التنكيل بالطغاة والتشفي الأدبي.. "التعبئة" لوجدي الأهدل أو متتالية السخرية من الدكتاتورية

غلاف كتاب التعبئة
يقيم الكاتب اليمني وجدي الأهدل كتابه "التعبئة" على فكرة ثأر الأدب من الديكتاتورية عبر السخرية منها (الجزيرة)

تعيش القصة القصيرة في العالم انتعاشة كبيرة بعد أن همّشت سنوات بفعل سطوة فن الرواية على عالم التخييل، وكأن كتّاب القصة أعادوا قراءة ما توصل إليه الشكلاني الروسي فيكتور شكلوفسكي عندما افترض في كتابه "نظرية النثر" أن الرواية يمكن أن تتشكل قصص كانت لها حيوات سابقة بشكل منفصل، مستشهدا على ذلك بدون كيشوت لميغيل دي ثيربانتيس، والديكامرون لجوفاني بوكاشو، والحمار الذهبي لأبوليوس وأعمال أخرى.

فقد توجه كتّاب القصة اليوم إلى فكرة المتتالية القصصية بدل المجموعة القصصية، فالأولى تكتب بنية مسبقة كمشروع متكامل يضم عددا من القصص التي تكون في تعالق تام أو جزئي وفي تناغم وتداخل وتكامل، بينما الثانية هي تجميع لقصص كتبت في أزمنة مختلفة في مواضيع مختلفة لا يربط بينها شيء بالضرورة.

وانتبه الكتاب العرب لهذا النوع من الكتابة وبدؤوا يجربونه. ولعل أبرز التجارب العربية الأخيرة "نكات للمسلحين" لمازن معروف و"الطلبية" لشيخة حليوي و"الكرسي" لطالب الرفاعي وأخبار الرازي لأيمن الدبوسي، وقد كان إبراهيم أصلان أحد رواد هذا النوع حديثا.

بينما اعتبر النقاد أن الهمذاني في مقاماته الأقدم في الأدب العربي، تلك المقامات التي تروي مغامرات شخصية واحدة في أوضاع مختلفة وفي أزمنة مختلفة، ولعلنا لا نجانب الصواب إذا ما اعتبرنا أن رسالة الغفران ومغامرات ابن القارح في الجنة هي إحدى المراحل الجنينية أيضا لهذا النوع من الكتابة في التراث السردي العربي.

المتتالية القصصية

المتتالية القصصية أو "المتوالية القصصية "كما يسميها بعض النقاد هي كتاب قصصي تجمع قصصه فكرة أو ثيمة واحدة أو شخصية واحدة.

والتعبئة لوجدي الأهدل متتالية قصصية رغم أنها حملت على غلافها عبارة "مجموعة قصصية"، لأن عبارة" متتالية قصصية" لم تدرج بعد في تقاليد النشر العربي، مثلها مثل "التخييل الذاتي" الذي لم يجرؤ على استخدامه على غلاف كتابه أحد من الكتاب إلا المغربي عبد القادر الشاوي.

مع ذلك قد وضعها عدد من الكتاب كان أورد بعضهم الناقد العراقي ثائر العذاري في مقاله "لماذا ينبغي أن نعد المتوالية القصصية جنساً أدبياً؟"، ومنها أمواج الليالي إدوارد الخراط 1991، وأغمض روحي عليك لطالب الرفاعي 1996، ومسيرة عزبة الجسر لسعد الدين حسن 1998، وهيا نلعب يا جدي سويا مثل أمس ليحيى الرخاوي 2000، ومتواليات باب ستة لسعيد بكر 2001، وحديث المكان لفوزات رزق 2005، ومرج الكحل لمنير عتيبة 2005.

ويمكن اليوم أن نضيف إلى هذه القائمة الكثير من الكتب التي شكلت مدونة كاملة تستحق أن تكون مبحثا نقديا مهما، وما يدعمها كذلك أن هذا النوع من الكتابة يحاول أن يحقق خصوصيته بعيدا عن الجنسين الرواية والقصة القصيرة، رغم التشابك الظاهر بينه وبين كل منها. فهو رواية بلا حبكة ولا تطور في الشخصيات وهو قصص مترابطة إلى حد كبير تجعل الراوي أحيانا واحدا والموضوع واحدا مما يدفعها نحو الرواية.

يمثل كتاب "المتوالية القصصيّة: الأصول والتجنيس والتمثلات" للدكتور ثائر العذاري الصادر حديثا عن دار كنوز المعرفة في عمّان 2020، أول عمل نقدي عربي في هذا المجال، ومن شأنه أن يفتح بابا للبحث والتعمق في هذا النوع من الكتابة ومدى قدرتها على الارتقاء إلى مستوى الجنس الأدبي من ناحية، والعمل على تفكيك عناصره والتأمل في خصوصيته وعلاقته ببقية الأجناس الأدبية الحافة به.

يقول الناقد الأدبي فيكتور شيكلوفسكي "إن المجموعة القصصية قد سبقت الرواية المعاصر، غير أن هذا الحكم لا يفترض وجود رباط سببي، بل يحدد، بالأحرى، واقعة زمنية.

في العادة، تجري محاولة للربط بين الأجزاء المكونة للمجموعة، وإن بطريقة شكلية، إذ توضع القصص القصيرة المستقلة داخل قصة قصيرة أخرى يفترض أن تلك القصص تشكل أجزاء لها.

على هذا النحو وضعت مجموعات "بانتشاتانترا" و"كليلة ودمنة" و"الهيدوباديشاه" و"حكايات الببغاء" و"الوزراء السبعة" و"ألف ليلة وليلة" والمتن الجورجي للقصة القصيرة في القرن الـ18، و"كتاب الحكمة والكذب".

