المتوج ثانيا بجائزة الشيخ حمد للترجمة محمد غاليم: مجتمعاتنا تحتاج كل أصناف الترجمة ويجب تمكينها مؤسسيا

أستاذ اللسانيات بجامعة محمد الخامس بالمملكة المغربية محمد غاليم يرى أن حال اللغة العربية في الترجمة، كحالها في التأليف، فهي تعاني من قلة في الإنتاج المعرفي الجاد ووفرة الرداءة (مواقع التواصل الاجتماعي)

شدد أستاذ اللسانيات بجامعة محمد الخامس بالمملكة المغربية محمد غاليم على أهمية اجتياز مرحلة الترجمة الفردية إلى الترجمات المؤسَّسية التي تنظمها الهيئات والمؤسسات، ومنها الدولة، وأن توظف لإنجازها مترجمين محترفين حصلوا على تكوينات معمقة في مدارس ومعاهد مختصة.

وفي حديث للجزيرة نت، يرى غاليم الذي توج ثانيا بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي التي أعلن عن الفائزين بمختلف أصنافها بالدوحة في 20 ديسمبر/كانون الأول الجاري، أن النهوض بالترجمة يجب أن يخضع لسياسات واضحة وخطط ومشاريع مدروسة، لتلبية حاجات البحث العلمي ومتطلبات التنمية والتقدم المعرفي، وأن تكون جزءا من مشروع حضاري شامل ورؤية عصرية تقدمية للنهوض بالمجتمع من كافة جوانبه.

واعتبر غاليم أن الترجمة أو أي وسيلة أخرى لا يمكنها أن تجنب العالم مزيدا من الصدامات، لكن من شأنها أن تساعد في تطوير فهم الإنسان للإنسان الآخر، وذلك من خلال الاطلاع على جوانب من ثقافته وقيمه وتصوراته.

وقال إن حال اللغة العربية في الترجمة، كحالها في التأليف، فهي تعاني من قلة في الإنتاج الجاد المبني على حظ محترم من المعرفة، وكثرة في الإنتاج الرديء المسيء إلى مستهلكيه، وفي ما يلي نص الحوار:

فزتم مؤخرا بالمركز الثاني في جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي للترجمات الفردية، عن ترجمة كتاب "اللغة والوعي والثقافة"، للكاتب راي جاكندوف، كيف تلقيتم الخبر؟

أشكر لكم في البداية دعوتي إلى هذا الحوار، لقد تلقيت الخبر بنوع من الارتياح طبعا، فرد الفعل الإيجابي عن عمل معين لا بد أن يحمل معه ارتياحا وتشجيعا، وأعبر بهذه المناسبة عن بالغ شكري وتقديري لمؤسسة جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي، وأتمنى لها التوفيق والازدهار في دعم جهود المترجمين وتشجيعهم.

هل كان للمجال المعرفي المشترك بينكم وبين الكاتب واللغوي الأميركي المعروف جاكندوف، دور في إخراج ترجمة تعبر عن أفكار وانشغالات الكاتب في قضايا اللغة والثقافة إلى حد بعيد؟

يبدو لي في حال الترجمة الإرادية النابعة أساسا من اهتمامات المترجم العلمية الفردية -وهي الحال هنا- أن الاشتراك في المجال المعرفي بين المترجِم وصاحب العمل المترجَم أمر حاصل في الغالب الأعم، والمجال المشترك هنا هو اللسانيات من حيث هي علم معرفي بامتياز، يندرج إلى جانب مختلف العلوم المعرفية في هدف عام مشترك، هو دراسة البنية المعرفية الشاملة للذهن أي الدماغ البشري.

ذلك أن البنيات اللغوية وما تعبر عنه من تصورات لا تحيا ولا تُنْتِجُ تمثيلات ذهنية دالة، إلا من خلال علاقتها بمختلف الأنساق الحسية الإدراكية والأنساق التصورية، (ومنها نسق المعرفة الاجتماعية الثقافية)، فالتصورات التي تحملها اللغة لا تشكل كيانا منفصلا عن البنية التصورية التي تتجاوز ما تعبر عنه لغة المتكلم إلى التعبير عن تصوره الشامل للعالم، الذي نسميه "فكرا"، والذي تتضافر في بنائه كل الأنساق الذهنية المذكورة.

الترجمة فعل إنساني يقرب بين الثقافات، ويزيح كثيرا من المغالطات السائدة بين الشعوب، هل بإمكان العالم تفادي بعض الصدامات إذا ما تعزز دور الترجمة في العالم؟

لا أظن أن الترجمة أو أي وسيلة أخرى تؤدي فعلا إلى تفادي الصدامات في العالم، لكن من شأنها طبعا أن تساعد في تطوير فهم الإنسان للإنسان الآخر، وتفهم كيفية وجوده في العالم، من خلال الاطلاع على جوانب من ثقافته وقيمه وتصوراته وما إلى ذلك.

