حدث في الذاكرة.. الروائي السوداني عبد العزيز بركة ساكن وقصص الرعب

في هذه الزاوية، تفتح الجزيرة نت مساحة لكاتبات وكتّاب لكي يتحدثوا عن الحدث أو الحادث الذي غيّر حياتهم، وجعل منهم شعراء أو روائيين أو قصاصا أو مسرحيين أو مترجمين أو حتى ناشرين، بخلاف توقعات الأهل أو الأصدقاء.

في الوقت ذاته، تعتبر هذه الزاوية نافذة للقارئ والمتابع، لكي يتعرّف إلى جزء حميم وربما سرّي لمبدعين مختلفين في طرق وأساليب التفكير والحياة والكتابة.

ضيفنا اليوم القاص والروائي السوداني عبد العزيز بركة ساكن، الذي ولد في مدينة كسلا شرقي السودان عام 1963، ولكنه نشأ ودرس في مدارس "خشم القرية" القريبة من مدينة القضارف، قبل أن يذهب إلى مصر ليحصل على إجازة في إدارة الأعمال من جامعة أسيوط.

بين عامي 1993 و2000، عمل مدرّسا للغة الإنجليزيّة. وبين عامي 2006 و2008 عمل مستشارا لحقوق الأطفال لدى اليونيسيف، ثم شغل عدة مناصب دولية قبل أن يتفرّغ للكتابة.

إصداره الأول كان رواية "الطواحين" (2000)، ثم رواية "زوج امرأة الرصاصة وابنته الجميلة" (2002)، ثم تتالت أعماله القصصية والروائية مثل "العاشق البدوي" (2010)، و"الجنقو: مسامير الأرض" (2009)، و"مسيح دارفور" (2011)، و"مخيلة الخندريس" (2010)، و"مانفستو الديك النوبي" (2016). وصدرت له هذا العام رواية "ولائم النحس"، وأعيد طبع العديد من أعماله طبعات عدّة.

أما مجموعاته القصصية، فقد بدأها مع "امرأة من كمبو كديس" (2003)، وآخرها "استنساخ الخائن" (2020).

يعتبر بركة ساكن من بين أشهر الروائيين السودانين حاليا، وقد تُرجمت له أعمال عديدة إلى الفرنسية والإنجليزية والألمانية والنرويجية والسويحلية والكردية، لتفوز قبل أيام روايته "الجنقو: مسامير الأرض" بجائزة معهد العالم العربي في باريس، وهي ذاتها الرواية التي فازت عام 2009 بجائزة الطيب صالح.

كما نال بركة ساكن عدة جوائز أخرى بين هاتين الجائزتين، منها: جائزة أدب عالمي (فرنسا)، وجائزة سين (سويسرا)، وجائزة أدب المقاومة (فرنسا).

الروائي الذي ينحاز للواقعيّة، ويستخدم العاميّة السودانية في حوارات شخصيّاته، مما يجعلها صعبة على القارئ غير السوداني، يقيم في النمسا منذ عام 2012 متفرغا للكتابة.

وهنا شهادته عن الأسئلة التي طرحتها عليه الجزيرة نت.

في كتابه "صلاة الجسد" يقدّم عبد العزيز بركة ساكن نصوصا نثرية تحمل تساؤلات فلسفية وتشبه الشعر (الجزيرة)

تلميذ إدغار آلان بو

في اللحظة التي أنهيت فيها قراءة كتاب قصص الرعب والخوف للكاتب الأميركي إدغار آلان بو، قررت أن أصبح كاتبا، من أجل هدف واحد هو أن أكتب نصوصا ممتعة مثل تلك القصص التي  قرأتها.

ما كنت أعرف من هو إدغار آلان بو، ولا شيئا عن المترجمة التي كانت الأستاذة خالدة السعيد، وكل ذلك ما كان يهمني وقتها. ما كان يشغلني هو النصوص والقصص الغريبة التي جعلت قلبي يسرع في دقاته مثل الطبل، وشحنت منامي بالكوابيس، وأجبرتني على الذهاب إلى مكتبة المدينة لأنفق كل النقود القليلة التي كنت أحصل عليها من العمل في المزارع وبيع الفول السوداني وبذور البطيخ والمانغو، والأسماك التي كنت اصطادها من النهر في وقت الفراغ، وما كانت تعطيني إياه والدتي كل صباح من أجل شراء شطيرة الإفطار في المدرسة.

كانت الكتب بالنسبة لنا غالية الثمن ونادرة، وعادة ما كان يتم تبادلها في القرية، فيمر الكتاب الواحد بكل من يحب القراءة. ويبدو أنني حرمتهم من إدغار آلان بو، لأنني أخفيته تحت صخرة عند ضفة النهر -بعد أن سرقته- وكنت أحج إليه كلما اشتقت للرعب.

في بيتنا لم تكن هناك كتب. كان هناك فقط المصحف الذي لم يكن للقراءة بقدر ما كان حارسا لنا وللبيت، فكانت الأسرة تحتفظ به في مكان ما بعيدا عن أيدي الأطفال، ولا يُستخدم إلا عند ميلاد طفل جديد في الأسرة؛ حيث كان يوضع تحت وسادة الطفل حتى لا تختطفه الشياطين أو تستبدله العفاريت بطفل من أطفالها المشوهين.

