أمل مفقود وأفق مسدود.. مثقفون إسرائيليون يروون رحلة الهجرة بلا عودة

المثقفون الإسرائيليون "المنفيون": نيف جوردون (يمين)، وأرييلا أزولاي وزوجها أستاذ الفلسفة آدي أوفير (الجزيرة + وكالات)

ترك العديد من المثقفين والأكاديميين والنشطاء إسرائيل وقرروا الهجرة منها ليختاروا حياة المنفى، بعد أن تعرضوا للمضايقات والإسكات، ولم يعد لديهم من خيار سوى المغادرة وإلى غير رجعة.

وفي تقريرها الذي نشرته صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، تحدثت الكاتبة شاني ليتمان مع بعض هؤلاء المثقفين المهاجرين الذين أسس بعضهم حركات سياسية أو ترأسوا منظمات يسارية وجمعيات حقوقية، قبل أن يُجبَر بعضهم على ترك وظائفهم الأكاديمية بسبب المعتقدات والأنشطة السياسية، بعدما شعروا أنه لم يعد بإمكانهم التعبير عن آرائهم في إسرائيل دون خوف، ولم يعد لديهم مكان داخل المجتمع الإسرائيلي.

ناشطان في بروكسل

واستعرض تقرير الصحيفة قصة إيتان برونشتاين أباريسيو (60 عامًا) وشريكته إليونور ميرزا (40 عامًا) وهي أكاديمية مختصة بالأنثروبولجيا السياسية، اللذين غادرا إسرائيل نهائيا وكانا ناشطين يساريين معروفين، أسسا منظمة "ذاكرات" التي تقول على موقعها الرسمي "إنّ تحمل اليهود المسؤولية عن حصتهم في النكبة الفلسطينية شرط حتميّ لإرساء سلام عادل ومصالحة بين سكان البلاد اليهود والفلسطينيين".

وعبر الثنائي للصحيفة الإسرائيلية عن يأسهما من التغيير في إسرائيل، وقالا إنهما لم يعودا قادرين على تحمل الوضع بعد الآن، وانتقلا إلى بروكسل -التي وصفها أباريسيو بالمنفى- دون أي خطط للعودة.

أما أباريسيو الذي ولد في الأرجنتين فقد هاجر إلى إسرائيل مع والديه عندما كان في 15 من عمره، وهناك غيّر اسمه وأدى الخدمة العسكرية ونشأ في كيبوتس (مستوطنة زراعية عسكرية)، قبل أن يقوم بمراجعات فكرية قادته إلى المشاركة في تأسيس منظمة غير حكومية تسعى لرفع مستوى الوعي بالنكبة الفلسطينية وحق العودة.

وتحدث أباريسيو من بلجيكا إلى الصحيفة الإسرائيلية عن إنقاذ ابنه من نظام التعليم العسكري الإسرائيلي، وقال إنه لا يرى أفقاً للإصلاح ولا السلام الحقيقي ولا الحياة الجيدة في إسرائيل، معتبراً أن هذا ما أدركه الكثيرون من الذين بحثوا عن مكان آخر للعيش فيه.

هجرة بلا عودة

تقول الكاتبة إن العديد من نشطاء ما يسمى اليسار الراديكالي غادروا في العقد الماضي، وبينهم مؤسسون لبعض أهم المنظمات غير الحكومية، مثل: بتسيلم، وكسر الصمت، وائتلاف النساء من أجل السلام، وذاكرات، ومتسبين، والأخيرة هي حركة اشتراكية معادية للصهيونية أسسها مطلع ستينيات القرن الماضي أعضاء سابقون في الحزب الشيوعي الإسرائيلي ناصروا حل دولة واحدة تضم السكان العرب واليهود.

وتضيف أن معارضة الحكومة الإسرائيلية هي ما دفع العديد من هؤلاء المثقفين إلى المغادرة، وأن بعضهم رفض إجراء مقابلات صحفية بسبب شعورهم بعدم الارتياح والقلق من المستقبل الاقتصادي والشخصي.

ويستعرض تقرير الصحيفة نموذج نيف جوردون (54 عاماً)، وهو أكاديمي إسرائيلي وكان رئيساً لقسم السياسة والحوكمة بجامعة "بن غوريون" في بئر السبع، وشارك في العديد من المظاهرات التي نظمتها حركة "السلام الآن"، وكان جزءًا من حركة رفض الخدمة في الجيش الإسرائيلي، وأعلن دعمه لحركة المقاطعة واصفاً إسرائيل بأنها دولة فصل عنصري.

وأصبح جوردون هدفاً للعديد من الحملات الإسرائيلية، ودعا وزير التعليم عام 2012 جدعون ساعر إلى إقالته، وقال إنه تلقى العديد من التهديدات، لكن ما دفعه للمغادرة في النهاية لم يكن صراعه مع مؤسسة التعليم العالي ولا التهديدات الشخصية، وإنما القلق على مستقبل أبنائه بعدما غاب الأفق، ليعمل لاحقاً في لندن التي استقر بها مع أسرته.

