الشاذلي القليبي.. الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية يرحل تاركا وراءه "القلق العربي"

الشاذلي القليبي
الشاذلي القليبي جمع بين العمل السياسي الإقليمي والنشاط الثقافي التونسي (الفرنسية)

بدرالدين الوهيبي-تونس

لم يدر في خلد الشاذلي القليبي وهو ينزل من سفينة "شانزي" الفرنسية التي رست عام 1945 بميناء مرسيليا حاملا حقائبه وطموحا في دراسة الطب، أن رسالة من أستاذه الأديب والمفكر التونسي محمود المسعدي ما زالت خلفه تشق البحر لتحمل كلمات ستغيّر مسار حياته وتجعله يلتحق بصفوف طلبة اللغة والآداب العربية بجامعة السربون، ومنها إلى مسيرة فكرية وسياسية حافلة كانت آخر محطاتها أمانة جامعة الدول العربية بين عامي 1979 و1990.

لم يخطئ حدس أستاذه المسعدي عندما قال له في نص رسالته "بلغني أنك تتجه إلى الدراسات الطبية، وإن كنت تظنّ أنه المنهج الذي يمكنك أن تفيد به بلادك فأنت مخطئ"، إذ رأى فيه بذرة لقامة فكرية سخّرت حياتها فيما بعد للمشاركة في تأسيس أبرز المحطات الثقافية والسياسية في التاريخ الحديث للبلاد التونسية أستاذا جامعيا ومفكرا وكاتبا ودبلوماسيا عايش أبرز الزعماء والقادة العرب في فترات استثنائية وصعبة من تاريخ الأمة والجامعة العربية المعاصر.

وفارق الشاذلي القليبي الحياة يوم 13 مايو/أيار الحالي عن سن تناهز 94 عاما في منزله بقرطاج في الضاحية الشمالية لتونس العاصمة.

مؤلف وسياسي
لم تكن مؤلفات الشاذلي القليبي التي خطّها طوال مسيرته الفكرية إلا امتدادا لمواقف وقناعات ذاتية بلورها أثناء توليه أمانة الجامعة العربية.

ونذكر من بين مؤلفاته التي عكست هذه القناعات بضرورة إعادة النظر في أولويات التطور العربي وكيفية رأب الصدع الذي بدأ يقوّض بناء الأمة، وخاصّة التجاذبات تحت سقف الجامعة العربية، كتب "العرب أمام قضية فلسطين"، و"أمة تواجه عصرا"، و"من قضايا الدين والعصر"، و"الشرق والغرب"، و"السلام العنيف اليوم وغدا".

وحمل آخر إصداراته الذي نشر عام 2019 بعنوان "تونس وعوامل القلق العربي"، إضافة إلى العديد من المقالات السياسية والبحوث التي تناولت العلاقة بين العروبة والإسلام، وقضية المرأة العربية، والنفط، والنظام الاقتصادي العالمي الجديد.

ويرى الراحل في كتابه الأخير أن تقهقر مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي كان لها شأن عظيم في النهوض الحضاري، يعود إلى تخلّي فئات منها عن منهاج النبوة الداعي إلى اجتناب الغلوّ في الدين لأنه يؤدي إلى الخروج عن الجادّة، مما أفضى إلى إهمال العلوم التي تدفع نحو تطوّر وتنمية المجتمعات.

واستقال القليبي من الأمانة العامة لجامعة الدول العربية التي تولاها مدة 11 عاما على خلفية الهجوم الأميركي على العراق إبان غزوه للكويت، وضمّن في نص استقالته موقفه الداعم للكويت التي تتعرض للعدوان ودون تزكية لتصرفات العراق، معلنا رفضه لكل عدوان جماعي أجنبي عليه لا يهدف إلى الذود عن الشرعية الدولية، بل "إلى مآرب معروفة وحاجات في نفس يعقوب" حسب نص الاستقالة.

مهندس للثقافة التونسية
كان على الشاذلي القليبي إبان توليه أول كتابة دولة للشؤون الثقافية التونسية عام 1961، أن يوضّح رؤيته للسياسة الثقافية التي يريدها للبلاد في مجتمع حديث الانفصال عن المستعمر الفرنسي، غير قادر على استيعاب العديد من العناصر الجديدة، إضافة إلى الغموض في المقاصد والمنطلقات والتوجهات التي شابت الحياة الثقافية بتونس في تلك الفترة.

وسعى القليبي منذ البدء -رفقة أعضاء حكومة بورقيبة الثانية- إلى تعميم التعليم بالتوازي مع إرساء مناهج وقواعد للعمل لدى كتابة الدولة للشؤون الثقافية التي باشرت في إزالة العراقيل المادية والمعنوية واتخاذ التدابير التي من شأنها تحقيق النهوض الثقافي، دون الدفع نحو قوالب ثقافية محدّدة، إذ اعتبر الراحل أن الثقافة جهد إبداعي ينبع من المبدعين والمثقفين، وأن وزارة الثقافة لا تخلق الثقافة.

وانبثقت عن تصورات الحكومة التونسية الجديدة آنذاك والتي رسم القليبي خطوطها العريضة، حركتان: الأولى توجّهت نحو الإحاطة بالنخبة وتسييرها نحو الإبداع والخلق وتأصيل دور المراكز الشبابية فيها، أما الثانية فتهدف إلى الرفع من مستوى الشعب مع التعويل دائما على دور الشباب التونسي، وذلك بغية إيجاد تفاعل إيجابي بين الثقافة الشعبية وثقافة النخبة.

الكتاب والأسرة
يقول الكاتب والمسرحي التونسي رجاء فرحات معدّدا خصال الراحل إنه أثناء تولي القليبي وزارة الثقافة في الستينيات شيد قرابة 200 دار ثقافة في جميع ولايات البلاد، كما يعود له الفضل في وجود 300 مكتبة جهوية كان يجوب البلاد لتركيزها.

وأضاف فرحات في شهادته أن القليبي كان يطلب من ممثلي البعثات الدبلوماسية للبلدان الصديقة في تونس إرسال كتب بالعربية والفرنسية، لإعطاء التونسيين أساسيات الثقافة في تلك الفترة.

ومثّل ظهور مسرح الطفل مطلع الستينيات أحد أهم ثمار سياسة القليبي الثقافية في تونس، ليعايش جمهور التونسيين تجربته الأولى عام 1963 معتمدا مبدأ تطوير الأسرة والإحاطة بالأمومة وتقديم حلول في شكل عروض للمشاكل التي تعانيها الأمهات في تلك الفترة، إضافة إلى ظهور العديد من الفرق المسرحية التي لا تزال حاضرة إلى يومنا هذا، بجانب الفنانين والمبدعين في عديد المجالات.

لم يخف الشاذلي القليبي في تصريحاته الأخيرة انبهاره بالمظاهر الثقافية التي شهدها في فرنسا أثناء فترة دراسته بها، ولعل هذا الانبهار المشوب بحب كل ما من شأنه أن يرفع تونس إلى مصافّ البلدان المتحضرة، كان المحرك الأساسي الذي دفعه إلى تطويع هذا النموذج وفقا لثقافة بلاد تخطو خطواتها الأولى بعد الاستعمار.

المصدر : الجزيرة