شغف الطفل القارئ

ولجتُ "قُطية" (غرفة) أخي الأكبر حسن عبيد، وكان غائبا لأسبوع كامل في أحد مواقع العمل خارج المدينة، مما وفر لي فرصة أن أدخل "قطيته" المحرم علينا دخولها عادة، وتحت وسادته وجدت كتابين هما "التفاحة والجمجمة" لمحمد عفيفي، والمجموعة القصصية التي تخص إدغار آلان بو. جذبني العنوان الغريب: قصص الرعب والخوف، فسرقت كتاب آلان بو وهربت به إلى شاطئ النهر حتى لا يراني أحدهم ويشي بي، والتهمته التهاما هناك. وكان ذلك أول كتاب اقرؤه في حياتي بعيدا عن مقررات الدراسة النظامية، وكنت حينها تلميذا في المدرسة الابتدائية وعمري حوالي 13 عاما.

رواية “الجنقو.. مسامير الأرض” ترجمت للغة الفرنسية (الجزيرة)

لم أفكر فيما أكتب. كنت مشغولا بالسرد والحكي وحيل توصيل الفكرة وحيل الاستحواذ على القارئ. كتبتُ ما أسميه لاحقا تمارين في الكتابة. فكتبتُ قصصا قصيرة ومسرحيات وما يُشبه الرواية القصيرة التي وسمتها بـ"تحت النهر"، وهي تحكي عن طفل عنيد لا يصدق ما يقوله الناس عن الشياطين التي تسكن قاع النهر وتخرج بعد مغيب الشمس لتمارس حياتها المتوحّشة وتخطف إلى القاع كل سيئ حظ تصادف وجوده هنالك، فذهب الطفل ذات ليلة مقمرة وحده إلى النهر ليبرهن كذبات أهله وخطأ خرافاتهم، ولسوء حظه وجد الشياطين تنتظره وتأخذه إلى القاع حيث مملكتهم. ولكن الطفل كان أكثر حماقة وجنونا من الشياطين أنفسهم، فأرهقهم وأفسد عليهم حياتهم فطردوه مرة أخرى للشاطئ.

أكثر من لغة

كانت تلك هي روايتي الأولى التي كتبتها في كراسات الإنشاء والواجبات المدرسية، حيث لم أكن أمتلك نقودا لشراء الورق. وقد ضبطني مرة أستاذ اللغة العربية سعيد أبو بكر، وبدلا من أن يعاقبني، أثنى علي وجعلني أقرأ روايتي للطلاب في كل فصولهم، فصلا فصلا. وكانت تلك أول قراءة لنص أكتبه، مما حفزني على مواصلة الكتابة والقراءة باللغتين العربية والإنجليزية، من أجل أن أصبح كاتبا.

قال لي ذلك الأستاذ مرّة: "ما في (لا يوجد) كاتب لا يعرف أكثر من لغة". وحتى الآن، لا أعرف من أين حصل على تلك الفكرة، ولكن اللغة الإنجليزية أفادتني في الاطلاع على آداب الآخرين بلغتهم.

تتمحور حياتي منذ سن مبكرة -كما ذكرت- حول فكرة واحدة، وهي أن أصبح كاتبا بمهارة إدغار آلان بو وروح جبران خليل جبران، وقد أنفقت كل وقتي من أجل ذلك الهدف، وما زلت.

رواية "مخيلة الخندريس" تتناول قصص المهمشين والمشردين وتغوص في حيواتهم القاسية (الجزيرة)

مجلة الناقد

أول قصة قصيرة كتبتها -خلا تلك التمارين- كانت بعنوان "حَجَرٌ"، وكنت حينها طالبا في جامعة أسيوط. عندها خطرت لي فكرة أن أرسلها لأهم مجلة أدبية تصدر في ذلك الوقت، وهي مجلة الناقد اللندنية التي كان يرأس تحريرها الأستاذ نوري الجراح، وكانت دهشتي كبيرة عندما وصلتني منه رسالة بخط يده تتضمن الموافقة على النشر.

سعدت بذلك كثيرا رغم أنني لم أستطع شراء المجلة، فقد كان سعرها يساوي نصف مصروفي الشهري في ذلك الوقت، ولكن "عم سيد" بائع الصحف سمح لي بقراءتها واقفا عند متجره الصغير، مثلما كنتُ أقرأ عنده إصدارات عالم المعرفة الكويتية ومجلة القلم العراقية و"الأدب الصيني" (Chinese literature) بنفس الأسلوب. أهملت دراستي الجامعية تماما واستبدلتها بما يشبه السكنى في المكتبة العامة عند قصر ثقافة أسيوط، حيث القراءة مجانا وعلى مقعد مريح وفي غرفة هادئة.

كما أنني واظبت على حضور جلسات نادي الأدب التي كانت تقام أيضا في قصر الثقافة، ويحضرها لفيف من المثقفين والكتاب مثل: الشاعر والمسرحي درويش الأسيوطي، والأديب سعد عبد الرحمن، والقاصة فوزية أبو النجا، والقاص والروائي زكريا عبد الغني، والأديب فراج فتح الله فراج.. وكثيرا ما كان يزورنا الأديب المرحوم محمد مستجاب، والشاعر عزت الطيري وغيرهم.

هذه الذكريات لا تفارقني أبدا. ما أريد أن أقوله، هو أنه لم يكن هنالك سبب خاص يدفعني لكتابة الرواية سوى التجريب في السرد، والاستمرار في المتعة كقارئ.

المصدر : الجزيرة