يساري ناقد لليسار ويهودي مدافع عن فلسطين.. المناضل التونسي جيلبار النقاش والأدب على أوراق التبغ

المفكر والمناضل التونسي جيلبار النقاش
المفكر اليساري التونسي جيلبار النقّاش عرف بمواقفه الصلبة ضد الاستبداد والصهيونية، وتعرض للتعذيب في سجون تونس قبل الثورة (مواقع التواصل الاجتماعي)

في باريس يوم السبت 26 ديسمبر/كانون الأول 2020، عن عمر ناهز 81 عاما، رحل المفكر التونسي المناضل اليساري جيلبار النقاش الذي كتب أغنيته في حب تونس على ورق التبغ وراء القضبان والزنزانات، المثقف العضوي الذي سجن السجن في كلمات "الكريستال"، ودوّن أسطورته ورفاقه في غرفة "الديسات" 17 متجاوزًا التصنيفات والتقسيمات.

ولد أيقونة النضال التونسي في 15 يناير/كانون الثاني 1939 بالعاصمة التونسية، في أوج الفصل الاستعماري، وبداية نضج الحركة الوطنية.

بدأ مسيرته النضالية منذ كان طالبا في الجامعة ثم تعمقت هذه التجربة بتأسيسه مع مجموعة من الطلبة التونسيين، من تيارات فكرية وقومية وماركسية متنوعة، في فرنسا سنة 1963، "تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي في تونس" المعروف بحركة آفاق "برسبكتيف" نسبة إلى المجلة التي كان يصدرها هذا التنظيم.

وقد نشأت هذه الحركة في ظروف موسومة بالانغلاق السياسي الحاد، خاصة بعد قرار حظر الحزب الشيوعي التونسي، وبعد تصاعد ملاحقة التيار اليوسفي، نسبة إلى مؤسسه وزعيمه صالح بن يوسف الذي اغتيل في فرانكفورت صيف 1961.

العودة إلى تونس

بعد أن أنهى دراساته العليا في المعهد الوطني الفلاحي بباريس، عاد جيلبار النقاش إلى تونس، وتزامنت عودته مع قرار نقل نشاط "حركة آفاق" من باريس إلى تونس سنة 1964، التي سرعان ما أصبحت أنشط حركة معارضة للرئيس بورقيبة.

وفي يونيو/حزيران 1967 شاركت الحركة في المظاهرات التي شهدتها تونس العاصمة بعد اندلاع حرب الأيام الستة تنديدا بالموقف المتخاذل للنظام التونسي آنذاك، وقُبض خلالها على عدد من مناضليها.

وكان جيلبار طرفا فاعلا وقائدا لهذه التحركات والمظاهرات، وكان ممن اعتقلوا سنة 1968 وحوكموا بتهمة الانتماء إلى "حركة برسبكتيف" ونالوا أحكاما قاسية بنظر الجميع، فحكم عليه بشدة سنة 1968 بالسجن 14 عاما بسبب نشاطاته السياسية، وتعرض لشتى أنواع التعذيب والتنكيل، قبل أن يطلق سراحه بعد 10 سنوات، ولكنه بقي تحت الإقامة الجبرية وخضع للمراقبة الإدارية.

وفي عهد بن علي لاحقته التضييقات والمراقبة نتيجة كتاباته اللاذعة وآرائه الناقدة ونشاطه المعارض، فدفع دفعا إلى المنفى بفرنسا وبقي عقودا في منفاه، ولم يعد إلى تونس إلا عام 2011 إبان الثورة التونسية.

يهودي منتصر للقضية الفلسطينية

رغم ولادة جوزيف جيلبار النقّاش في عائلة يهودية تونسية، ورغم انتمائه وأصوله اليهودية هذه، فقد كان من أشد المعادين للحركة الصهيونية، ومن أكبر مناصري القضية الفلسطينية في مواقفه وكتاباته وآرائه.

وكان النقّاش في كل مناسبة تتاح له يندّد بالممارسات العنصرية اللاإنسانية الإسرائيلية، لأنه يعادي الحركة الصهيونية باعتبارها حركة استعمارية عنصرية، وهو ما ترجمه في موقفه الراديكالي من اتفاقية أوسلو ومن كل الاتفاقيات والمعاهدات اللاحقة التي تحاول القفز على الحقوق الفلسطينية المشروعة وتضليل الرأي العام العربي والدولي.

