ريادة التطبُّب في التاريخ العربي.. 3 رسائل أندلسية في الطاعون الجارف

ثلاث رسائل أندلسية في الطاعون الجارف
3 رسائل أندلسية في الطاعون الجارف (الجزيرة)

شهد الاهتمام بالعلوم وتاريخها عربيا تراجعا كبيرا بعد أن توقفت الحضارة العربية عن إنتاج العلوم، تلك الحضارة التي أنتجت البيروني وابن سينا والخوارزمي وابن البيطار والإدريسي وابن رشد والرازي وابن خلدون وابن النفيس، وغيرهم.

ومن ضمن المواضيع التي ظلت بعيدة عن اهتمام الباحثين العرب والمؤرخين العرب الأمراض والأوبئة؛ لكن بيت الحكمة في تونس أو المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون، الذي دأب على إثراء المكتبة العربية العلمية ببحوث وتحقيقات في مؤلفات مهمة في العلوم بشتى أنواعها من الرياضيات إلى الفلاحة، أصدر منذ مدة تحقيقا لـ3 رسائل أندلسية في ما عرف بالطاعون الجارف (1348-749 للهجرة)، قام به الباحث محمد حسن، ويرى أن هذا الحدث كان حدثا حاسما في تاريخ الأندلس والمغرب.

الكتاب أو الرسائل الثلاث

يمثل الكتاب دراسة معمقة وتحقيقا لـ3 كتب مخطوطة هي "مقنعة السائل عن المرض القاتل" لابن الخطيب (شاعر وفقيه وفيلسوف وطبيب وسياسي أندلسي توفي 776 للهجرة) و"تحصيل غرض القاصد في تفصيل المرض الوافد" لابن خاتمة المريني (شاعر وطبيب أندلسي توفي 770 للهجرة) و"النصيحة" للطبيب الأندلسي أبي عبد الله الشقوري. وهي 3 رسائل في الطب لاحقها المحقق عبر مخطوطاتها المتنوعة في إسبانيا وتونس والمغرب.

يقول المحقق "لما أتيحت لي فرصة للعمل بمكتبة الأسكوريال بإسبانيا، طلبت الحصول على صورة من المخطوط، الذي احتوى الرسائل الأندلسية الثلاث حول الوباء، ولم أتردد بعدها طويلا لإجراء مقارنة بينها وبين النسخة التونسية، التي تضمنت نص ابن خاتمة مبتورا، ثم ترقبت المكتبة العامة والملكية بمدينة الرباط المغربية للاطلاع على عدد وافر من المخطوطات وإجراء مقارنة مع نسخة ثالثة لابن خاتمة".

ويختم الباحث كتابه بفهارس للآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأسماء الأعلام والأماكن والبلدان والمجموعات البشرية والأحداث التاريخية والكتب والأبيات الشعرية وفهارس الأدوية والمصطلحات الطبية والأمراض.

الطاعون أنواعه ونتائجه

ينطلق المحقق باقتباس لابن خلدون في كتابه المقدمة يتحدث فيه عن الطاعون وأثره على العمران والاقتصاد والديمغرافيا "هذا إلى ما نزل بالعمران شرقا وغربا في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف، الذي تحيّف بالأمم، وذهب بأهل الجيل، وطوى كثيرا من محاسن العمران ومحاها، وجاء للدول على حين هرمها، وبلوغ الغاية من مداها، فقلص من ظلالها وفل من حدها، وأوهن من سلطانها، وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أحوالها، وانتقص عمران الأرض بانتقاض البشر، فخربت الأمصار والمصانع، ودرست السبل والمعالم، وخلت الديار والمنازل، وضعفت الدول والقبائل، وتبدل الساكن، وكأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب؛ لكنه على نسبته ومقدار عمرانه…"

ثم ينتقل الباحث إلى التعريف بالأطباء الأندلسيين واضعي الرسائل الثلاث: ابن الخطيب وابن خاتمة والشقوري.

يتوقف المحقق عند صورة الطاعون في المصنفات التاريخية الوسيطة في التسمية حيث يسميه ابن خلدون الطاعون الجارف، بينما يسميه الآخرون الطاعون أو الوباء والموتان.

