آثار وتراث الإنسانية في أتون الحروب.. هل تحمي الجيوش ماضي البشرية أم تدمره؟

Omran Abdullah - مجلس المدينة القديمة بالعاصمة البوسنية سراييفو، بالقرب من الجسر الذي دشن أحداث الحرب العالمية الأولى، بيكسابي - تراث الإنسانية وآثارها في أتون الحروب.. هل تحمي الجيوش ماضي البشرية أم تدمره؟
مجلس المدينة القديمة بالعاصمة البوسنية سراييفو بالقرب من الجسر الذي دشن أحداث الحرب العالمية الأولى (بيكسابي)

عندما هدد الرئيس الأميركي دونالد ترامب -في ذروة التصعيد مع إيران في أعقاب مقتل قاسم سليماني- بأن بلاده قد تستهدف 52 موقعا في إيران بينها مواقع مهمة للثقافة الإيرانية، وتوالت ردود الفعل التي تدينه باعتبار أن قصف مواقع ثقافية وتاريخية "جريمة حرب" وفق معاهدة لاهاي لعام 1954.  

وجاءت اتفاقية لاهاي رد فعل على الدمار الذي سببته الحرب العالمية الثانية لمواقع التراث الإنساني، وخربت الحرب العديد من الكنوز الثقافية على يد قوات الحلفاء والمحور. وعبرت الاتفاقية عن رغبة المجتمع الدولي في تجنيب التراث الثقافي العالمي ويلات الحرب، والاعتراف بأن فقدان هذا التراث يمثل خسارة للبلد المستهدف وكذلك للإنسانية.

لكن ذلك لا يعني أن الجيوش والجماعات العسكرية توقفت عن استهداف التراث الإنساني. ففي الآونة الأخيرة، شهد العالم تدميرا وحشيا ونهب التراث التاريخي في سوريا ويوغسلافيا السابقة شرق أوروبا وفي أفغانستان والعراق وكمبوديا ومالي والعديد من البلدان الغنية بالآثار التاريخية.

وجرى في عقود ما بعد الحرب العالمية إحراق مبنى مجلس المدينة القديم في سراييفو عاصمة البوسنة -الذي يمثل ذروة معمار العهد النمساوي الهنغاري للبوسنة المستوحى من العمارة الإسلامية- بالقنابل خلال العدوان والقصف الصربي على سراييفو بين عامي 1992 و1995. وجرى كذلك تدمير تماثيل بوذا باميان بأفغانستان عام 2001، وتعرض مسجد جنجويبر في تمبكتو في مالي لأضرار، وشهد جامع حلب الكبير (الأموي بحلب) ومعبد بعل في تدمر بسوريا دمارا كبيرا السنوات الأخيرة.

وأبرزت هذه الحالات وغيرها كيف يمكن أن يصبح تدمير التراث الثقافي مجرد إحدى أدوات الحرب لاستهداف ذكريات وتاريخ وهوية شعب ما. وفي الواقع، غالبا ما يتم استخدام التدمير المتعمد للتراث الثقافي لهذا الغرض تماما، أي مسح آثار الماضي وتغييبه لشعب ما بحيث يمكن كتابة تاريخ جديد.

الجيوش ومواقع الثقافة
وفي تقرير نشره موقع "ذي كونفرزيشن" الأميركي، قال الكاتب بيتر ستون إن ترامب تراجع عن قراره بعد أن أخبره مستشاروه أن هذا غير قانوني. 

وفي الواقع، سبق وأن تضررت المباني والمواقع التاريخية ودُمّرت أثناء الحروب ونُهبت القطع الأثرية التاريخية، وبالإضافة إلى ذلك كانت مستحقات الجيوش تُدفع أحيانا عبر السماح لها بالنهب وسلب "الغنائم" بعد الفوز في أية معركة. 

وأضاف الكاتب أن هناك العديد من الأسباب الثقافية والحضارية لمحاولة حماية التراث أثناء النزاعات المسلحة، ورغم أن هذه الأسباب لا صلة لها بالجيوش العسكرية فـ "نحتاج أن ندرك أن حماية الممتلكات الثقافية لن تكون فعالة إلا إذا تعاملت القوات العسكرية وقادتها من السياسيين مع هذه المسألة بشكل جدي".

ومع ذلك -أفاد الكاتب- بأن فكرة حماية الممتلكات الثقافية ذات تاريخ عريق بالقانون العسكري، ووُضع قانون الانضباط الأقدم للجيش الإنجليزي (تقرير درهام 1385) عند غزو ريتشارد الثاني أسكتلندا. وشمل هذا التقرير مادة تنصّ على تجنب تدمير المباني الدينية أو الثقافية الأخرى. 

