حي بن يقظان وروبنسون كروزو.. جدل فرنسي جديد حول قصة عربية قديمة ألهمت فلاسفة الغرب

غلافين متقابلين hayy ibn yaqzan حي بن يقظان وروبنسون كروز Robinson Crusoe
ابن طفيل ألف "حي بن يقظان" بالقرن 12 الميلادي وقصة "روبنسون كروزو" كتبت في القرن 18 (الجزيرة)

لقرون طويلة اعتبرت قصة "حي بن يقظان" بمثابة نص فلسفي وقصصي استثنائي، وربما لم يكن يتوقع مؤلفها أنه سيكون مؤثرا في الفكر الإنساني قرونا بعد ذلك، وتطير شهرتها منذ زمن النهضة الأوروبية وحتى الآن.

بمثل هذا التمهيد، قدم الكاتب والفيلسوف الجزائري كامل داود كتاب صديقه المؤلف والفيلسوف الفرنسي جان بابتيست برينيت "روبنسون دو غاديكس" الذي يستلهم قصة "حي بن يقظان" الخيالية عن ذلك الفتى المولود وحيدا على جزيرة صحراوية ربته فيها غزالة، واستطاع بعقله وحده أن يكتشف "حقيقة الكون".

وكتب الفيلسوف والطبيب العربي ابن طفيل الأندلسي (1100- 1185 للميلاد) روايته الخيالية ذات الطابع الفلسفي حي بن يقظان، واستخدم فيها رمزية عالية لبطل الرواية استنادا لسلسلة من الكُتاب للقصة نفسها، بينهم الفيلسوف ابن سينا (ت: 1037م) وشهاب الدين السهروردي المقتول (ت: 1191م).

وفي قصته الشهيرة عبّر عن أفكاره في نفي التعارض بين العقل والشريعة أو بين الفلسفة والدين بطريقة قصصية وروائية فلسفية.

ورغم أن الأديب والتاجر والكاتب الإنجليزي دانيال ديفو، (1660-1731م) اقتبس فكرة الرواية من ابن طفيل المتوفى في نهاية القرن 12، فقد عقد الفيلسوف العربي مالك بن نبي في كتابه "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي" مقارنة بين قصتي "حي بن يقظان" و"روبنسون كروزو" للروائي الإنجليزي.

وأشار بن نبي إلى أن رواية الروائي الإنجليزي تدور حول العوالم الحسية والمادية فقط ولا إشارة فيها لما وراء العالم المادي، وأن قصة "روبنسون كروزو" انشغلت بمتطلبات الأكل والنوم والمواد المصنوعة، بينما انشغل حي بن يقظان في رواية ابن طفيل بالبحث عن حقيقة الوجود والتأمل حول الموت والحياة وصولا إلى وجود الخالق.

وجمع تقرير لمجلة لنوفيل أوبسرفاتور بين القصتين في حوار فلسفي عميق، سبر فيه أغوار قصة حي بن يقظان التي كانت مصدر إلهام لكثير من الكُتّاب والفلاسفة في الغرب، وعرف بكاتبها الفيلسوف الأندلسي العصامي ابن طفيل الذي ولد في بداية القرن الثاني عشر الميلادي قرب غرناطة.

حي بن يقظان والغرب
ويقول برينيت إن القصة التي كتبت في القرن 12 الميلادي لم تترجم إلى اللاتينية في زمنها، وبالتالي لم تدرج في البرامج التعليمية آنذاك، بل إنها ظلت مجهولة طوال القرن 13، إلا أن إشارة وردت في تعليق لليهودي مويز دوناربون (1300-1362) لفتت إليها أنظار الغربيين.

ورغم ترجمة حي بن يقظان من العبرية إلى اللاتينية على يد بيك دلا ميراندول (1463-1494)، فإن شهرة صاحبها في الغرب لم تبدأ إلا في القرن 17 على يد المستشرق الإنجليزي إدوارد بوكوب الذي جلب نسخة مخطوطة منها إلى بلاده ترجمها نجله ونشرها عام 1671، وقد أصبحت هذه الترجمة التي قدم لها المستشرق المشهور وعرف بها، من أكثر الكتب مبيعا في أوروبا.

وقد ترجمت هذه القصة ثلاث مرات إلى الإنجليزية في سنوات قليلة، نزعت عنها أولى الترجمات طابعها الإسلامي واستغل بحماس بعدها الصوفي، وكانت الثانية تركز على جانبها العقلاني، خاصة في مكافحة الغلو الديني، كما ترجمت إلى اللغة الإيرلندية فاطلع عليها مشاهير من بينهم الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا والفيلسوف الألماني جوتفريد فيلهلم ليبنتز.

حي بن يقظان وروبنسون كروزو
وفي بداية القرن 18 تحول الاهتمام عن قصة حي بن يقظان إلى قصة "روبنسون كروزو" التي كتبها البحار التاجر، والكاتب المؤلف، الإنجليزي دانيال ديفو نحو 1719، وأصبحت معروفة أكثر من القصة الأصلية العربية التي استلهمت منها.

ويؤكد برينيت دون تردد أن ديفو كان مطلعا على نص ابن طفيل، خاصة أن العديد من المؤلفين المجهولين في القرن 18 ربطوا بين قصة روبنسون كروزو وقصة الفيلسوف العربي ابن طفيل، وعكس كروزو مسار القصة خدمة للأيديولوجيا السائدة في زمنه من ترويج فكرة الرجل الأوروبي الذي يحمل الحضارة إلى الآخرين ويعلمهم.