كما يفرق الباحث المحقق بين أنواع الطاعون؛ فالأول عقدي، وهو "الأكثر انتشارا، وصفه الرازي بكونه ورما حارا في الأربيات والإبط، ويقتل في 4 أيام"، أما الثاني رئوي وهو نادر، ذكره ابن خلدون "فإذا كان الفساد للهواء وقع المرض في الرئة، وهذه الطواعين وأمراضها مخصوصة بالرئة".

يذكر الباحث أن الفقهاء اختلفوا في النظر إلى الوباء، فمنهم من نادى بالحجر الصحي، واستندوا إلى الحديث التالي "إذا سمعتم به بأرض لا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارا منها".

وذهب البعض إلى التهاون والاستسلام فلاذ الناس إلى الصبر حيث عد المجتمع "الوباء رحمة والموت شهادة"، كما ذكر ذلك السيوطي في كتابه "ما رواه الواعون في أخبار الطاعون"، وفي هذا يتساءل المؤلف "هل اعتبر الفقهاء الوباء عقابا إلهيا وكارثة ومحنة وقدرا لا مفر منه أم أنهم دعوا إلى مقاومته والتصدي له؟".

وهنا يورد الاختلاف بين الفقهاء مرة أخرى حول مواجهته بالبحث عن العلاج والثبات، وبين الداعي إلى الفرار منه، وبين الدافع إلى التحمل بالدعاء؛ لكن أغلبهم دعوا إلى الحجر الصحي حتى أن ابن سينا مؤلف كتاب "القانون" نظم أرجوزة في الموضوع يقول فيها:

بادر إلى الكن إذا الوبا…يوجد حيث يفسد الهوا

ويورد الباحث مقدمة لاهتمام العرب بالوباء والطواعين منذ القدم حيث عملوا على نقل كتب أبقراط وغالينوس في الطب إلى العربية عن طريق السريان والنبطيين والهنود.

ويتوقف عند حنين بن إسحاق الذي قام بترجمة شرح غالينوس لكتاب أبقراط في الوباء، وعقبت حركة الترجمة إسهامات العرب في الطب وتطور علومه وانتشار الاختصاصات الطبية، فيقول "حتى أضحى الفرق بيننا وبين العشابين والصيادلة والجراحين والكحالين (أطباء العيون) وغيرهم"، بينما استطاع ابن النفيس بشرحه لكتاب أبقراط حول الأوبئة إلى التفريق بين المرض الوافد، وهو الناجم عن فساد نوعية الهواء، والموتان، وهو الناجم عن فساد جوهر الهواء.

ويعود الباحث إلى الأطباء الأندلسيين الثلاثة، ويرى أنهم بينوا أن العدوى تحصل نتيجة تسرب الأعضاء الصغرى إلى الجسم، وشرعوا إلى وجوب الحجر الصحي وإلى تخصيص المستشفيات (المارستانات) لعلاج المصابين".

يتحدث الباحث في دراسته أيضا عن تاريخ الوباء باعتباره يعيش حالة دورية متكررة سماها بالدورة الوبائية، يعيشها المتوسط كل 10 أو 15 سنة ، غير أن هذه الهجمات الوبائية تتفاوت قوتها، ففرق المؤرخون بين ما سموه بالوباء الذريع، وهو الذي يذهب بكثير من الناس مثل النصف والثلث، والوباء الخفيف ذي الانتشار المحدود.

ويورد الباحث الأخبار التي تناقلها المؤرخون عن الوباء، الذي ضرب بلاد المغرب، حيث كان يموت من أهل تونس يوميا ألف شخص، ويعد ذلك بسيطا أمام ما كان يفعل الطاعون بالمشرق، حيث كان يطيح بما بين 10 و20 ألفا يوميا في القاهرة مثلا "حتى بلغت في شهرين 900 ألف".

إن أثر هذا الطاعون لم يكن وبالا على الأرواح فقط؛ بل كان وبالا على الاقتصاد فعم الخراب، يقول "أصاب العمران ما حل بالعباد والاقتصاد، فخلت المنازل، واندثرت عدة قرى، وخاصة بالبلاد الساحلية، ولم يقتصر الأمر على القرى، وإنما كان المشهد العمراني أكثر وقعا في المدن، فقد أهملت العمائر المخزنية بمدينة تونس، وتحولت بعض الأحياء إلى خرائب".

وبموت الكثير من الحرفيين انحسرت مهن وصنائع كثيرة داخل المدن، وأهملت مزارع، وهو ما يفسر -يقول المحقق- اقتران الطاعون بالجوع، إذ اشتد الغلاء سنة 749 للهجرة، ويذكر المحقق أن الطاعون لم يكن يفرق بين عالم وأمي وفقير وغني، فقد أهلك الكثير من الأعيان والعلماء.

