الحجر الصحي وعزل المرضى في الجزر.. تاريخ طويل لا يخلو من التمييز والعنصرية

جزيرة جروس في نهر سانت لورانس بكيبيك الكندية عام 1911 استخدمت للحجر الصحي خوفاً من نقل وباء الكوليرا من المهاجرين الهاربين من أيرلندا، ويكي كومنز
جزيرة جروس بكيبيك الكندية استخدمت للحجر الصحي عام 1911 لمنع نقل وباء الكوليرا عبر المهاجرين الفارين من إيرلندا (ويكي كومنز)

عمران عبد الله

"سكان هوبي يتعرضون للتمييز".. هكذا شكا أحد سكان إقليم هوبي -الذي يسكنه قرابة 56 مليون شخص- والذي فرضت عليه الحكومة الصينية حجرا صحيا، بعد تفشي فيروس كورونا الجديد في مدينة "ووهان" التابعة للإقليم.

وقد تم إغلاق المدن، وتوقفت حركة النقل داخل الإقليم وخارجه، وأغلقت المدارس، وتم تعليق الاحتفالات التقليدية بالعام القمري الجديد، وأنشأت السلطات مراكز عزل لمراقبة الأشخاص الذين كانوا على اتصال مع حاملي الفيروس.

وقال تشونغ نانشان -وهو مسؤول باللجنة الوطنية للصحة في الصين- إن الطريقة الأكثر فاعلية لوقف الفيروس هو "الحجر الصحي"، وأصبح عشرات الملايين من الصينيين مقيدي الحركة بسبب هذا الحظر الذي وصف بأنه "الأكبر في تاريخ البشرية". 

ويعني الحجر الصحي تقييد حركة الناس والسلع لمنع انتشار الأمراض المعدية، حتى ولو لم يكن لديهم تشخيص طبي يؤكد إصابتهم بالمرض.

دمشق أم البندقية؟
ويعود مصطلح الحجر الصحي للقرن 14 في مدينة البندقية الإيطالية واشتق من كلمة تعني أربعين يوما وهي الفترة التي طلب فيها عزل ركاب السفن في جزر قريبة لمعرفة إذا ما كان لديهم أعراض الطاعون، قبل أن يسمح لهم بالوصول لشواطئ المدن أثناء الوباء أو الموت الأسود الذي اجتاح أوروبا بين عامي 1347 و1352 ليقضي على قرابة 30% من سكان القارة، أي قرابة عشرين مليون إنسان.

وفي كتاب سفر اللاويين (أحد الأسفار المقدسة للتوراة أو العهد القديم) توجد إشارة لعزل المصابين لمنع عدوى الأمراض التي تسبب قرحة في الجلد.

وقبل تطبيق الحجر الصحي في جنوة والبندقية ومدن جنوب أوروبا، عرفت دمشق تطبيق العزل الصحي، وقام الخليفة الأموي السادس الوليد بن عبد الملك -الذي حكم عشر سنوات بين 705 – 715م الموافق 86 – 96هـ، ببناء أول مستشفى "بيمارستان" في دمشق وأصدر أمرا بعزل المصابين بالجذام وتجنب اختلاطهم ببقية المرضى في المستشفى.

وأجرى الخليفة رواتب للمرضى بما في ذلك المجذومون، وقدم المعونة والعلاج بالمجان، وانتقى أفضل الأطباء والمعالجين لخدمة المرضى.

واستمرت ممارسة الحجر الصحي غير الطوعي للجذام في المستشفيات العامة بالعالم الإسلامي لقرون، وفي عام 1431 بنى العثمانيون مستشفى للجذام في أدرنة التي كانت عاصمة عثمانية قبل فتح القسطنطينية (إسطنبول). 

ودمرت أوبئة "الحمى الصفراء" المجتمعات الحضرية في أميركا الشمالية طوال أواخر القرن 18 والقرن 19، ومن أشهر الأمثلة انتشار وباء الحمى الصفراء 1793 في فيلادلفيا، وتفشي المرض في جورجيا (1856) وفلوريدا (1888). واستمر وباء الكوليرا والجدري طوال القرن 19، إذ اعتمدت حكومات الولايات عمومًا على الحجر الصحي، إجراء إداريا واحترازيا للسيطرة على حركة الناس داخل وخارج المجتمعات المصابة. 

وخلال العصر الصناعي، عززت الدول الأوروبية الحجر الصحي بواسطة حراس مسلحين يمنعون دخول أو خروج أي شخص يظهر أنه مصاب بمرض وبائي، ومع ذلك شاب كثير من هذه الإجراءات اعتبارات سياسية أو جرى التعسف في استخدامها لتخرج عن الممارسة الصحية البحتة. 

‪(ويكي كومنز)‬ الحجر الصحي في رومانيا عام 1845 
‪(ويكي كومنز)‬ الحجر الصحي في رومانيا عام 1845 

بحلول القرن التاسع عشر، كان لدى العديد من المدن الكبرى في أوروبا والولايات المتحدة جزيرة نائية أو مرفق احتواء لعزل المرضى أو المشتبه بكونهم كذلك، ورغم تلقيهم الرعاية فقد توفي الكثير منهم، ومع ذلك سجلت حالات لإساءة استخدام صلاحيات "الحجر الصحي" لعزل أشخاص غير مرغوب فيهم لأسباب وصفت بأنها "غير صحية" في بعض الأحيان. 

وفي مقال بصحيفة نيويورك تايمز روى هوارد ماركيل أستاذ تاريخ الطب بجامعة ميشيغان حادثة وقعت في يناير 1892 عندما تفشي وباء حمى التيفوس القاتلة بين المهاجرين اليهود الروس الذين استوطنوا الجانب الشرقي من مدينة نيويورك ولكن وزارة الصحة المحلية قامت بتجميعهم إلى جانب السكان اليهود الآخرين الذين عاشوا في منطقة قريبة ولم يكونوا مرضى ولا مشتبها في إصابتهم بالمرض، وفي النهاية توسعت العدوى وشملت الأصحاء نتيجة التكدس في خيام جزيرة الحجر الصحي. 

وفي وقت لاحق قام وليام جنكينز، مسؤول الحجر الصحي لولاية نيويورك، بتحويل مئات من ركاب أوروبا الشرقية واليهود الفقراء القادمين من أوروبا وآسيا إلى جزر نائية ضمن إجراءات الحجر الصحي لمنع تفشي الكوليرا، ولكنه استثنى ركاب الدرجة الأولى، قبل أن يتعرض لنقد شديد أدى لعزله في النهاية. 

وفي عام 1900، استجابت سلطات سان فرانسيسكو لوباء "الطاعون الدبلي" عن طريق تطبيق "الحجر الصحي" على المباني في الحي الصيني الذي يشغله المهاجرون الصينيون في الغالب. لكنهم لم يطبقوا الحجر الصحي على الأميركيين المولودين في الولايات المتحدة والذين كانوا يتحركون بأريحية خارج بيوتهم، وزعم بعض الأطباء -بطريقة غير علمية- أن الطاعون كان مرض "من يتناولون الأرز" وليس "من يتناولون اللحوم".

وهكذا جرى استخدام سلطات الحجر الصحي بطرق لم تخلُ من التمييز والعنصرية، وهي الحوادث التي تشبه اتهامات الشعوذة والجنون في الماضي التي طالت فلاسفة وأدباء في العصور القديمة. 

المصدر : الجزيرة