الحرق الثقافي لحماية أستراليا.. معارف السكان الأصليين لإنقاذ الغابات من النيران

epa08103581 A firefighter works to contain a small bushfire, which closed the Princes Highway, near Ulladulla, Australia, 05 January 2020. According to media reports, at least 1,200 homes in Victoria and New South Wales have been destroyed by fires...
الحرائق في أستراليا أثرت على حياة السكان الأصليين بالقارة وعلى أراضيهم (الأوروبية)

تتعرض غابات القارة الأسترالية لحرائق هائلة منذ سبتمبر/أيلول 2019، تسببت بحرق ما يزيد على عشرة ملايين فدان من الأراضي، وهي مساحة أكبر من عدة بلدان صغيرة. وأدت لمقتل العشرات، إضافة لقرابة مليار حيوان نافق أو مصاب.

وبالإضافة لذلك، أثرت الحرائق التي تسبب بها جزئيا التغير المناخي وظاهرة الاحتباس الحراري على السكان الأصليين وأراضيهم. ومطلع يناير/كانون الثاني الجاري تم تدمير مجتمع السكان الأصليين بمنطقة موغو بولاية نيو ساوث ويلز، وكذلك دمرت مناطق محمية خاصة بالسكان الأصليين في مناطق مختلفة من القارة.

وتاريخيا، كانت حرائق الغابات في أستراليا أقل شيوعا مما هي عليه اليوم، ونظرا لارتفاع درجات الحرارة بشكل كبير خلال القرن الماضي، زادت مواسم الجفاف الشديدة والحرائق التي لا يمكن التنبؤ بها في القارة الجزيرة. لكن الآثار المستمرة للاستعمار -بما في ذلك الإدارة السيئة للأراضي- هي أيضا جزء أساسي من المشكلة. 

نفوق قرابة مليار حيوان من فصائل مختلفة (رويترز)
نفوق قرابة مليار حيوان من فصائل مختلفة (رويترز)

حلول السكان الأصليين
لعشرات الآلاف من السنين، أدار السكان الأصليون العلاقة مع الحرائق عبر تقنية "الحرائق المسيطر عليها" وهي لا تزال ناجعة في تشكيل المساحات الخضراء. 

وفي منطقة أرنهيم الوسطى في شمال القارة على سبيل المثال، وجدت دراسة أن حيوان الكنغر كان أكثر وفرة في المناطق التي أحرقها السكان الأصليون، لأن العشب في المناطق المحروقة كان غنيا بالنيتروجين أكثر من العشب بالمناطق غير المحروقة، بحسب أباكي بيك الناشطة والباحثة في مجال الصحة العامة وعلوم السكان الأصليين.

ويستخدم مصطلح "الحرق الثقافي" لوصف الممارسات التي طورها السكان الأصليون لتعزيز عافية الأرض وسكانها، عبر حرق أو منع حرق مناطق بعينها تحتوي على نباتات جافة، وتدور الفكرة حول إشعال حرائق صغيرة متحكم بها لمنع الحرائق الكبيرة التي تخرج عن السيطرة، كما أن الحرائق الصغيرة تستهلك "وقود الحرائق الكبيرة" أولاً بأول، وتساعد السكان المحليين الرحل على الصيد، وترتبط الممارسة بتقاليد ثقافية وتجمع السكان للمشاركة والتعلم والاحتفال. 

وانقطعت هذه العلاقة الحميمة مع الأرض بحلول حقبة الاستعمار، وعندما وصل المستعمرون لأول مرة إلى أستراليا لاحظوا استخدام الشعوب الأصلية للنار.

عام 1889، كتب المستكشف البريطاني إرنست جايلز "كان السكان الأصليون مشغولين بالحرق، والإحراق الدائم، حتى أن المرء قد يظن أنهم عاشوا على النار بدلا من الماء".

ولكن معارف السكان الأصليين وتقنياتهم بما فيها "الحرق الثقافي" جرى تجاهلها وأجبر السكان الأصليون على النزوح والدمج القسري، وحظر لغاتهم الخاصة، بحسب مقال بيك لمجلة ييس غير الهادفة للربح.