التأريخ والتطبب في الرسائل الثلاث

جعل الطاعون الجارف الذي ألم بالأندلس والمغرب سنة 749 للهجرة نخبة الأندلس من العلماء تحاول أن تتصدى بالتسجيل والبحث عن حلول علمية له، فكانت هذه الرسائل الثلاث لكبار الأطباء، الذين أشاروا "إلى الإجماع حول التداوي بالطب"، والتحفظ منه لقدرته على الانتشار عبر العدوى، فتحدثوا عن أسباب المرض، وهو تسرب مواد عضوية إلى الجسم، كما توقفوا عند العدوى ومفهومها وضروب العزل الصحي والتخلص من الثياب الموبوءة.

ويجمع الأطباء الثلاثة على اختلاف مصادرهم من رحلة ابن بطوطة التي اعتمدها ابن الخطيب، إلى التجار النصارى الذين اعتمد أخبارهم ابن خاتمة أن الطاعون آت من الصين و"بلاد الخطا"، ومر ببلاد الترك والشام والعراق، وبلغ بلد القرم فالقسطنطينية.

ويعني ببلاد الخطا بلاد المغول، الذين أنشؤوا إمبراطورية (شرق تركستان) التي غزاها المغول بقيادة "جنكيز خان"، بينما يذكر أن أوروبا كان تتوجه بأصبع الاتهام إلى الحبشة والنيل الأعلى باعتباره نقطة انطلاق الطاعون الأسود.

وأجمع الأطباء الكتاب أن المرية كانت المدينة الموبوءة، ومنها بدأ ينتشر الوباء الذي حصد ثلاثة أرباع السكان.

وعن أسبابه غير الميتافيزيقية التي أصلها بيزنطي، فالبيزنطيون اعتبروه عقابا إلهيا، بيد أن الأطباء الأندلسيين الثلاثة ربطوا ظهوره بفساد الأهوئة والمياه والأطعمة مما يؤدي إلى تعكر الدم وتسمم الجسد، وهذا من شأنه أيضا أن يقضي على الحيوان والنبات.

ونتيجة لهذا فالريح حسب العلماء مساعدة لانتشاره، وهو ما يثبته المقريزي قائلا "ثم حملت الريح نتنهم إلى البلاد، فما مرت على بلد ولا خركاه ولا أرض إلا وساعة شمها إنسان أوحيوان مات لوقته وساعته".

فابن الخطيب يعدّه مرضا "سمي المادة ينتقل بواسطة الهواء، ويسري في العروق، فيفسد الدم، ويتجلى في مظهرين: الحمى ونفث الدم والخراج الذي يظهر في بعض بدنه".

ولما اتفق الأطباء على أن الطاعون وباء متنقل زاحف على المدن الساحلية مرتحلا من بلد إلى آخر، فإن ابن الخطيب أورد 3 أمثلة ممن كان في منأى عن العدوى: زاهد بسلا أغلق على نفسه منزله، والمسجونون بدار الصنعة بإشبيلية، والأعراب بأفريقيا".

وهو بذلك يؤكد دور الانتقال والاختلاط في انتشار المرض عبر العدوى. فمن نجا هم الذين يعيشون في محميات إما طبيعية منعزلة كالأعراب أو مصطنعة كالسجون أو فردية مختارة كالزاهد. وهذا ما دفع المتزمتين إلى تكفيره واعتبروا الطاعون اختبارا إلهيا ووخزا من الجان.

ويرى الباحث أن رسالة ابن الخطيب كانت حاسمة في كل من يرد الوباء إلى أسباب ميتافيزيقية ما ورائية، مقارنة بابن خاتمة الذي ظل مترددا في حسمه لأمر أسباب الوباء بين فساد الهواء وارتباطه بالكواكب ودوراتها.

أعراض الطاعون والعدوى

اهتم الباحث في تحقيق المدونة بأعراض الطاعون، ورجع إلى قانون ابن سينا عندما ربط فرار الحيوانات كالفئران ونفوق السمك بظهور الطاعون، ويبدو أن ابن سينا أخذ ذلك عن غالينوس، يقول الباحث فإن ابن الخطيب وزملاءه لم يتوصلوا بعد إلى علاقة الفئران بالطاعون؛ لكنهم اهتموا بعوارض أخرى كالأورام التي تظهر تحت الإبطين وفي مستوى الأذنين والفخذين، ولذلك سموه بالطاعون الخرجي، بينما الطاعون الرئوي تظهر أعراضه في نفث الدم واستفحال العدوى عند اقتراب المريض من الموت، وقد توصل الطبيبان العربيان إلى تمييز الطاعون عن البثور الوبائية الأخرى.

