حوار الفنون والأديان.. قصة الخلق في أعمال محمد راسم وميكائيل أنجلو

مايكل أنجلو مع فنان المنمنمات الجزائرية محمد راسم، كصورة رئيسة
فنان عصر النهضة الإيطالي مايكل أنجلو (يسار) وفنان المنمنمات الجزائرية محمد راسم (مواقع إلكترونية)

فضيلة بودريش-الجزائر

كثيرون هم الفنانون الذين حملت أعمالهم القيم النبيلة وغازلت الحياة بعذوبة، وجعلوا الألوان على لوحاتهم تتكلم بلغة جمالية راقية وحس إنساني فطري صادق، ويمكن الإشارة إلى لوحتين تشكيليتين خالدتين عبرتا عن قصة الخلق ببعد إنساني حي، حملتا ملامح من تاريخ البشرية وقالتا الكثير مما يمكن قوله عن الحوار بين الأديان.

ومؤخرا، طرح الباحث والناقد التشكيلي العراقي عبد الرحمن جعفر الكيناني فكرة مثيرة باستعراض مقارن بين لوحة "تاريخ الإسلام" للرسام الجزائري محمد راسم (1896-1975)، ورسام عصر النهضة الإيطالي ميكائيل أنجلو في لوحته التشكيلية "خلق آدم"، وخصص الكيناني دراسة في كتابه "الفن في حوار الأديان الأزلي " للموضوع.

واستشهد الكيناني بلوحتين أيقونتين في الفن التشكيلي، سحرت أولاهما الغرب والشرق في آن واحد بعد أن اقتبسها فنان عصر النهضة من "الكتاب المقدس"، مستحضرا "قصة خلق آدم" كما جاءت في سفر التكوين؛ لينتج لوحة غاية في الدقة والرهبة بسقف كنيسة سيستين في الفاتيكان، ملتزما بالتسلسل الزمني للوقائع من اليمين إلى اليسار.

‪‬ لوحة خلق آدم لمايكل آنجلو في سقف كنيسة سيستين الإيطالية(مواقع التواصل)
‪‬ لوحة خلق آدم لمايكل آنجلو في سقف كنيسة سيستين الإيطالية(مواقع التواصل)

فهل يمكن أن تكون لغة الألوان أبلغ وأعمق وأكثر تأثيرا من الحروف الحادة والكلمات الجزلة والأسلوب المنمق في إرساء حوار حقيقي وأزلي بين الأديان؟ وإلى أي مدى يمكن لريشة فنان وموهبة رسام في إذابة جليد الاختلاف وإبعاد ضبابية سوء التفاهم بين البشر مهما اختلفت ديانتهم وتنوعت مشاربهم وتباينت معتقداتهم؟ 

فن ديني
من جهته، لم يقترب محمد راسم مما لا يقبل التأويل في القرآن الكريم، وهو يرسم رائعته الخالدة "تاريخ الإسلام" التي تصنف ضمن "فن المنمنمات" الحديث، ويقول الكيناني إن العملاقين راسم وأنجلو قدما حوارا جريئا وصريحا بين الأديان بطريقة جمالية، تحمل فيضا من السحر الساطع اختصرت زمنا من الكلام.

ويكشف راسم بقدرة أدواته الإيحائية ولوحاته من فن المنمنمات عن ولادة حضارة إسلامية ازدهرت فيها العلوم والآداب والفنون.

واشتهر الفنان الجزائري بعمله الكبير "حكايات ألف ليلة وليلة" الذي نال عليه الوسام الذهبي من "مؤسسة الرسامين المستشرقين الفرنسيين" عام 1924، ورسم فيه الحكايات في عشرة مجلدات، ودرّس الفنان الجزائري المنمنمات في مدرسة الفنون الجميلة بالجزائر وكتب مؤلفين هما "الحياة الإسلامية في الماضي" و"محمد راسم الجزائري".