يساري ينتقد اليسار

بعد الثورة واصل "بابي" (papy)، الاسم الذي يناديه به أصدقاؤه ورفاقه، نضاله وإسهامه في الحراك السياسي كاتبا ومعارضا وناقدا كدأبه.

ولأنه صريح ومتصالح مع ضميره فقد كان أول المنسحبين من" الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي" التي أُسست أشهرا قليلة بعد فرار بن علي، وكان يرأسها الفقيه الدستوري عياض بن عاشور.

وانتقد أيضا مشروع قانون تحصين الثورة، ورأى أنه لا ينبغي أن يُعتمد إلا في إطار قانون العدالة الانتقالية. وفي يوم 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2016 في لحظة فاصلة من تاريخ تونس استُمع لجيلبار النقاش كأول شاهد، في أول جلسة استماع علنية، نظمتها هيئة الحقيقة والكرامة، روى فيها ما تعرض له من تعذيب ومضايقات في عهد الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي.

وكان المفكر الراحل من اليساريين الأقلاء الذين تجرؤوا على نقد اليسار ورموزه التونسية أمثال حمة الهمامي وشكري بالعيد، ودعا إلى مراجعة ونقد "بعض الأفكار اليسارية البالية" التي تقوم عليها مثل هذه الأحزاب والتنظيمات اليسارية. كما حذّر من دكتاتورية البروليتاريا والانفلات الثوري.

ومع ذلك ظل النقاش نموذجا للمثقف العضوي الذي ينحاز للشعب وينتصر لقضاياه، يقول "هناك تونس التي يمثلها السياسيون الذين يطمحون إلى الحكم وغايتهم السلطة، وهناك تونس التي تمثلها الفئات الشعبية الفقيرة والمهمشة، وأنا انتصرت وانحزت للشعب".

وصرح في إحدى حواراته قائلا "ليس هناك يسار ولا يمين، هناك فقط من هم في الحكم أو يسعون للحكم ويلهثون وراء السلطة لتحقيق منافعهم، وفي المقابل هناك الذين ضحّوا وقاموا بالثورة وينتظرون من الثورة أن تبثّ الوعي وتسترجع الحقوق وتحقق العدالة الاجتماعية والسياسية حتى ينهض الوطن وتنهض تونس".

الكتابة على أوراق التبغ

كان جيلبار النقاش مولعا بالقراءة والكتابة قبل دخوله السجن، ولكن قريحته الإبداعية تفتحت في السجن على وقع السياط تحدّيا للتعذيب النفسي والجسدي وإمعانا في السخرية من سجانه وجلاده.

وقصة كتابته لباكورة أعماله ورائعته الروائية الأولى "كريستال" قصة مشوقة وفريدة بحد ذاتها، حيث كان النقاش يكتب تفاصيل وأحداث روايته على أغلفة علب السيجارة التي يدخنها المساجين وتمثل علامة سجائر "الكريستال" التونسية، في ظل محاصرة السجانين ومنعهم من وصول الأوراق والكتب إلى المساجين.

لكن الشاب اليساري تغلب على كل هذه الصعاب، وكتب رواية "كريستال" التي كانت أولى مؤلفات أدب السجون في تونس. وحاول في كل ذلك التأريخ لمرحلة مهمة من تاريخ تونس المنسي، وأراد كتابة عذاباته وعذابات رفاقه المساجين، على ورق التبغ الذي يدخنه الشعب، هو المنحاز للشعب والمنتصر لقضاياه حتى في أبسط التفاصيل.

وكأنه بذلك يتشبّه بالفنان الفلسطيني ناجي العلي حين يصرخ "أنا متهم بالانحياز، وتلك تهمةٌ لا أنفيهـا. أنا منحاز لمن هم (تحت)، لمن هم ضحايا التكذيب وأطنان التضليلات وصنوف القهر والنهب وأحجار السجون والمعتقلات".

وبالإضافة إلى رواية "كريستال" التي يمتزج فيها القص والتخييل بالسيرة الذاتية للكاتب والواقع، كان لجيلبار النقاش إصدارات أخرى عدة مثل "السماء فوق السطح" سنة 2005، و"ماذا فعلتَ بشبابك؟" سنة 2009، و"قصص السجن" سنة 2010، و"نحو الديمقراطية" سنة 2011، و"البطريق، وقصص أخرى" سنة 2013، بالإضافة إلى كثير من المقالات والدراسات النقدية والفكرية والشهادات والحوارات.

