التونسي الشطي ينفض الغبار عن فن المقامة ليترجم هموم العرب

منيرة حجلاوي-سوسة

"حدّثنا أحدهم، أردتُ يوم أمس شيئا من الأنس، فخرجتُ رفقة صديق لي مخلص تستهويه الفنون فيرقص، أقرع ألحب سمين قريب إلى النفوس أمين، وقصدنا شاطئ أبي جعفر نتدرب على السباحة الفنية والرحلات السياحية، أنا على دراجة نارية في محركها قوة خفية تدفعها الطاقة الذرية..".

لم يتجاوز الصحفي وأستاذ الإعلام والاتصال التونسي كمال الشطي الخامسة عشرة من العمر عندما كتب أولى مقاماته، وكانت بمثابة "فذلكة" استوحاها من يوم صيفي جميل بمحافظة سوسة قضاه مع أحد أصدقائه في اللهو والمرح.

افتتان
وتأثر الأديب التونسي منذ نعومة أظفاره تأثرا كبيرا بفن المقامة وافتتن به أيما افتتان، واكتشف ولعه به عندما درس مقامات بديع الزمان الهمذاني في المرحلة الثانوية، لينتقل فيما بعد من مرحلة الإعجاب إلى الإبداع والكتابة والإنتاج، فصاحبه هذا العشق إلى غاية اليوم.

حافظ الشطي على مميزات المقامة كجنس أدبي، واستلهم من الهمذاني ولم يقلّده -كما يؤكد للجزيرة نت- فأبقى في مقاماته على "أبي الفتح الإسكندري" بطل الهمذاني، بما يمثله من شخصية الأديب البائس المتحيّل وتيمّنا بما تحمله كلمة "أبي الفتح" من تفاؤل وخير.

ويلاحظ قارئ مقاماته التزامه بالسجع الذي يهدف إلى شد انتباه المتلقي، وبشخصية الراوي والحيلة، وأهم المحسنات البديعية.

مرحلة الإنتاج
ترجم الشطي (68 سنة) ولعه بالمقامة بإصدار أول مجموعة له عام 2002 بعنوان "سبع عشرة مقامة في مغامرات البيداء والجبل" في عهد الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، وكانت مغرقة في الترميز والإيحاء لانعدام حرية التعبير حينها، بحسب تصريحه.

ويقول إن من يقرأ هذه المجموعة قراءة عادية سيراها تتحدث عن مشاهد صيد عادية، لكن من يتعمق فيما وراء سطورها سيجد نقدا لاذعا للنظام السابق وللأوضاع السياسية والاجتماعية السائدة حينها.

استفاد الشطي من مناخ حرية التعبير الذي منحته الثورة التونسية للبلاد، وأصدر سنة 2018 مجموعة مقاماته الثانية بعنوان "ضحك كالبكاء" التي تجاوز فيها مرحلة التلميح إلى التصريح الواضح.

الأكاديمي والكاتب التونسي كمال الشطي يعبر من خلال المقامات الأدبية عن الذات العربية المتأزمة (الجزيرة)يعبر
الأكاديمي والكاتب التونسي كمال الشطي يعبر من خلال المقامات الأدبية عن الذات العربية المتأزمة (الجزيرة)يعبر

المقامة والواقع
وبقدر ما تُضحك هذه المجموعة قارئها العربي ظاهريا بقدر ما تبكيه إذا تعمّق في معانيها، حيث سيجد فيها ذاته المتأزمة واليائسة من مختلف مكونات الطبقة السياسة الحاكمة حاليا في تونس والعالم العربي.

ومن أبرز مقامات هذه المجموعة مقامة "الإعلام" وهي ناقدة للفوضى الإعلامية السائدة في القنوات التلفزية والإذاعية الحالية في تونس، و"مقامة الليل" التي تعالج أوضاع الأنظمة العربية المستسلمة لهيمنة القوى الغربية. 

ويقول في خاتمتها "أما بنو أمتي العرب فإنهم ما زالوا يتخبطون بين السكر والمخدرات، فهذا يبني قاعدة للتخريب والظلمات، والآخر يتلمّس في ثقب الباب مفتاح النجاة".

أسلوب طريف
لا يعيش الشطي بمعزل عن مشاغل المواطن التونسي والعربي على حد السواء، حيث يستلهم قصص مقاماته من واقعه المعيشي اليومي بأسلوب طريف، ولكنه ناقد رافض لأوضاعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتدهورة.

ومن بين أحدث كتاباته مقامة "الأحزاب" الناقدة لمختلف الأحزاب الحاكمة في تونس، يقول فيها "ترك أبو الفتح أحزاب الساحة، ممجا هذه المناحة. وانطلق يبحث في دفتي جريدة الرائد، فانبهر لكثرة الأسماء المستمدة من قيم الوطنية وتضحية الشهداء..". 

"صفعة القرن"
وتعبيرا عن رفضه الشديد لما يسمى "صفقة القرن" التي أعلنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، كتب الشطي مقامة "صفعة القرن" الناقدة للاستلام والترحيب العربيين بهذه الصفقة، وفق تأكيده.

يقول فيها "قال أبو الفتح: ولجت الخان وجلست إلى الخوان، أنصت إلى خطيب أصيب بالخنان، يخنخن من خياشيمه فيصفع الآذان، وهو يلعن كل من باع القضية أو خان، قائلا إن الحل يكمن في حل، توصل إليه صاحب العقد والحل..". 

الشطي يقول إنه تجاوز في الكتابة مرحلة الإيحاء إلى التصريح الواضح (الجزيرة)يقول
الشطي يقول إنه تجاوز في الكتابة مرحلة الإيحاء إلى التصريح الواضح (الجزيرة)يقول

استفاد الشطي من أسلوب المقامة البديع والموجز واللغة العربية الجميلة والثرية حتى يؤثر إيجابيا في نفسية المتلقي، باعتبار أن المقامة "تنغرس مباشرة في الوجدان".

صعب المراس
يرى الشطي أن المقامة كجنس أدبي هي الأشد تأثيرا اليوم، والدليل على ذلك هو التفاعل الكبير الذي تلقاه بعد إصداره مجموعتيه من تونس وخارجها كالأردن وفلسطين والجزائر ومصر.

ومن جهة ثانية، يرجع ندرة الكتّاب في هذا الجنس إلى أنه "فن صعب المراس من حيث إتقان استعمال المحسنات البديعية بكل تلقائية، وهي إمكانيات لا تتوفر لأي كان لأنها موهبة"، بحسب تعبيره.

يستعد الشطي لإصدار مجموعة مقاماته الثالثة التي ستنهل من واقعه التونسي الداخلي والعربي، وهو مصرّ على الاستمرار في الكتابة بهذا الفن "ما دام يشعر بآلام المواطن العربي ومشاغله".

المصدر : الجزيرة