في الآونة الأخيرة، اعتبرت الولايات المتحدة أول دولة تجعل حماية الممتلكات الثقافية جزءا من سياستها العسكرية من خلال "قانون ليبر" لعام 1863 الذي كتب دليلا مخصصا للقوات الفيدرالية خلال الحرب الأهلية آنذاك، وفي حديث نبوي شريف أمر النبي محمد عليه السلام المقاتلين بتجنب الغيلة والغدر وقال "اغزوا ولا ‏تغلوا، ‏ولا ‏تغدروا، ‏‏ولا ‏تمثلوا".

وأُدين القادة العسكريون وسُجنوا لمهاجمتهم التراث الثقافي عمدا بموجب المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة. وعام 2016، حُكم على أحمد الفقي المهدي، عضو "حركة أنصار الدين" في مالي بالسجن تسعة أعوام وفرضت عليه تلك المحكمة غرامة ضخمة بتهمة التدمير العمد للتراث الثقافي الخاص بمدينة تمبكتو التاريخية.

حماية أم تهديد؟
فسّر الكاتب أنه منذ أن ألّف سون تزو كتاب "فن الحرب" في الصين بالقرن السادس قبل الميلاد، جادل بعض الكتّاب العسكريين بأن تدمير التراث الثقافي للعدوّ يُعدّ ممارسة عسكرية سيئة، إذ إنه يخلق سببا آخر لاندلاع حرب أخرى وغالبا ما يُصعب على الشعب المهزوم تسيير أمور بلاده. 

واعتبر أنه لا يمكن أن نتوقّع من الجيوش توفير حماية جيدة للممتلكات الثقافية من تلقاء نفسها، إذ من المهم أن يطور العاملون في الثقافة وحماية التراث شراكة وثيقة مع القوات المسلحة بشأن حماية الممتلكات الثقافية، ولا يعني هذا أن خبراء التراث بحاجة إلى دعم أي طرف معين في أي صراع، لكن ينبغي أن يكونوا على استعداد للعمل مع جميع الأطراف.

وينبغي تطوير هذه الشراكة بمرور الوقت. في هذا السياق، حددت منظمة "الدرع الأزرق" الدولية عوامل تؤكد ضرورة بناء هذه الشراكة، وتتعلق بالتعليم طويل الأجل والمستمر، أثناء الصراع وبعده. 

وأوضح الكاتب أنه في كثير من الأحيان، وبعد انتهاء القتال، يكون الجيش هو المنظمة الوحيدة التي تملك موارد لحماية التراث الثقافي. ويمكن أن يتراوح ذلك بين الدعم الهندسي وحماية المباني وتوفير القوات لحماية المواقع أو المتاحف من النهب. ونظرًا لأن المزيد من الدول بصدد تطوير قدرات عسكرية فيما يتعلق بحماية الممتلكات الثقافية، فمن المرجح أن تبدأ هذه الوحدات في تولي مهمة حماية التراث أثناء النزاع وبعده. 

مخاطر
ذكر الكاتب أن التراث الثقافي ليس مهددا للتعرض لأضرار جانبية فحسب، بل لمجموعة من الأعمال المتعمدة الأخرى. وحددت منظمة الدرع الأزرق ثمانية مخاطر على التراث الثقافي، والتي وفي حال جرت معالجتها يمكن أن تخفف من وطأة التهديد بحق المواقع التراثية بشكل كبير. 

وتتمثل هذه المخاطر في الافتقار إلى التخطيط، ونقص الوعي العسكري، والأضرار العرضية، ناهيك عن الاستهداف العمد، والنهب، وإعادة الاستخدام المتعمد للمواقع، والإهمال القسري وغياب التنمية.

وأشار الكاتب -الذي يعمل أيضاً نائب رئيس المنظمة العضو باليونسكو- إلى أن التراث الثقافي هو ما يجعلنا بشرا حيث يساهم في تنامي شعورنا بالانتماء. 

وفي بعض الأحيان، يُستخدم هذا التراث سلاحا لإبراز الاختلافات، كما هو الحال عند استهداف مجموعة من الأقليات الدينية ومبانيها. وتبعا لذلك، ينبغي استخدام التراث الثقافي في شرح واستكشاف تاريخ البشرية المشترك، غير أنه لا يمكننا القيام بذلك إذا دُمّر أثناء الحروب.

المصدر : الجزيرة