"سفر أيوب" والثورات العربية.. من المسؤول عن الشر في العالم؟

مخطوطة يابانية قديمة تصور إبادة الشر (ويكي كومنز)
مخطوطة يابانية قديمة تصور إبادة الشر (ويكي كومنز)
دعاء عبد اللطيف-القاهرة

في المخيال الشعبي العربي تبدو قصة النبي أيوب تجليا لقيمة الصبر المطلق أمام الابتلاءات والتسليم بإرادة الخالق، في حين يظهر التناول الديني في النصوص الإبراهيمية الثلاثة أعمق بالنظر إلى تساؤلات عن معنى العدل والحكمة الإلهيين ومغزى المعاناة الإنسانية.

رحلة شقاء أيوب -عليه السلام- وما تحمله من عمق فلسفي يمكن أن يستمد منها قراءة معاصرة في ضوء الانتفاضات العربية باعتبارها تتسم بكثير من خصائص المحنة والابتلاء وما تفضي عنه من تساؤلات ربما لصيقة الشبه بما جاء على لسان النبي في العهد القديم بعدما تملك منه اليأس في منتصف الطريق.

تلك القراءة المعاصرة لسفر أيوب حاول "ملتقى التاريخ والذاكرة الثقافية" مناقشتها في القاهرة عبر ندوة حملت عنوان "سفر أيوب ومآلات الانتفاضات العربية الأخيرة" والتي أقيمت، السبت، بمركز الصورة المعاصرة بالعاصمة المصرية.

وخلال الندوة ربط المختص في الأنثروبولوجيا واللاهوت السياسي، فؤاد حلبوني، والباحث في الممارسات الثقافية والفنية المعارضة إسماعيل فايد بين محنتي أيوب وصانعي الثورات العربية وطرحا تساؤلات عديدة منها ما يخص مغزى ومعنى وجود الشر وعما إذا كان مفهوم الابتلاء يقدم تفسيرا مغايرا للعدل الإلهي وعلاقته بالتاريخ الإنساني.

‪القراءة المعاصرة لسفر أيوب‬ تلقي
‪القراءة المعاصرة لسفر أيوب‬ تلقي

تساؤلات مشروعة
في بداية حديثه، استعرض الباحث إسماعيل فايد قصة أيوب في التوراة والقرآن، معتبرا القصة أكثر وضوحا في النص الإسلامي خاصة ضمن الشرح الذي طرحه تفسير الطبري غير أن العهد القديم قدم إعجازا في طرح المعنى، مؤكدا في الوقت ذاته أنه ليس بصدد فحص تاريخية النص.

وقال فايد إن سفر أيوب طرح إشكالية التدين وما تبعثه من تساؤلات حول ماهية الشخص المتدين والعدالة الإلهية والإرادة والتوحيد المطلق، وكيف يسمح الله بوجود الشر في العالم.

تلك الأسئلة التي طرحها السفر رآها الباحث في الثقافة المعاصرة تتماس مع تساؤلات تشغل أذهان الناس حاليا بالنظر إلى المآسي العربية المحيطة، معتبرا إياها مشروعة.

وعن إشكال المسؤولية أوضح "إذا تساءلنا كيف يسمح الله بالشر، فعلينا أيضا أن نسأل كيف يسمح البشر لأنفسهم بفعل الشر"، مشيرا إلى ضرورة العودة لفكرة أن الإنسان فاعل في الدنيا، واستطرد "بالنظر إلى ما يحدث في سوريا.. جنود جيش بشار الأسد الذين يمارسون القتل هم بشر".

إلى ذلك، تطرق فايد إلى آيات الخلق في القرآن الكريم التي تناولت الإنسان كفاعل أخلاقي لكنه ضعيف إلى جانب الشيطان كفاعل محرض للشر ولكن تحت إرادة الله.

وأضاف أن كل الأسئلة التي تخص مسائل القدر والعدل والقضاء تكفل التيار السني الأشعري بالإجابة عنها بالتنزيه المطلق لله وحقه وقدرته المطلقة لإنزال الخير والشر.

ورفض الأشاعرة تفسير وجود الشر في العالم برده لأية فاعلية أخرى سواء عبر فكرة "قصور المادة" التي ذهب إليها الفلاسفة، أو اختيار الإنسان غير الخير كما نظّر المعتزلة.

وبالنظر للوضع الحالي فقد رأى الباحث أن علاقة الفرد بالدين تغيرت مع بدء الانتفاضات العربية، لافتا إلى ظهور حركات الإحياء الديني في سبعينيات القرن الماضي، ما أحدث تغييرا في دور الدين بالمجال السياسي والإجتماعي عبر إعادة تشكيل وعي المجتمع.

وهناك خيط ما رآه فايد بين تصور الحركات الإسلامية للدين وللفرد كبنية للمجتمع وأصحاب أيوب الذين اعتبروا محنة صديقهم -كما ورد في السفر- نوعا من العقاب له على أخطاء اقترفها أو عبادة تخلى عنها وكأن الله محاسب أخلاقي.