ومثل جوردون، يقول زميله الأكاديمي المختص بدراسات المساواة في التخطيط المكاني والإسكان حاييم يعقوبي الذي انتقل إلى إنجلترا أيضاً، إنه لم يغادر بسبب المضايقات وإنما لتساؤله ما الذي يريده لنفسه وأولاده بعد أن تحولت إسرائيل إلى رأس المشروع الاستعماري وأصبحت دولة فصل عنصري.

وأشار يعقوبي (55 عاما) إلى صعوبة الهجرة في سن متأخرة، وقال إن العديد من زملائه في إسرائيل -حتى بين اليسار الراديكالي- اعتبروا رحيله خيانة، مضيفا أن العنف السياسي في إسرائيل هو ما دفعه إلى إدراك أن الخروج هو الخيار الوحيد بالنسبة له.

التاريخ المحتمل

كما استعرض تقرير الصحيفة الإسرائيلية قصة المؤلفة والفنانة والمخرجة أرييلا أزولاي التي كانت ضحية اضطهاد سياسي دفعها إلى مغادرة إسرائيل مع زوجها آدي أوفير أستاذ الفلسفة والمحاضر بجامعة تل أبيب وهو شخصية بارزة في اليسار الإسرائيلي.

وقال أوفير للصحيفة الإسرائيلية إن تلقي أزولاي عرض عمل في جامعة براون الأميركية العريقة هو ما شجعها على المغادرة بلا عودة، وأضاف "أصبحت التنازلات السياسية والأخلاقية التي تنطوي عليها الحياة في إسرائيل لا تطاق".

ولا ينكر أوفير أن الدولة التي يعيش فيها (أميركا) هي المسؤولة عن "الأخطاء المروعة"، ويضيف "بهذا المعنى، فإن الولايات المتحدة مكان رهيب، ومنذ انتخاب دونالد ترامب أصبحت أكثر فظاعة".

ويتابع "عندما تعارض النظام في الولايات المتحدة فأنت لست وحدك.. أنت جزء من كتلة كبيرة ونشطة ومبدعة.. يمكنني التحدث عن ذلك مع الطلاب بحرية مطلقة، بينما في سنواتي الأخيرة في إسرائيل شعرت أنه عندما أتحدث عن السياسة في الجامعة، كان يُنظر إليّ كأنني جسم غريب".

ورفضت أزولاي إجراء مقابلة مع الصحيفة الإسرائيلية، لكنها أرسلت بيانًا مكتوبًا قالت فيه إنها تؤيد حركة المقاطعة ولا تريد إجراء مقابلة مع صحيفة صهيونية، ورفضت تعريف نفسها بصفة "إسرائيلية".

وتابعت أنها ليس لديها رغبة في مشاركة ألم الهجرة -بدافع الشعور باستحالة العيش في المكان الذي ولدت فيه- مع جمهور صهيوني ينكر الألم والخسائر التي ألحقتها دولة إسرائيل -ولا تزال- بسكانها الفلسطينيين، "وبطريقة مختلفة بحق مواطنيها اليهود".

إلغاء الإمبريالية

في كتابها الصادر حديثاً بعنوان "التاريخ المحتمل.. إلغاء الإمبريالية"، تقدم أزولاي ما تسميها "دعوة عاجلة إلى نبذ الإمبريالية وإصلاح العالم العنيف الذي نتشاركه"، داعية إلى استكشاف الأسس الاستعمارية للمعرفة ورفض قيودها وانتهاكاتها العديدة.

وتجادل أزولاي بأن المؤسسات التي تصنع عالمنا، مثل مؤسسات الأرشيف والمتاحف وأفكار السيادة وحقوق الإنسان وحتى التاريخ نفسه، كلها تعتمد على أنماط التفكير الإمبريالية التي تقسم السكان إلى مجموعات تحكمهم امتيازات مختلفة.

في كتابها "التاريخ المحتمل.. إلغاء الإمبريالية"، تستعرض المؤلفة أرييلا أزولاي حالات الاستعمار الحديث المختلفة

ومن خلال ممارسة ما تسميه "التاريخ المحتمل"، تجادل أزولاي بأنه لا يزال بإمكاننا رفض العنف الإمبراطوري الذي حطم المجتمعات والحياة والعوالم، من الشعوب الأصلية في الأميركتين في لحظة الاستعمار، إلى الكونغو التي حكمها ملك بلجيكا الوحشي ليوبولد الثاني، ومن الفلسطينيين المحرومين منذ نكبة عام 1948 إلى اللاجئين المهجرين في عصرنا.

وتورد في كتابها قصصا كثيرة، منها لرجل فلسطيني عجوز رفض مغادرة قريته عام 1948، وأخرى لامرأة مجهولة الهوية في برلين التي مزقتها الحرب، وثالثة عن نهب أشياء ووثائق من عوالمهم ثم أصبحت الآن في الأرشيفات والمتاحف، وترسم عبر هذه القصص الطرق التي سعت عبرها الإمبريالية إلى صياغة الزمان والمكان والسياسة.

وبدلاً من البحث عن مستقبل جديد، تدعوا أزولاي إلى إعادة تدوير التاريخ ونبذ المعرفة الإمبريالية، ومواصلة رفض العنف الاستعماري من خلال التعريف بحقيقة ما تم اختراعه على أنه "ماضٍ"، وجعل إصلاح العوالم الممزقة جوهر السياسة.

المصدر : الجزيرة + الصحافة الإسرائيلية