القحط الكبير.. غضب الإيرلنديين من بريطانيا وتقديرهم للعثمانيين زمن "مجاعة البطاطا"

أعمال شغب في أيرلندا أثناء المجاعة بتاريخ أكتوبر 1846، المكتبة البريطانية (ويكي كومنز)
أعمال شغب في إيرلندا أثناء المجاعة في أكتوبر/تشرين الأول 1846 (ويكي كومنز)

رغم مرور 173 عاما على القحط الكبير أو "مجاعة البطاطا" في إيرلندا، فإن الإيرلنديين لم ينسوا معروفا أسداه لهم السلطان العثماني عبد المجيد الأول (توفي عام 1861) عندما مد إليهم يد العون، في وقت أدار فيه كثيرون ظهورهم بما في ذلك بريطانيا التي حملها كثير من الإيرلنديين المسؤولية عن عدم إنقاذ مئات الآلاف من الأرواح. 

وفي القرن 19 وبالتحديد من 1845 إلى 1849، اجتاحت إيرلندا -التي كانت حينها تابعة للإدارة البريطانية- مجاعة كبيرة باتت من أهم الأحداث المحفورة في تاريخ البلاد وذاكرة الإيرلنديين وعرفت بـ "مجاعة البطاطا".

وحملت المجاعة هذا الاسم لأنها حدثت إثر تلف محصول البطاطا الذي يعد الغذاء الرئيسي للسكان بآفة فطرية تسمى "اللفحة المتأخرة/فيتوفثورا إنفستنس" حيث أتلفت ثلث المحصول عام 1845. وفي السنة التالية أتلفت نحو 90% من المحصول الذي يعتمد عليه السكان في غذائهم.    

وبلغت المجاعة ذروتها عام 1847 عندما اضطر الشعب الجائع إلى أكل البذور اللازمة للزراعة، قبل أن يتلف مجددا نصف المحصول في السنة التالية.

وخلال "مجاعة البطاطا" اضطر أكثر من مليون إيرلندي للهجرة إلى الولايات المتحدة، في حين لم يملك أبناء الطبقة الفقيرة سوى البقاء في ديارهم، في مشهد أشبه بالاستسلام للموت.

وكانت المجاعة بمثابة نقطة تحول في تاريخ إيرلندا -التي حكمت من وستمنستر (مقر الحكومة البريطانية في لندن) مباشرة من عام 1801 إلى 1922 كجزء من المملكة المتحدة- وغيرت المجاعة وآثارها بشكل دائم المشهد الديموغرافي والسياسي والثقافي للجزيرة حيث أسفرت عما يقدر بنحو مليوني لاجئ وانخفاض في عدد السكان دام قرنا من الزمان.

وبقيت المجاعة طويلا في الذاكرة الشعبية وتوترت العلاقات بين الإيرلنديين وحكومتهم البريطانية بسبب المجاعة، وحملوها المسؤولية واتهموها بالتقاعس، مما حفز لاحقا بروز مشكلات عرقية وقومية بين الشعب الإيرلندي والحكومة البريطانية.

وفي تلك الفترة الزمنية -التي شهدت ذروة المجاعة وتذكرها المصادر التاريخية والروايات بـ "47 الأسود"- امتدت يد العون للشعب الإيرلندي من حيث لم يتوقعوا، من العثمانيين الذين يبعدون عنهم آلاف الكيلومترات، وكذلك الولايات المتحدة على الجانب الآخر من المحيط والتي أرسلت عشرات السفن الإغاثية محملة بالمؤن الغذائية.

رفض بريطاني
ونظرا لكون إيرلندا حينها واحدة من مستعمرات بريطانيا، رفضت حكومة الأخيرة السماح لسفن المساعدات العثمانية بأن ترسو في ميناء دبلن، لذا رست بميناء دروهيدا الذي يبعد ثلاثين ميلا عن ميناء دبلن، وأفرغت حمولتها هناك.

