الروائي الحسن بكري يحكي تجربته مع العنوان.. توسل الطرق بين الملل والتناص والمفردة الواحدة

الحسن بكري روائي سوداني وأستاذ جامعي مقيم بالدوحة، رحلته في الحياة كثيرة المحطات والمهاجر، ورحلته مع الإبداع تسير وفق مشروع خطط له بعناية، ويستوعب ما يريد أن يقوله.

أما رحلته مع العنونة فلا تسير على نمط واحد، لكن أبرز معالمها تَشَكَّل بقراءاته المتنوعة، ومعرفته بطاقة الكلمة، وتعدد المعاني والدلالات لكلمة أصيلة في العنوان. وفي شهادته للجزيرة نت عن رحلته مع العناوين يعترف الحسن بأنه يملُّ عناوينه أحيانا، وفي أحايين أخر يحس بتجاوز المتن للعنوان، فيعمل على تعديله أو تغييره.

التناص الواعي أيضًا حاضر في عناوين الحسن، تدفعه المحبة للمتناص معه، وقد تكون أوجه الشبه سببا لذلك.

ويرى الحسن بكري صاحب الروايات الست أن الاستعارة والتورية والتناص في الغالب الوسائل والتقنيات التي يستعين بها لصياغة عناوين تلخص ما أمكن المواضيع والثيمات التي تعالج ما أنجز من روايات. وتحدث بكري للجزيرة نت عن تجربته، فإلى كلامه:

العنوان أداة للترويج

بانتشار كتابة الروايات وتعدد دور نشرها ووسائط الإعلان عنها، أصبح العنوان في كثير من الأحيان أداة للترويج وللمنافسة الدعائية، بهدف اجتذاب جمهور واسع من القراء.

وربما لأن كثيرًا من قرائها ينتمون لفئة الشباب، خاصة في البلدان العربية حيث يمثل هؤلاء النسبة الغالبة من تعداد السكان، ومن تعداد المتعلمين منهم، مما جعل هناك ميلًا في السنوات الأخيرة إلى اختيار عناوين للروايات تخاطب هذه الفئة العمرية.

وقد يلج قطاع عريض من القراء للرواية من باب المسلسل التلفزيوني، فتقترب العناوين الموجهة لهم من أسماء المسلسلات الرومانسية من عينة روايات "ما لم يقله البحر" لمصطفى نصر، أو "سيدة الزمالك" لأشرف العشماوي.

لكن هذا الاتجاه الدرامي قد ينحو منحى مباشرا ومكشوفا، مما يدفع للظن بأن الكاتب يحاول المضي بعيدا في اتجاه تكريس العنوان لإغراء عدد أكبر من القراء. كما يمكن تصنيف العناوين أحيانا حسب بلد النشر، حيث تميل بعض البلدان العربية لنشر عناوين أكثر محافظة، وهذا التصنيف قد ينطبق على دور النشر أيضا.

في روايته "حكاية مدينة واحدة" يقدم الحسن بكري قصة آخر دولة مسيحية سودانية اندثرت مطلع القرن 16 (الجزيرة)

مفردة واحدة قد تكفي

هناك كتّاب بارعون في اختيار عناوين كتبهم، وهي مهارة تتعلق بجودة سبك العبارة، أو اختيار المفردة إن احتوى العنوان على مفردة واحدة. الأميركي إرنست همنغواي واحد من الذين أحببت عناوينهم، على سبيل المثال "أيضا تشرق الشمس"، و"وداعا للسلاح"، و"لمن تدق الأجراس".

لكن العنوان ليس هو الذي يخدم الرواية على الدوام؛ فالروايات العظيمة أحيانا تحقق الشهرة للعنوان، فتغدو بعض العناوين كلاسيكية وشهيرة ومتداولة على نطاق واسع.

بعض روايات نجيب محفوظ مثل: "بين القصرين، و"قصر الشوق"، و"السكرية" ذات عناوين طارت شهرتها لعظمة متونها الروائية.

