاتجاه هدف إلى "تكريس وتعزيز الوجود الغربي، وإظهار مجتمع شرقي جاهل يعطي الحق للغربي المتحضر، وتغيير كل ما هو متجذر من عادات لها ارتباط بالدين والتقاليد".

الفنان التشكيلي سعود العبد الله يرى أن الغايات السياسية حاضرة بقوة في الاستشراق الفني (الجزيرة)

شمس الشرق

وكان لامتداد الصحراء وشمسها الحارقة أثر فاعل في لوحات المستشرقين، كما هو الشأن مع الفنان الفرنسي غوستاف غييومي (1840-1878)، الذي اكتسب -بلا منازع- لقب "فنان الصحراء". وكذلك ألفونسو إتيان دينيه (1861-1929)، وهو رسام بوابتها منذ أن قدم إليها عام 1905، حيث دخل الإسلام، وغير اسمه إلى ناصر الدين دينيه، وأنجز عدد من اللوحات عن الصحراء الجزائرية.

أَما الفنان يوجين فرومنتان (1820-1876) فمن أشهر لوحاته "الصيد بالصقور" التي رسمها عام 1863، وهي من أجمل ما رسم، وكذلك رائعته "أرض العطش" التي أنجزها عام 1869، ويظهر فيها بشاعرية متناهية قساوة الصحراء وجفاءها.

ويوضح الصفدي تأثر الفنانين الأوربيين بالشرق بشكل لافت، خاصة من ناحية الضوء؛ فالشمس أثرت بشكل كبير في إنتاجهم الفني لأن أوروبا رمادية والشرق مضيء، حيث شاهدوا اللون بروح ثانية، وكان هناك فنانون أوروبيون استطاعوا أيضا ابتكار مدارس فنية خاصة بهم انطلاقا من تأثرهم بالثقافة الشرقية.

الحرملك

إن شخصية المرأة الشرقية تنضح شاعريّة ورهافة ورخاء، مما يذكرنا بمعالم كتاب "ألف ليلة وليلة". هذا الكتاب الذي شكّل أول انطباعات المستشرقين، ولم يخل من تصوير النساء في المشرق، وجنح به خيال الفنانين الغربيين لجوانب حسية مبالغ فيها.

الصفدي يرى أن الاستعمار الغربي ربما استفاد من تصوير المستشرقين للشرق كعالم مختلف (الجزيرة)

ويقول الفنان التشكيلي سعود العبد الله إن المرأة الشرقية شكلت مكانة مهمة في لوحات المستشرقين، بلباسها المطرز والموشى والطويل والفضفاض، وبألوانه الصارخة تحت نور شمسٍ ساطعة، ويجب ألا نغفل أن زينة المرأة الشرقية تخطت الزي، واحتلت الجسد بواسطة الوشم والحناء والحلي.

وترصد فاطمة المرنيسي في كتابها "العابرة المكسورة الجناح.. شهرزاد ترحل إلى الغرب" الرحلة التي قامت بها الفتاة الفارسية من الشرق إلى الغرب، متتبعة الكيفية التي تلقاها بها الرجال الشرقيون والغربيون، فقد صورها الرسامون الغربيون في لوحاتهم شبه عارية في مجلس الملك.

وتقارن المرنيسي بين صورة شهرزاد في عقول أهل الشرق وحكاياتهم كفتاة ذكية وقارئة ومثقفة، وفي تصاوير الغرب الذين ترجموا قصصها للغات اللاتينية، وأضفوا عليها سمات "الحريم" من الخضوع والاستسلام.

التبدل

وتبدلت الرؤية الاستشراقية وعدم وجود التصوير الرومانسي للشرق جاذبيته وسحره مع اختراع الكاميرا وآلة التصوير، لكن الباحث السوري خليل الخليل يقول "لا يزال تأثير اللوحات الاستشراقية مستمرا، وما تزال قائمة حتى اليوم، بل وتزداد يوما بعد يوم".

ويتابع الخليل للجزيرة نت معتبرا أن الاستشراق الفني جزء لا يتجزأ من ممارسة الفنانين المعاصرين اليوم، وقد تزايد الاهتمام العالمي بالاستشراق في الفن بصورة ملفتة للنظر، والدليل على ذلك سلسلة المعارض الفنية التي أُقيمت لعرض أبرز اللوحات الخاصة بالاستشراق الفني في عدد من العواصم العالمية والعربية.

المصدر : الجزيرة