كما يمكن أن يؤدي هذا الفهم والتفهُّم، على المدى المتوسط والبعيد، إلى بلورة القدرة على رؤية الآخر، ليس باعتباره كيانا غريبا مناقضا تجب معاداته والقضاء عليه، بل باعتباره مجرد شكل ثقافي آخر للذات، أي تجليا، مثل الذات، من تجليات التنوع الأحيائي (البيولوجي) الطبيعي في مجال الوجود الثقافي البشري. فالإنسان، من هذا المنظور، كائن واحد ومتعدد في الآن نفسه: واحد ببنية نوعه الأحيائية الأساسية وهندستها الإدراكية المعرفية، ومتعدد باختلاف ثقافاته، فالبنية الأحيائية الأساسية، هي التي تحدد إمكان الثقافة لدى الإنسان وترسم كيفيات الاختلاف الثقافي بين البشر، فلا يكون اختلافا اعتباطيا رغم كونه لا متناهي التلوُّنات والتفاصيل. هكذا تختلف ثقافات الشعوب وتتنوع.

لا أظن أن الترجمة أو أي وسيلة أخرى تؤدي فعلا إلى تفادي الصدامات في العالم، لكن من شأنها طبعا أن تساعد في تطوير فهم الإنسان للإنسان الآخر، وتفهم كيفية وجوده في العالم، من خلال الاطلاع على جوانب من ثقافته وقيمه وتصوراته وما إلى ذلك.

ما الكيفية التي يمكن أن يتحقق بها ذلك وأبرز مظاهره برأيكم؟

أرى أن هذا لا يتحقق إلا بكيفيات مخصوصة وداخل أطر هندسية معرفية معينة دون غيرها، كمظاهر العيش في أنظمة قرابة، وتكوين مجموعات بسيطة ومعقدة، واكتساب لغات، وإنتاج موسيقى، وإبداع أشعار وحكايات، وتصميم رقصات، إلى غير ذلك.

فالاختلاف الثقافي، من جهته، هو الذي يجلي، بكيفياته المخصوصة المذكورة، بنية النوع الأحيائية الأساسية ويحقق إمكانات هندستها المعرفية الماضية والحاضرة والمستقبلية، وإذا أمكن تكوين القدرة على مثل هذه الرؤية وإشاعتها بين الناس، قد يمكن التقليل من حجم الصدامات وحدتها، لكن هذا الإمكان نفسه يبقى رهينا بالتمكين للترجمة ودعمها على أوسع نطاق حتى يستفيد من آثارها الفكرية والتربوية أكبر قدر من الناس، وهذا موضوع آخر.

يبدو أن الثقافة الأنجلوساكسونية أحرزت تقدما ملموسا مقارنة مع الثقافة الفرنكفونية سواء على مستوى الآداب أو العلوم، هل بإمكان توجه الترجمة العربية نحو الثقافة الأنجلوساكسونية تحقيق قفزة ما في المنجز المعرفي العربي؟

رغم الفرق الملموس على العموم في درجة التطور العلمي، خاصة في مجالات بعينها، بين ما ينشر بالإنجليزية وما ينشر بالفرنسية أو غيرها من اللغات، فيجب أن يبقى الأفق رحبا والمصادر غنية، أما القفزات المعرفية فتكون بمقومات حضارية شتى، ليست الترجمة سوى عنصر واحد منها.

برأيكم، هل كل نقل ومقابلة بين لغتين يسمى ترجمة، وما المعايير التي يجب إعمالها للتمييز بين الترجمات عموما؟

لدراسة الترجمة ومعاييرها، في العصر الحديث، تاريخ طويل وحافل، لكننا نشير إلى بعض محطاته الكبرى، فهو تاريخ يمتد على الأقل من عشرينيات القرن الماضي، إذ كانت بدايات البحث عن المبادئ المحددة لطبيعة الترجمة وضوابطها من داخل الأدب المقارن ومن داخل اللسانيات (خاصة مع مدرسة براغ ومقال عالم اللغة جاكبسون الرائد حول "الخصائص اللغوية للترجمة"، الذي أوضح النسق الثلاثي لتأويل الدليل اللغوي (وهو مقال لم ينشر إلا في عام 1959).