وعقب انقضاء المجاعة، أرسل النبلاء وعامة الشعب في إيرلندا خطاب شكر للسلطان العثماني، وقد تسنى لوكالة الأناضول الاطلاع على نسخة منه.

ويقول الخطاب باختصار "يتقدم الشعب الإيرلندي والنبلاء الموقعون على هذا الخطاب بجزيل الشكر والتقدير لجلالة السلطان عبد المجيد على كرمه وإحسانه تجاه الشعب الإيرلندي الذي يعاني المجاعة، كما يتقدم بالشكر الجزيل لجلالته على تبرعه السخي بألف جنيه إسترليني لتلبية احتياجات الشعب الإيرلندي والتخفيف من آلامه".

وفي مايو/أيار 2006 وخلال احتفال دروهيدا بالذكرى السنوية 800 لتأسيسها، قامت البلدية بتخليد ذكرى هذه الواقعة عن طريق تعليق لوحة شكر ضخمة على جدار مبناها القديم الذي استضيف فيه البحارة العثمانيون الذين أحضروا المساعدات أثناء المجاعة.

المفارقة الكبرى
وتلقى الإيرلنديون تبرعات دولية من بلدان مثل فنزويلا وأستراليا وجنوب أفريقيا والمكسيك وروسيا وإيطاليا، بالإضافة للمنظمات الدينية وجمعيات الإغاثة، وعندما علِم السلطان العثماني بنبأ المجاعة قرر إرسال عشرة آلاف جنيه إسترليني إلى إيرلندا لنجدة شعبها، في المقابل لم ترسل فيكتوريا (ملكة بريطانيا آنذاك) للشعب الإيرلندي التابع لها سوى ألفي إسترليني.

ولكي تحافظ بريطانيا على صورتها طلبت من الحكومة العثمانية تقليل المبلغ إلى ألف جنيه فقط، فوافق السلطان العثماني على ذلك إلا أنه أرسل إضافة إلى المال ثلاث سفن محملة بالغذاء والأدوية والبذور اللازمة للزراعة.

وظهرت المفارقة الكبرى في أحداث المجاعة التي أودت بحياة مئات الآلاف من الإيرلنديين في عدة كتب تاريخية كشفت أن إيرلندا كانت تصدر كميات كبيرة من الطعام والأغذية طوال فترة المجاعة في نفس الوقت الذي كان البشر يموتون فيه جوعاً.

وكشفت دراسة للباحثة التاريخية في حقبة المجاعة الإيرلندية كريستين كينيلي نشرت عام 1997 بمجلة "تاريخ إيرلندا" أن قرابة أربعة آلاف سفينة غذاء محملة من إيرلندا وصلت موانئ بريطانية مثل بريستول وغلاسغو وليفربول ولندن خلال عام 1847، وكشفت دراسات تاريخية تفصيلية عن صادرات كبيرة من الزبدة واللحوم والعجول والماشية والزبدة وحتى البازلاء والفاصوليا والأرانب والسمك والعسل خلال فترة المجاعة ذاتها.

عام 1849، أورد الشاعر الإنجليزي والمصلح الاجتماعي إبنيزر جونز أرقاماً صادمة عن الصادرات الإيرلندية من المواد الغذائية عام 1846 بما في ذلك القمح والشعير والدقيق والحبوب واللحوم، وأكد ذلك المؤرخ المؤرخ سيسيل وودهام سميث في كتابه "المجاعة الإيرلندية الكبرى" معتبراً أنه لا توجد قضية أثارت الكثير من الغضب والمرارة في العلاقات بين إنجلترا وإيرلندا "كحقيقة لا جدال فيها وهي أن كميات هائلة من الغذاء تم تصديرها من إيرلندا إلى إنجلترا طوال الفترة عندما كان شعب إيرلندا يموت جوعا".

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية + وكالة الأناضول