الغرفة 17 تجمع الزندالي وبيتهوفن

في ليالي الشتاء الباردة الطويلة في سجن "برج الرومي" كان جيلبار النقاش ورفاقه يتسامرون ويتناقشون ويغنون محاولين تناسي آلامهم الجسدية جراء التعذيب الذي يتعرضون له في النهار، في سبيل السمو بغربتهم الروحية وواقعهم المؤلم.

وفي هذا المناخ العام، وفي الغرفة 17 وهي أكبر غرف العزل في سجن برج الرومي، التي جمعت سجناء الرأي من حركة آفاق وبقية التنظيمات اليسارية التونسية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، في هذا المناخ ولد فنّ "الزندالي" بوصفه التعبير الثقافي والفن الشعبي ونشيد المهمشين والمسحوقين والمسجونين ظلما، وولدت أغنية "الديسات" وهي المسّمى الفرنسي للغرفة رقم 17 بالسجن.

ورغم أن كل شيء في حياة النقاش متسربل بالأيديولوجيا، فإنه وهو يستحضر قصة ولادة هذه الأغنية يقول "طلبنا من الرفاق أن يؤلفوا أغنية تتغنى بيومياتنا السجنية وعن الغرفة 17، ولكن بشرط أن يبتعدوا عن الخطب السياسية الأيديولوجية المباشرة والشعارات الرنانة والبطولات الزائدة".

وقد خرجت الأغنية كما أراد النقاش ورفاقه تلقائية وبسيطة وصادقة رغم رسائلها الإنسانية العميقة بين السطور، وتقول كلماتها "إذا نموت وقدر الله ادفنوني في الديسات 17/والماشي والجاي عليا من ريفيزو للوفيات/سياسة كبيرة سياسة صغيرة حتى من زينوبة جات/ادفنوني في التركينة وين ما يبيّص بن يحي/بلاد النقاش وبن خذر تقعد في دمي حية/وهاك البلدي بجاه ربي خرجوه وحدو من لاريا/حبيتكم والحب شفاني تصبح على خير وعافية".

ومن الرسائل العميقة الكبيرة لهذه الكلمات والقصيدة "الزندالية" ذلك التحدي العنيد والنفس الرومانسي الحالم التفاؤلي المضمخ بالفرح، الذي وقع المزج فيه بين هذا الفن الشعبي التونسي الصرف "الزندالي" والسيمفونيات الكلاسيكية الأوروبية، وقد ترجم جيلبار النقاش ورفاقه كل ذلك بغنائهم هذه الكلمات التلقائية على وقع ولحن الحركة الرابعة من السيمفونية التاسعة لبيتهوفن.

ولم يكن هذا الاختيار من النقاش ورفاقه اعتباطيا، ذلك أن هذه السمفونية والحركة الرابعة من أجمل الاقتباسات والجدليات بين الموسيقى والشعر، والموسيقار الألماني الشهير بيتهوفن استوحى سيمفونيته من القصيدة الجميلة لمواطنه الشاعر فريديريك شيلر التي ولدت سنة 1786 تحت عنوان "نشيد الحرية"، قبل أن يغيّر بعض مقاطعها واسمها سنة 1803 لتصبح "نشيد السعادة"، فقد أعجب بيتهوفن بهذه القصيدة أيما إعجاب، واستوحى منها سيمفونيته التاسعة الشهيرة التي ظهرت سنة 1824.

وتتأكد قصدية ورمزية اختيار جيلبار النقاش ورفاقه هذا اللحن وهذه السمفونية حينما نقرأ المقطع الآتي من قصيدة شيلر ونلحظ التطابق الروحي الكبير بين النصين، "دعونا من هذه الألحان أيها الخلان/ولننشد معا من الأغاني أحلاها وأصفاها/يا جذوة الفرح أيها القبس الإلهي الجميل/يا أيها الفرح ضمّ شمل النازحين ومن فرقتهم صروف الحدثان/فالناس جميعا إخوان تظللهم بجناحك/أيها الفرح العلوي/وليحتضن البشر بعضهم بعضا/وهذه قبلة أرسلها للناس جميعا".

المصدر : الجزيرة