‪جانب من الندوة التي أقيمت بمركز الصورة المعاصرة وتناولت الإنسان كفاعل أخلاقي‬ جانب من الندوة التي أقيمت بمركز الصورة المعاصرة وتناولت الإنسان كفاعل أخلاقي  (الجزيرة)
‪جانب من الندوة التي أقيمت بمركز الصورة المعاصرة وتناولت الإنسان كفاعل أخلاقي‬ جانب من الندوة التي أقيمت بمركز الصورة المعاصرة وتناولت الإنسان كفاعل أخلاقي  (الجزيرة)

ثيودوسيا الأنظمة العربية
ومن جهته، سرد الباحث حلبوني وجهة نظر بعض الفلاسفة أمثال إيمانويل كانط وإيمانويل ليفيناس في مفهوم الـ" ثيودوسيا" ويعني محاولة الدفاع عن العدالة والقدرة الإلهية في ظل وجود الشر.

وأشار حلبوني إلى اهتمام كانط وليفيناس بسفر أيوب، لما يتمتع به من منزلة في الأدبيات الفلسفية حيث يدفع للتفكير في إشكالية الشر.

وبالنسبة للانتفاضات العربية وعلاقتها بالثيودوسيا، فرأى حلبوني أن كل الأسئلة حول الانتفاضات -وكنموذج واضح في القضيتين السورية واليمنية- مردودها لدى الأنظمة العربية بصيغتها القومية التي فرضت وصاية على شعوبها. 

ولفت الباحث في مجال الأنثروبولوجيا واللاهوت السياسي إلى محاولات الأنظمة العربية التي ارتكبت مذابح بحق شعوبها لإسباغ المعنى على كل جرائمها كضرورة تاريخية مثل الحفاظ على وحدة الأراضي، وهو ما يعتبر نوعا من أنواع الثيودوسيا.

‪الباحث فؤاد حلبوني‬ شرح
‪الباحث فؤاد حلبوني‬ شرح

وأوضح أن تلك الأنظمة لا تتوقف عند تبرير الجرم بل تسعى إلى طمسه أو إضفاء العبثية عليه فتدفع الناجين منه إلى دوامة التساؤل حول وقوع الجرم من عدمه.

وعاد حلبوني إلى سفر أيوب مرة أخرى ليشير إلى الاختبار الإلهي وكيف تجنب إيذاء النبي في روحه واعتمد على الإيذاء في المال والولد والجسد.

وأردف "أما في سجون الأسد فيحدث تعذيب منهجي وتوغل في البطش إلى كسر الروح التي هي صميم الحياة الداخلية للبشر وحائط الصد الأخير لأي إنسان، وهو ما يدمر أي محاولة لولادة تصور عن حياة جديدة خارج السجن".

واختتم الباحث السياسي حديثه بالإشارة إلى ما اعتبره مفرحا ومبكيا في الوقت نفسه، وهو أن معظم الأنظمة العربية التى حملت في فترة معركة مع الاستعمار الغربي في ستينيات القرن الماضي انتهى بها الحال أن تستخدم مع شعوبها سياسة الأرض المحروقة التي يستخدمها الصهاينة مع الفلسطينيين.

المنطق الديني و"التنوير"
ولمزيد من تعميق البحث، سألت الجزيرة نت الصحفي المهتم بحوار الأديان عبد الله الطحاوي حول مقاربة الأديان لما تداوله الندوة، فذهب إلى القول إن نظرة الأديان للأمر متقاربة إذ تنحصر بين الابتلاء من أجل التطهر والعقاب للعاصي والمخطئ، ويضيف "ظل هذا الفهم سائدا حتى علمنة مفهوم الآلام في عصر التنوير".

ويتابع الطحاوي في حديثه للجزيرة نت معتبراً أنه خلال عصر التنوير الأوروبي (القرن 18) تمت إعادة تفسير الآلام وفق منطق يخضعها للقوانين العلمية والمنطقية بدلاً من التفسيرات الدينية، وهكذا أيضا جرى علمنة الكوارث الطبيعية مثلما حدث في زلزال لشبونة عام 1755، منوها بدراسة الأنثروبولجي الأميركي طلال الأسد بهذا الخصوص.

وبالنسبة للثقافة الإسلامية، يضيف الطحاوي "هناك بعض المدارس التي تعاملت مع الشر بطريقة مختلفة، واعتبر المعتزلة أن الشر من الإنسان والخير من الله ، بينما نظر الصوفية إلى كل الأحوال الإلهية والابتلاءات بما في ذلك أنواع الشرور بمفهوم العطية والمنحة والقربى".

ويقول الطحاوي إن الكتب المقدسة والقرآن تحكي قصة الابتلاءات -بما فيها قصة النبي أيوب ويونس عليهما السلام- لكن في النص الإسلامي تضمن ابتلاء النبي يونس فكرة المراجعة والنقد الذاتي، وهو ما يعد خطوة للأمام في القرآن بحسب تعبيره.

المصدر : الجزيرة