من جحيم الوطن إلى جنة المنفى.. كتاب سوريون يواصلون الإبداع في ألمانيا

كتاب سوريين في المنفى -وداد نبي رباب حيدر - محمد المطرود.
موجة اللجوء شملت عددا من الكتاب السوريين بينهم رباب حيدر (يمين) ووداد نبي ومحمد المطرود (الجزيرة)

عارف حمزة-ألمانيا

كانت ألمانيا إحدى الوجهات التي سعى اللاجئون السوريّون للذهاب إليها، متخفّفين من كل شيء تقريبا، إلا من كيس بلاستيكي ربطه أولئك الذين نجوا من البحر الأبيض المتوسّط أو "المقبرة البحرية" كما سموها، وكان ذلك الكيس يحتوي على بعض الوثائق التي ستُثبتُ هوية الناجين والغرقى والموتى.
 
كان العديد من الكُتّاب والمثقفين بين أولئك السورييّن الذين حاولوا النجاة من "الوطن" والهروب إلى "المنفى". والتحق الناجون من أولئك الكتّاب بمراكز اللاجئين، وهناك عاشوا مشاعرَ متناقضة ستكون زوّادتهم للكتابة، مهما طال زمن تخزينها في الذاكرة.

الوطن والمنفى
عن تجربته يقول القاص كنان خدّاج (29 عاما) "يوم قررتُ عبور البحر نحو أوروبا، اختصرتُ كل ما ملكتُ في حقيبة ظهرٍ صغيرة وبطاقة ذاكرة حفظت عليها كتاباتي.. أتذكرُ أنني كنتُ طوال الوقت أردد كالببغاء: وطني حقيبة وبطاقة ذاكرة. وحين بدأ القارب المطاطي بالغرق، كان علينا أن نرمي الحقائب.. تحسستُ جيبي وأنا أراقبُ البحر يبتلعُ كلّ تلك الأوطان، واطمأننتُ حين تلمّستُ بطاقة الذاكرة".

أما الشاعرة الكردية السورية وداد نبي فتقول عن تجربتها إنها واجهت صعوبات في اللغة والبدء مجددا "من الصفر الذي كنا قد تجاوزناهُ بمراحل حين كنا في بلدنا".

الانتماء والكتابة
وبسؤالها عن العلاقة بين الانتماء إلى مكانٍ ما والاستمرار في الكتابة؟ تقول وداد -التي أصدرت مجموعتين شعريتيّن قبل مجيئها إلى ألمانيا، وصدرت لها مجموعة بالألمانية هذا العام- إن الاستمرار في الكتابة تطلّبَ الكثير من الجهد. وتتابع "قدومي إلى برلين كان عن طريق المهربين وتجار البشر والشاحنات، في رحلة استمرت قرابة الشهر وانتهت في مخيمات اللجوء وطوابير الانتظار الطويلة.. حينها لم أفكر أبدا لا بالكتابة ولا بالقراءة، كنت أفكر فقط كيف أجتاز يومي لآخره بأقل رغبة في الانتحار".

وبعد الاستقرار في المكان الجديد، بدأت وداد تستمدّ مادتها الخام في الكتابة من محطات القطار وأجوائها، وتقول "في هذا المكان الجديد أصبحت لغتي لغة قريبة إلى الشارع، إلى الحياة بكل تفاصيلها الصغيرة بدءًا من قطع تذكرة القطار إلى أول متشرد يطلب مني معونة، إلى العازفين المتجولين في المحطات والشوارع، إلى رائحة البول المختلطة بالعرق لبشر نائمين على الأرصفة دون أن يكترثوا بنظرات المارة وتلصّصهم على حيواتهم وأجسادهم المرمية كشيء زائد عن الحياة".

ويتدخل كنّان خداج الذي أصدر مجموعته القصصية الأولى "لستُ لعبتكم اللعينة" وهو في ألمانيا، ليشرح موقفه من المنفى، معتبرًا أنه من الصعب أن يتحدث عن المنفى دون أن يسقط في فخّ التناقض.

ويضيف خداج للجزيرة نت أن "مفهوميْ المنفى والوطن يكبران ويتغيّران في داخلي مع السنين.. لم أعد أملكُ تلك الثقة لأقول هذا هو الوطن وهذا هو المنفى.. الكثير من الأشياء التي تجعل من الوطن وطنا -على الصعيد الشخصي- لم تعد موجودة، والكثير من الأشياء التي تجعل من الوطن منفى ما زالت موجودة".

لاجئون سوريون في مظاهرة عن معوقات اندماجهم في المجتمع الألماني (الجزيرة-أرشيف)
لاجئون سوريون في مظاهرة عن معوقات اندماجهم في المجتمع الألماني (الجزيرة-أرشيف)

 

هاينريش بول ونادي القلم
في المقابل وصل كتّاب سوريون كثيرون عن طريق المنح المقدّمة من مؤسسة الكاتب الألماني هاينريش بول (1917 – 1985) حامل جائزة نوبل للآداب لعام 1978، وكذلك من نادي القلم الألماني.