بل إن مجرد كلمة "الثلاثية" -وهي ليست عنوانا- تحيل في الغالب ذاكرة القارئ العربي لهذه الروايات الثلاث.

أما كون العنوان مفردة واحدة أو أكثر أيضا فمما يُلحظ في الفترة الأخيرة الميل لاستخدام كلمة واحدة في العنوان، وخذ مثالا لذلك "طقس" لأمير تاج السر، و"غرق" لحمور زيادة، و"زعفران" لشيماء المرزوقي. وهذا لا يعني أن الاتجاه جديد؛ فقبلهم جميعا من حيث تاريخ النشر "الخباء" لميرال الطحاوي، وبالطبع لدينا "مريود" للطيب صالح منذ سبعينيات القرن الماضي، وإن كانت المفردة تعود إلى اسم بطل الرواية، وهذا ضرب آخر في اختيار العناوين.

الرواية الأولى وتوسل الطريقة

عوامل مختلفة تحدد كيف أختار عناوين كتبي. فأثناء الكتابة أختار أسماء عديدة، ثم لا ألبث أن أملها، أو أن أظنها لا تتناسب مع التقدم الذي أحرزته الرواية.

في روايتي الأولى "أهل البلاد الشاهقة" لم أعبأ بالعنوان حتى أتممت كتابتها، لكن سأتوسل طريقة العنونة تلك لاختيار أسماء ما تلتها من رواياتي الست. تلك الأيام كنت أطالع كتاب المعلم الثاني أبو نصر الفارابي (أهل المدينة الفاضلة)، وسحرني بعض ما جاء فيه، بما في ذلك عنوانه؛ فلجأت للتناص معه، أو الإشارة إليه؛ لذا جرى عنواني مهتديا باسم كتابه.

هناك أيضا التورية في كلمة "شاهقة"؛ إذ تدور معظم أحداث الرواية في الهضبة الإثيوبية، وتتضمن علاقات حب جامحة، وصراعات حرب طاحنة؛ لذلك أتت كلمة "شاهقة" لتعبر عن جغرافيا المكان الجبلية العالية، بالإضافة إلى الاسم من جذر الفعل "شهق"، فجاءت مفردة (الشاهقة) لتعبر عن الاستغراق في الحب والدهشة وقسوة الحرب وضراوتها، وما تؤدي إليه من شهقات القتلى والجرحى.

روايتي الثانية "سمر الفتنة" تستوحي التاريخ والأسطورة، ويتضمن عنوانها هي الأخرى معاني مختلفة. تقوم بنية الرواية على "أسمار" تسردها إحدى شخصيات الرواية الأساسية وتدعى "أجوبا" بالليالي التي يصير فيها القمر بدرا.

أجوبا تكرس أسمارها الممتعة لإشعال الفتنة بترويج الإشاعات في مملكة "ألوة" أو "علوة"، وهي مملكة سودانية سقطت أوائل القرن 16.

كذلك دفعت أجوبا بناتها الحسناوات الفاتنات لإغواء الأمراء، مما زاد نعرات التنافس بينهم، وأدى إلى إهمالهم شؤون الحكم؛ مما قاد لإسقاط المملكة.

في هذا العنوان عولت على مفردة "فتنة" ودلالاته المتعددة؛ بين الفتنة بمعنى الفوضى والصراع، والفتنة في دلالتها المتعلقة بالجمال الذي حازته بنات أجوبا.

التناص مع كولردج

"أحوال المحارب القديم" فازت بجائزة الطيب صالح للإبداع الروائي عند منحها لأول مرة عام 2003. رواية تقارب التاريخ والأسطورة معا. تأخذ أحداثها شكلا تاريخيا يشابه ما ورد من وصف لوقائع حروب الثورة المهدية في السودان في نهاية القرن 19 أو حتى وقائع سقوط الممالك النوبية وقيام السلطنة الزرقاء إثر ذلك. وورد عنوان هذه الرواية بشكل مباشر في متنها.