وفي ما يخص العدوى لم يختلف ابن الخطيب وابن خاتمة في "الإقرار بمسألة العدوى التي تكون عن طريق الاختلاط والاتصال بالملامسة".

وتحصل العدوى في نوعي الوباء: تنتقل العدوى في الطاعون الرئوي عبر "أبخرة المرضى المتعفنة الخارجة مع أنفاسهم، يقول ابن الخطيب أما في الطاعون "الخرجي"، فتنتقل العدوى عن طريق "استعمال ملابسهم وفرشهم التي تقلبوا فيها زمن مرضهم"، ونتيجة لذلك يقول الباحث "توفي جل أهل سوق الخلق بالمرية لابتياعهم ملابس الموتى وفرشهم".

وبعد أن يتوسع الباحث في تحليل المرجعيات النصية والوقائع التي اعتمدها الأطباء الثلاثة ينتقل إلى الموضوع الأكثر تعقيدا، وهو الوقاية والعلاج، والتي اختلف فيها بين المقاربة العقلانية العلمية والحل الغيبي.

وتتمثل المقاربة الطبية العلمية عند الأطباء الأندلسيين في مواجهة الطاعون، وعدم الفرار منه، وذهب الخطيب إلى اختيار الغذاء وإصلاح الهواء بالطيب والرياحين، واجتناب مظان الفساد من المريض أو الميت أو ثوبه أو آنيته أو آلته أو سكنى محله أو مجاورة البيت، الذي فشا في أهله.

أما ابن خاتمة فكان لا يعتقد كثيرا في جدوى العلاج، ونادى بالحيطة والحذر، والابتعاد قدر الإمكان، ومحاولة الشخص اكتساب مناعة بإصلاح الهواء بشم الرياحين الباردة والأزهار والعطورات والتدخين بالصندل والعود.

وهذا ما يتفق فيه الشقوري معه، فالأصل هو ما يصيب الهواء من فساد، وكان يوصي بعدم السفر والحركة، ودعا إلى الاعتدال في الأكل، ونصح بأكل الغلال وتجنب شرب النبيذ والحليب والماء الفاسد ملمحا إلى عدة أكلات أندلسية متداولة؛ مثل جشيش والشعير والتلبينة والحسو من فتيت الخبز والأرز الدقيق… ونصح باستعمال الطين الأرمني لمداواة الجروح والدمل، وهو أمر أوصى به غالينوس وابن سينا.

ونصح ابن خاتمة بالنوم في القيلولة في فصل الصيف، وانتباذ الأماكن الباردة في الشمال، ونصح بالفصد والحجامة مرة في الشهر، كما نصح بالترويح عن النفس عبر المسرات والأفراح، وبسط النفس ضمن علاج نفسي لتقوية المناعة.

وعند حصول المرض نصح بالترياق، وهي حمية مكونة من أشربة التفاح والليمون وماء الورد وأطعمة خفيفة تنشط البدن، وإن كانت النجاة من الطاعون صعبة إن تمكن بالإنسان.

وهذا ما جعل الأطباء باستثناء ابن الخطيب يلتفتون مرة أخرى نحو الحلول الغيبية.

يؤكد المحقق الباحث في نهاية بحثه أن رسالة ابن خاتمة كانت رائدة في تناول الموضوع تناولا علميا دون أن تعدم التفسير الديني، غير أن ابن الخطيب قد اكتفى بالتحليل العلمي في أسلوب جدالي لفقهاء المالكية مما دفعهم إلى تكفيره وقتله، أما الشقوري فقد اكتفت رسالته بالجانب الطبي دون التطرق إلى الأمور الدينية.

ومع ذلك فقد قدم هؤلاء الأطباء خدمة كبيرة للطب الإنساني في تلك المرحلة "ما زالت -يقول الباحث- تفاجئنا إلى اليوم". ويورد بعد ذلك الباحث المحقق الرسائل كاملة، ومعها بعض صور من المخطوطات الأصلية.

المصدر : الجزيرة