ويقول الشاعر والناقد محمد المطرود (49 عاما) الذي أصدر أربعة كتب قبل اللجوء إلى ألمانيا بمنحة هاينريش، وأربعة أخرى -بين شعر وسرد- وهو بالمنفى "في مساء اليوم الأول قالت لي كاتبة سورية سبقتني إلى بيت الأديب الألماني: انظر إنها الجنة.. غير أني شعرتُ بوجودي على الصراط المستقيم وأني أقربُ إلى الجحيم مني إلى الجنةِ، ذلك أني دخلتُ الحياة الجديدة بأصواتٍ مرتفعة في داخلي: صوت اليقين بحتمية التغيير في بلدي، وصوت الموت في أماكن كثيرة، ولم أكتب لثمانية أشهر أو أكثر".
ولكن المطرود تابع الكتابة رغم دويّ الأسئلة في داخله، وكتب بعد ذلك "ماينوس بين السرد والشعر"، ويعلق على هذه التجربة قائلا "رأيتُ أنّ القصيدة تضيق بي، ورحلتي تحتاجُ مساحاتٍ من الانفلات، فلم أنضبط في جنس كتابتي، وأسميتُ كتابي: اسمُه أحمد وظلُّه النار".

وعن هذا الكتاب يقول إنه "أشبَهُ بقصة تتحدث عن العبور، العبور في النصوص الأخرى، وعبوري الشخصي إلى تاريخي الشخصي، وكان هذا مدعاة لراحةٍ مؤقتةٍ وزائفةٍ، إذ تكالبت التحديّات، فإمّا أكون موجودا في الأقلّ الممكن أو أنتهي إلى ربّ أسرة يتفرّج على التلفزيون ويفصفصُ بذور عبّاد الشمس".

ما يثير الانتباه أنّ أكثر مَن جاؤوا أصدر كتابا جديدا على الأقل باللغة العربيّة، ومنهم مَن شارك في أنطولوجيّات مشتركة، وهناك من صدر له كتاب مُترجم إلى الألمانيّة وحصل على منح وجوائز. وبعضهم ظل مرتبطا بفعاليّات تخصّ المؤسسة أو نادي القلم، وكذلك مع مؤسسات أخرى، ومنهم مَن ترأس تحرير أوّل صحيفة عربيّة تصدر بألمانيا، ومن صار صلة وصل بين الكتّاب العرب والمهرجانات التي تُقام في ألمانيا، ومنهم مَن أسّس "حالة" التي تنظّم أمسيات لكتّاب سوريين وعرب مُقيمين في الأراضي الألمانية.

‪
‪"الحرب فوق الجدار" معرض أقيم قبل عدة سنوات فوق أطلال سور برلين ورصد معاناة السوريين في سنوات ثورتهم ضد الأسد‬ (الجزيرة-أرشيف)

تحولات الكتابة
الروائيّة والمترجمة رباب حيدر وصلت بدعوة من مؤسسة هاينريش بول أيضا، وكانت قد نشرت روايتها الأولى في سوريا بعنوان "أرض الرمان"، ثمّ أنهت روايتها الثانية في سوريا لكنها رمتها عندما وصلت إلى ألمانيا، لأن السؤال الذي تطرحه الرواية تغيّر. وهكذا تقول "بدأت أكتب من جديد، وكلما تعمقت بـ الهُنا ظهر بوضوح أنه لا يختلف عن الهُناك إلا في القليل: ببعض القانون هنا وفقدان الأمل هناك، بينما البشر هم أنفسهم هنا وهناك".

ما يثير الانتباه أيضا أنّ كتّاب الموجة الجديدة ما زالوا يكتبون باللغة العربيّة، ربّما لحداثة التجربة، وعن ذلك تقول رباب حيدر "حين بدأت تعلم اللغة الألمانية، بتُّ أكثر اهتماما باللغة العربية، وكلما تورطت أكثر في اللغة الجديدة أوليتُ مفردات العربية اهتماما أكبر.. باتت الكلمة بلغتي الأم أكثر عمقاً، محمّلة بمعناها وتاريخها واستخدامها وأشياء عاطفية من الذاكرة كالحنين! لم يُطبق عليّ الحنين بعد، وهذا أكثر ما أخشاه".

ويقول المطرود إن "روح الندّية لم تتركني ألهثُ خلف قارئ مختلف عرقيا أو مكانيا، بقدر ما صرتُ أحرصُ على قارئي بلغتي، مع حرصي وأمنياتي بتوفر مترجمٍ ينطلق من محبتهِ للمغاير وليسَ من وظيفتهِ وتفكيرهِ بالأجر، وهنا أشتغلُ بكلّ ما يتوفر لي على ما أحسبه جديدًا".

المصدر : الجزيرة