"البعد الأسطوري في روايتي هذه ذكرني بقصيدة (الملاح القديم) لشاعر الرومانسية الإنجليزية الشهير صمويل تيلور كولردج، مما حفزني للتناص مع عنوان القصيد"، الشبه بين الرواية والقصيدة من حيث بعدهما الأسطوري وفي كون الأمر ينتهي بالشخصيتين الرئيسيتين لاعتزال مهنتيهما: الإبحار والجندية، كما أن كلا منهما يبلغ مرتبة عالية من الحكمة بعد صراع مرير في البحر بالنسبة للملاح القديم، وفي الحرب بالنسبة للمحارب القديم بطل الرواية.

في رواية "طقس حار" يكيف الحسن بكري الأحداث الواقعية والمتخيلة ويوزعها في ثنايا النص (الجزيرة)

طقس حار.. تنوع دلالي في المفردة والعبارة

يشير عنوان "طقس حار" إلى حرارة الطقس، وإلى الطقوس المتعلقة بالموت وبحرارة وشدة النضال الوطني. يتشبث بطل الرواية الذي يعاني من أعراض الاحتضار بالحياة، فنجده ينجو من سكرات الموت مرة إثر مرة، ليباشر طقوس العيش من جديد؛ فتشير حرارة الطقس هنا إلى مرارة الموت وقسوته.

لكن من ناحية أخرى، فإن بطل الرواية عاشق لا يشق له غبار، فهو منهمك باستمرار في طقوس الحب والزواج، بالإضافة إلى كونه مناضلاً جسورًا أنفق عمره المديد ينافح الاستعمار والدكتاتوريات التي أعقبت الاستقلال، وقد جرّ عليه كفاحه السياسي متاعب ومصاعب قاسية، حارة.

بين الأدب الإنجليزي والموروث السوداني

"حكاية مدينة واحدة" رواية عن مدينة تتقاذفها الحروب، وتعصف بها الاضطرابات. يتناص العنوان هنا -كما هو واضح- مع رواية تشارلز ديكنز الشهيرة "حكاية مدينتين"، وقد كان دافعي في اختيار هذا العنوان إحساسا عميقا بالامتنان تجاه روائيي العصر الفيكتوري الإنجليز، بالإضافة إلى ذكريات تخص درسا أكاديميا ممتعا في السرد الفيكتوري درسناه على يد أستاذنا أحمد نميري أيام الطلب في جامعة الخرطوم، في آخر سنوات السبعينيات من القرن المنصرم.

رواية ديكنز تتناول العنف والإضرابات التي صاحبت الثورة الفرنسية، وهي وقائع تشابه ما جرى في "حكاية مدينة واحدة"، رغم البعد "الفانتازي" الذي يشكل بنية وأحداث روايتي.

وقع اختياري على "عرق محبة" عنوانا لروايتي الأخيرة، التي هي قيد النشر الآن. هذه الرواية تكمل -في رأيي- المرحلة الأولى من مشروعي السردي، الذي تتراوح فيه الأحداث بين الأسطورة والتاريخ، وهي تحكي تاريخ عائلة، بدءًا من الجد الثاني، وانتهاءً بأحد أحفاده، وهو ما أشرت إليه بكلمة "عرق"، أي إثنية أو عشيرة. تنغمس هذه العائلة في علاقات عديدة ومديدة من مغامرات الغرام، وهذا ما  وُصف بكلمة "محبة".

لكن العبارة نفسها "عرق محبة" مأخوذة من التراث الشعبي السوداني، حيث ينتشر الظن بأن الحبيب يمكن ترويضه والحصول على رضاه من خلال طقوس يدخل في تكوينها عرق يؤخذ من جذور الأشجار ويطلق عليه "عرق المحبة". لا بد من الإشارة إلى أن هذه هي الرواية الثانية التي ورد العنوان في متنها.

المصدر : الجزيرة