ورغم استقراره مدة في باريس وزياراته المتكررة لإقليم الأندلس في إسبانيا ولندن، فقد انحاز راسم لمدرسة بغداد الفنية مجتهدا في إحياء فنونها العربية وتجديدها، وتأثر باثنين من كبار رواد فن المنمنمات العربية القدماء، هما يحيى الواسطي الذي رسم مقامات الحريري وزينها بمئة منمنة عام 1237م، وكذلك الفنان الفارسي بهزاد المعروف بمنمنماته الفريدة.

وحسب رأي الناقد الكيناني، فإن الإنسان الذي ينزع إلى تصوير جوهره أو عقيدته في إطار رمزي، قد اختار لدينه رمزا بصريا استوحاه بنفسه بما يتلاءم مع عقيدته الدينية، وعلى خلفية أن الإنسان لم يدرك قصة الخلق إلا من الرسالات السماوية، بخلاف الأساطير التي توالت في مختلف العصور.

ويرى الكيناني أن قصة الخلق تطابقت جوهريا في التوراة والإنجيل والقرآن الكريم، بحسب رأيه، مؤكدا في سياق متصل أنه لا فرق إلا في الإسهاب بالتفاصيل التي جاءت في سفر التكوين، والإجمال والإشارة في القصص القرآني. 

‪‬ لوحة
‪‬ لوحة "تاريخ الإسلام" للرسام الجزائري الراحل محمد راسم(مواقع التواصل)

الحساسية والتسامح
ويرى الباحث عمار شرعان رئيس المركز الديمقراطي العربي بألمانيا، أن معنى الحوار في هذا المقام لا يتعلق بالتبادل الفكري حول طاولة مستديرة بين الأديان، وإنما لقاء خاص باعتماد الصورة والتصاميم الرمزية في تقديم هويتها، والتعريف بوجودها الذي يميزه عن أي دين آخر.

وأوضح شرعان أن طرح فكرة الفن في الأديان لا يخلو من الحساسية؛ لكن إثارته من الزاوية التشكيلية لاشك أنها تدخله دائرة التسامح، واعتبر الباحث أن قصة الخلق أثارت مخيلة الفنانين في العالم، لذا سعوا نحو تجسيدها في مشاهد بصرية، وعلى سبيل المثال ميكائيل أنجلو كان أبرزهم في عمله الخالد في الفاتيكان، وذكر في سياق متصل أن العمل استوحاه كفنان مسيحي من كتاب "سفر التكوين" في حدود ما طرحه علم اللاهوت من "الإيغال في العالم الغيبي وتجسيده".

في المقابل أخذ الفنان الجزائري المسلم محمد راسم منمنمته "تاريخ الإسلام" من الوقائع التاريخية المدونة، كأحداث لها زمنها ومكانها في عالم أرضي، يخضع لإرادة سماوية لها رسالة؛ فبدا الفرق في هذه النقطة كما الفرق بين الغيب والواقع، وخلاصة القول أن أنجلو استوحى من النص الديني "قصة الخلق"، في حين استمد محمد راسم موضوعه من الواقع الذي دونت أحداثه.

ويعتبر الفنان التشكيلي الجزائري رضا بغدادلي أن إثارة هذه الأفكار بهذه الطريقة الفنية تمثل تجاوزا للقيود المعتادة؛ وأشار بغدادلي إلى أن كل فنان قد مر بمراحل طرح فيها مثل هذه الأسئلة في سياق التساؤل عن العلاقة بين الروح والمادة، والحقيقة الباطنية والحسية، سواء كان الفنان أكاديميا أم عصاميا. 

وذهب الفنان التشكيلي الجزائري إلى أبعد من ذلك، عندما قال إن الرسم استعمل تماما مثل الحرف كرمز للإبلاغ عن غاية سواء كانت سياسية أم دينية، لذا حوار الأديان لا يعاكس الإبداع بل يربط بين الفنانين وينسج بينهم حلقة تواصل وانسجام.

وتثير المقارنة بين اللوحتين فكرة التقريب وبناء جسور التواصل وقنوات الحوار، مما يوحي أن الاعتماد على الفن يساهم في انفتاح الإنسان وتعزيز قيم التعايش.

المصدر : الجزيرة