يقودنا هذا التصور إلى مراجعة تجنيس الكثير من الأعمال الأدبية العربية التي وضعت تحت علامة الرواية والتي استدعى كتابها قصصهم الشخصية التي سبق أن نشروها، والخرافات وقصص الشطار، وضمنوها في شكل أدبي سماه النقد أحيانا بالرواية التجريبية والقصص التجريبي وغيرها من التسميات، وهي في الحقيقة ضمن المتتالية القصصية منها في نوع آخر، ويمكننا أن نمثل لتلك الأعمال بـ"صبع صبايا" لصلاح الدين بوجاه، و"رأس الديك" لحسن نصر.

السخرية من الدكتاتور

يقيم الكاتب اليمني وجدي الأهدل كتابه "التعبئة" على فكرة بعينها، ثأر الأدب من الديكتاتورية، عبر السخرية منها ومن رموزها فيستدعي إلى عالمه التخييلي أهم رموز الدكتاتورية في التاريخ، لينسج قصصه الساخرة عن هتلر وفرانكو وتشاوشيسكو وماركوس وعمر بنغو وعيدي أمين دادا وبول بوت وخورخه فيديلا وموغابي وبينوشيه وسوهارتو وبوكاسا وستالين ونابليون.

ففي قصة "فرانكو يلقى مصرعه" أذل وجدي الأهدل الطاغية بأن جعله وجها لوجه مع خوان كاليخونتي الشاب الهزيل الأحمق الذي يخشى زوجته، وهو شخصية استلهمها الأهدل من شخصية دون كوخوته الذي اشتهر بأن شخصية مهمة جدا قد اتصلت به لو ترد على أحد غيره.

وتلك المواجهة انتهت لصالح كاليخونتي الذي واجه فرانكو (الديكتاتور الإسباني المتوفي عام 1975) بكل ضعفه وهشاشته وعجزه، فانهار أمام استهتار كاليخونتي الذي لم يرتجف من حتمية الموت والعقاب الذي توعده به فرانكو، وقد سقطت شخصية فرانكو حين رفضت الشخصية المهمة التي ردت على مكالمة كاليخونتي أن ترد عليه ولم تعر اتصاله أهمية.

إن سخرية الأهدل لا تقف عند الدكتاتور الذي يبرر أحيانا حكمه بأنه مستلهم من الشعب، بل يتعداه إلى نقد الشعب نفسه الذي يصنع الدكتاتور ويرعاه ويلهمه .

يقول ماركوس دكتاتور الفلبين في قصة ماركوس يلتقي القتل "أنا دكتاتور ولكني لست سيئا، ليست لدي نظرية جاهزة لكي أطبقها، وإن كانت لدي واحدة فلست أحمق لكي أفرضها عنوة، أنا أحكم وفقا لهوى الشعب، أحكم بالطريقة التي يرغبون في أن يحكموا بها، ولم آت بشيء من عندي، بهذا المعنى أعتبر نفسي دكتاتورا صالحا".

وهو ما يؤكده القتيل ولكنه يستغل ذلك الوضع الذي وضع فيه نفسه الدكتاتور ليشتمه ويصفه بأرذل الأوصاف. يقول: نحن الفلبينيين كلنا هذا الرجل. وأي واحد منهم لو واتته الفرصة وصار رئيسا لنهج النهج الذي نهجت. الفلبيني من دون عصا يصير إنسانا فاسدا".

التشفي الأدبي

يستند وجدي الأهدل في كتابة قصصه إلى وقائع تاريخية إلى جانب هذه الشخصيات التاريخية، أو كما يطلق عليها الناقد الأدبي فيليب هامون بالشخصيات المرجعية، ليشكل بها ديستوبيا مضادة لتلك التي أثثها هؤلاء الطغاة لشعوبهم قبل ذلك.

ويذهب الأهدل نحو الإغراب والفنطاستيكي (العجائبي) في أحيان كثيرة، فيعبث بأجساد الطغاة ويعريهم لمزيد إذلالهم وتصغيرهم أمام القارئ والعالم في عملية أشبه بالتشفي الأدبي تذكرنا بما كان يقال عن الكاتب البرازيلي جورج أمادو إن الناس كانوا يخشون غضبه، لأن في إمكانه أن يجعل من كل من يغضبه شخصية روائية تقرأ في العالم كله وتثير الضحك.

وإن كنا نعيب على الكاتب تحفظه العربي، وتجنبه كذلك رؤساء كوريا الشمالية وبطشهم واعتبرنا ذلك بفعل الانتقائية، فإن سؤال الذي يطرح نفسه: كيف قفل الكاتب كتابه دون الالتفات إلى أي دكتاتور عربي معاصر أو من التاريخ؟

ألا ننتظر من الكاتب الذي سخر من الدكتاتورية الغربية والأفريقية والآسيوية أن يسخر من أخوة هذا الدكتاتور العرب حتى تكون هذه القصص إحدى ميكانزمات دفاع أخرى للمواطن العربي؟ ألا ينتج المواطن العربي في المقاهي عشرات القصص الساخرة والنكات حول طغاته تستحق أن تروى ويستفيد منها الأدب؟

أم أن الكاتب وضع لنا خطة طريق غربية محايدة للسخرية حتى نقتفي أثرها في شأننا الخاص؟ ولكي لا تلاحقه لعنة الدكتاتور العربي مع رحلة القراءة؟ تلك القراءة المحفوفة بالمخاطر وبالجوائز أيضا.

المصدر : الجزيرة