وحتى عام 1992، كان للسكان الأصليين حقوق محدودة للغاية في أراضيهم، وتبنت السلطات فكرة أن الأرض كانت غير مملوكة لأحد قبل الاستعمار، ولم يتم الاعتراف قانونا بحقوق السكان الأصليين على أراضيهم.

ولكن بفضل عقود من النشاط والدعاوى القضائية، يسيطر السكان الأصليون الأستراليون اليوم على 6.1 ملايين هكتار من الأراضي، وركزت حركة استصلاح الأراضي جزئيا على تفعيل تقنيات إدارة الحرائق التقليدية.

علاقة بالأرض
وتتضمن التقنيات القديمة علاقة حميمة بالأرض، إذ تمثل فهما محليا لاحتياجات البيئة ذلك الوقت، والتخلص الاستباقي من الوقود القابل للاشتعال مع تجنب حرق الأخشاب أو الأشجار التي تعيش فيها الحيوانات والحشرات، وكذا حماية البذور والمواد المغذية للتربة. 

ورغم محاولة الحكومات الاستفادة من الفكرة القديمة بطرق حديثة عبر إسقاط مواد الاشتعال من الطائرات، لكنها لم تنجح خاصة في أوقات الجفاف الشديد، وخلصت دراسة أجريت عام 2015 في ثلاثين منطقة بيولوجية إلى أن الحرق المتحكم فيه على الطريقة الغربية كان له تأثير ضئيل للغاية، وبالإضافة لذلك تعد إمكانية السيطرة عليه أصعب. 

ويبدو تغير المناخ عاملا رئيسيا في الحرائق شديدة الحرارة، إذ أصبحت أستراليا أكثر حرارة وجفافًا مما كانت عليه في السابق، لكن تاريخ الاستعمار وقمع إدارة أراضي السكان الأصليين -وإدارة الأراضي على النمط الغربي- لعبت دورا أيضا.

حزن واستعمار
وتسكن حالةُ حزن دائم الشعوبَ الأصلية -التي كانت تتحدث أكثر من 250 لغة انقرضت معظمها ولم يبق سوى 13 لغة مستخدمة منها فقط- وينبع ذلك من مسألة الغزو والاستعمار اللاحق لأراضيها.

ويشكل السكان الأصليون 3% من السكان، ولكن لديهم معرفة عميقة متوارثة بالأرض التي عاش فيها أجدادهم آلاف السنين قبل وصول الأوروبيين للقارة الأسترالية. وتعود أقدم آثار بشرية معروفة في تلك القارة قرابة خمسين ألف سنة مضت.

ولا تزال الموروثات الاستعمارية المتمثلة في الاستئصال والتجريد من الممتلكات والعنصرية تؤثر في الواقع المعيشي للشعوب الأصلية، يضاف إلى ذلك الاستبعاد الواسع النطاق لشعوب السكان الأصليين من الوصول إلى أوطانهم التقليدية وإدارتها. هذه العوامل تضاعف من صدمة هذه الحرائق غير المسبوقة عليهم.

ورغم تغير القوانين الأسترالية لاستيعاب معاناة الشعوب الأصلية جزئيا، يبذل هؤلاء قصارى جهدهم للدعوة إلى إدارة أكثر فعالية للبلد. ولكن على الرغم من هذا، فإن غالبيتهم خضعوا للتهميش، وراقبوا التغيير الذي حدث بمزيج من التجاهل وعدم التدخل نظرا لما اعتبروه إساءة إدارة وإهمال الطبيعة والأرض. 

وتقول الناشطة بيك إن الاستعمار البريطاني ليس مجرد تاريخ ماضي فحسب، ولكنه تجربة حية بالنظر لواقع التغير المناخي الذي لا يؤثر فقط على الأرض وإنما على الهوية الثقافية للشعوب الأصلية التي تنبع من الأرض.

المصدر : الجزيرة