وتوالت إسهامات جيل الرواد، ومن أبرزها مساهمة فيني وداربيلنيت (1958) التي ألحت على ترجمة البنيات اللغوية باعتبار وضعها التواصلي الذي ترد فيه، لأن لهذا الوضع أثرا حاسما في تحديد مفهوم التكافؤ المتوخى بين بنيات اللغة المصدر واللغة الهدف، ومساهمة أوجين نيدا (1964) التي أبرزت أهمية البعد الثقافي على أساس أن اللغة جزء من الثقافة (كما سيصفها لاحقا أصحاب نظرية الغرض، وأن الاختلافات الثقافية تنفي إمكان التكافؤات المتطابقة، لذلك تجب العناية أولا "بالمعنى" ثم "الأسلوب" حتى يكون التكافؤ "ديناميا" لا "صوريا"، وكذلك مساهمة بيبكه التي دافعت عن أننا لا نترجم كلمات أو جملا بل نصوصا، أي منتوجات محيَّزة في فضاء ثقافي مخصوص، وأن هدف الترجمة هو الرسالة الثقافية وليس البنية اللغوية، إذ "المعالجة الصورية علم دون لغة"، و"الترجمة نقل ثقافي".

لا نترجم كلمات أو جملا بل نصوصا، أي منتوجات محيَّزة في فضاء ثقافي مخصوص، وهدف الترجمة هو الرسالة الثقافية وليس البنية اللغوية، إذ "المعالجة الصورية علم دون لغة"، و"الترجمة نقل ثقافي"

هل مثّلت بعض الترجمات منعطفا ثقافيا في التاريخ الحديث؟

مؤكد، هناك أعمال مثّلت منعطفا ثقافيا، وساعدت على نضج الترجمة واستقلالها التدريجي عن اللسانيات (كاتفورد 1965 مثلا)، وعلى تحكم أكبر في المظاهر الاجتماعية الثقافية والتواصلية للغة (هاليدي ودريسلر مثلا)، ليكون الخاسر الأكبر في تطورات دراسة الترجمة هذه هو الفهم الضيق للتكافؤ باعتباره المعيار الأساس في الترجمة، ولتنفتح الدراسات الترجمية، بعد مساهمات هذا الجيل الأول التي امتدت حتى حدود السبعينيات، على ما سمي "منعطفا ثقافيا" في الثمانينيات على وجه الخصوص.

وهي مرحلة شهدت استقلال المجال الأكاديمي والتخصص الترجمي، وخروجا من عالم الاستكشاف إلى عالم الاحتراف، وذلك بفضل أعمال تمت أساسا في إطارين تصوريين، الإطار الأول، إطار "الدراسات الترجمية الوصفية" التي اعتمدت مفهوم "النسق المتعدد" (هولمز 1984)، ودافعت عن التوجه نحو النص الهدف (تييو هيرمنس 1985) والاهتمام بمعايير الترجمة وتلقيها، على أساس أن المسألة لا تتعلق بالسمات اللغوية للنص المصدر، بل بوظيفة الترجمة في "الثقافة الهدف" (توري 1985).

والإطار الثاني، هو إطار نظرية الغرض (في ألمانيا خاصة) التي أشرنا إليها آنفا، والتي أنتجت أعمالا دافعت عن أن غرض الترجمة تحدده حاجاتُ المتلقي الثقافية وانتظاراتُه، ويجب أن يكون "الإخلاص للأصل" (المبني على اعتبار التكافؤ) تابعا لهذا الغرض، فالترجمة "تكييف" للنص المصدر -كتكييف المادة الأولية (الخام)- ليوافق غرضا معينا ويخدمه، على النحو نفسه الذي تستعمل به الوكالات الصحفية الأخبار (فيرمير 1984، ورايس وفيرمير 1984).

هل يمكننا أن نتحدث عن وجود ترجمة فريدة كاملة؟

الأعمال التي ذكرت سابقا، أكدت أن لا وجود للترجمة الفريدة الكاملة، إذ كل ترجمة تابعة لغرضها وسياقها، فتخدم هذا الغرض مع المحافظة قدر الإمكان على البنية الصورية للأصل، وتشهد دراسات الترجمة منذ التسعينيات خصوصا حتى اليوم، ما سمي "تعدد التخصصات" أو "المنعطف المعرفي"، وهو استمرار لتفاعل نظرية الترجمة والعلوم المعرفية الذي دُشِّن في الثمانينيات، ولكن بدرجة أكثر تطورا وعمقا.

لا وجود للترجمة الفريدة الكاملة، إذ كل ترجمة تابعة لغرضها وسياقها، فتخدم هذا الغرض مع المحافظة قدر الإمكان على البنية الصورية للأصل

ويبدو لي بعد هذا، أن الأساس اللغوي ضروري لكنه ليس كافيا، وأن المسألة تبقى، إلى حد كبير، مرتبطة بإيجاد توازن قدر الإمكان بين اعتبار الأساس اللغوي في النص المصدر، واعتبار المعنى والأفق التصوري والثقافي لدى المتلقي في اللغة الهدف.