فبينما ولد حي بن يقظان في جزيرة وتعلم من الناس اللغة، فإن روبنسون ولد مع الناس وتعلم بينهم ليذهب إلى الجزيرة حيث يبدأ تعليم الآخرين هناك، ويقوم بتلقين أحد "المتوحشين" وينقل له ما وصل إليه الإنسان المتحضر ويجعله خادما له يجلبه معه لأوروبا.

حي بن يقظان والعرب
يقول الكاتب الجزائري كامل داود إن هذه القصة التي طارت شهرتها في الغرب لم تكد تعرف في الشرق العربي إلا بالاسم، كأحد الأعمال التي لا تدرّس ولكنها تستدعى دائما كدعاية للهوية العربية، لتذكر بأننا "نحن أيضا" كانت لدينا أسماء كبيرة كابن سينا وابن رشد وابن طفيل، وهي وسيلة سهلة وجذابة لإظهار أن الغرب يجحد فضل الآخرين، مع استنتاج أن ديفو سرقها منا.

ويشير داود إلى أن "حي بن يقظان" عينة من هذا التراث الذي نتفاخر به ونستكشف من خلاله ما كنا عليه، ويتم استدعاؤها كرد فعل على الغرب، بدلا من استدعائها لإعادة بناء ثقة جديدة بالنفس، بحسب تعبيره.

وفي مقدمته للكتاب يقول داود، إن "هذه الرواية تلهمني بعد إعادة قراءتها نفس الشعور بالمرارة، لأنني لم أقم بعد بتصحيح المسافة بين اعتقاد ديني جامح وفلسفة حرية تقارب التمرد، لكي يتم التعبير عنها بمنطق هادئ".

وأوضح داود أن رفضه لهذا الوضع "يأتي من حقيقة أن هذه النصوص تأتي إلينا مشوهة، مقنعة وفقا لقناعات أولئك الذين استولوا عليها كرهائن نجبرهم على قول ما نريد، ولذلك يجب تحرير النص من استخدامه الأيديولوجي حتى تتسنى قراءته قراءة صحيحة، وأناقشه انطلاقا من عالمه الخاص".

٫

حي بن يقظان وتاريخ الأفكار
يقول بينيت إن هذه القصة تعبر عن جميع السمات المميزة لفلسفة الأندلس في القرن 12 التي تأسست على فلسفة أرسطو التي سترثها الحداثة لاحقا، مثل تطور الفكر والعقلانية، مرورا بترتيب المعرفة والوصول إلى الحقيقة، وانتهاء بالعلاقة بين التأمل والتصوف وحتى التوفيق بين الفلسفة والدين.

ويرى بينيت أن قصة حي بن يقظان مفيدة للغاية لأنها تقييم للفلسفة، نرى فيها ابن رشد والفارابي وابن باجة وأرسطو بالطبع، ولكن أيضا نرى الصوفيين واللاهوتيين كالغزالي الذي يستدعيه ابن طفيل بشكل مختلف في إطار فلسفي.

وقد حاول ابن طفيل "الأفلاطوني" التوفيق بين مجموعة من المفارقات، من خلال التعبير عن العقلانية والتصوف والتأمل والحدس، في نهج توفيقي يجعل قراءة نصه معقدا في بعض الأحيان، حيث يبدو كل شيء جدليا.

القصة المثيرة
قال بينيت إن أكثر شيء استهواه في القصة هو الجزء الأول الكبير، وكيف يصف فيه ابن طفيل مراحل إضفاء الطابع الإنساني على الشخصية، وذلك الجزء المتعلق باستكشاف الحس وتطور العقلانية، وما الذي يمكن أن يفعله إنسان واحد منفرد، عارٍ، دون أبوين ودون لغة، لا يسانده وحي ولا مجتمع، وليست لديه كتب ولا سيد له.

أما داود فإنه يقول إن مرحلة التشريح استثارته، حيث تبدأ باكتشاف حي بن يقظان جثة الغزالة التي ربته، لأنها تشعره بأنه على وشك شهود أمر غير عادي، حيث يكتشف عند يأسه في مواجهة جسد "والدته" الجامد، قضية الموت، ويلتفت إلى باطن نفسه وهو يبحث في أحشاء الجثة ليجعل منها مرآة لنفسه.

ويخلص داود إلى أن ما يهمه من مغامرات حي بن يقظان هو أنها قبل كل شيء مغامرة من أجل الحرية، يختار فيها الشخص بحرية إعادة بناء المعتقد والميتافيزيقيا وفهم العالم، وهي تعبر عن أسبقية الحرية على الإيمان.

وختم بينيت بأن هناك دائما العديد من القراءات لكل نص، تختلف وفقا لمصالح كل عصر، مستنتجا أن أوروبا ربما كانت بحاجة للتعبير عن عبقريتها عن طريق قطع بعض الخيوط التي ربطتها بقصص أخرى، إلا أن هذا النص يظهر العكس، وهو أن أوروبا ليست جزيرة، وأن لها نسبا، وأبا وأما.

المصدر : الجزيرة + الصحافة الفرنسية