مع ظهور الوسيط الجديد، والبرامج الميسرة للترجمة الإلكترونية، سادت ترجمات ركيكة متسرعة تسيء إلى الفعل الترجمي، كيف تقيّمون حال الترجمة اليوم، من العربية وإليها؟

حال العربية في الترجمة كحالها في التأليف، قلة في الإنتاج الجاد المبني على حظ محترم من المعرفة، وكثرة في الإنتاج الرديء المسيء إلى مستهلكيه، ومما يساعد على هذا، غياب بنيات للبحث العلمي قوية متطورة تفرض إلى حد معين ضوابط الجودة واحترام معايير الممارسة العلمية.

الترجمات العربية في غالبيتها أفعال ومبادرات فردية، ألا ترى أن العمل الجماعي المؤسسي صار ضرورة ملحة كي تلعب الترجمة دورها الحضاري في التقدم والتحدي والمنافسة؟

هذا ما ذكرته آنفا حين أشرت إلى الترجمة النابعة من اهتمامات فردية، وإلى ضرورة التمكين للترجمة ودعمها على أوسع نطاق، فمجتمعاتنا في حاجة إلى كل أصناف الترجمة، وأقصد الترجمة الجادة طبعا المبنية على الاهتمام الجدي الصادق الذي يدفعه جده وصدقه إلى إعداد الوسائل الضرورية الكفيلة بتحقيق أعلى قدر ممكن من الجودة.

وهي حاجة تمتد من ترجمات الأفراد المستقلين الإرادية النابعة من اهتمام فردي، إلى الترجمات المؤسَّسية التي تنظمها الهيئات والمؤسسات، ومنها الدولة، وتوظف لإنجازها مترجمين محترفين حصلوا على تكوينات معمقة في مدارس ومعاهد مختصة.

لتنال الترجمة موقعها الأثير ضمن الاختيارات الإستراتيجية للعالم العربي، ما الذي ينبغي القيام به على المستويين الفردي والمؤسساتي؟

أظن أن في ما ذكر آنفا عناصر مجملة للجواب عن هذا السؤال، ويمكن أن نضيف أهمية العناية بالترجمة في مختلف أسلاك (مراحل) التعليم، إضافة إلى المؤسسات الخاصة بتكوين المترجمين المحترفين في مختلف المجالات والمستويات، ويبقى الإلحاح على أن الترجمة يجب أن تخضع لسياسات واضحة وخطط ومشاريع مدروسة، لتلبية حاجات البحث العلمي ومتطلبات التنمية والتقدم المعرفي، وأن تكون جزءا من مشروع حضاري شامل ورؤية عصرية تقدمية للنهوض بالمجتمع من كافة جوانبه.

تزامنا مع احتفالات اليوم العالمي للغة العربية، كيف يمكن للترجمة من العربية وإليها إعادة الوجاهة المستحقة للغة الضاد؟

للترجمة أهمية كبرى في تطوير اللغة، سواء في مستوى العبارة أو في مستوى المعنى، فهي عامل إغناء لنسق اللغة التصوري وعامل "تثقيف" لها أو "تكوين مستمر" وتوسيع للأفق، وهي ذات أهمية إستراتيجية بالغة في ضمان التحديث والتطويع المستمرين للغة وامتلاكها إمكانات معرفية متجددة والحفاظ على حيوية معجمها وتنشيط حركية حقوله الدلالية ومجالاته التصورية وتوسيع قدرته على التوليد والابتكار وعلى الاتصال والتفاعل الحضاريين.

إنها التماس للمعرفة وتفاعل حضاري ورصيد استثماري وإبداع بما تضيفه من فرص لتجديد البنية الذهنية للفرد والمجتمع، ومن قيم وأفكار وطاقات خلاقة. ويكفي للتدليل على هذه الأهمية النظر إلى ما يصدر في العالم المتقدم من كَمٍّ هائل من الترجمات كل عام.

ما الحقول المعرفية التي ترون أن من الضروري أن تعتني بها الترجمة مستقبلا؟

كل الحقول المعرفية تحتاج إلى غنى في الترجمات، مع الحرص على مواكبة ما يجد، ووضع أولويات عند الضرورة، وإذا كان لا بد من الإشارة لأهمية مجالات بعينها في الحاضر والمستقبل، فيمكن -على سبيل الذكر لا الحصر- أن تكون الفلسفة والعلوم المعرفية، ومنها اللسانيات وعلم النفس وعلم الاجتماع.

المصدر : الجزيرة