القرامطة والوباء وقُطّاع الطرق.. مواسم توقُّف الحج لبيت الله العتيق

Grand Mosque in Mecca, vintage engraved illustration. Trousset encyclopedia (1886 - 1891).
الكعبة والمسجد الحرام (1886 - 1891) (شترستوك)

على مدى قرون طويلة منذ فرض الحج على المسلمين العام التاسع الهجري، تتوافد سنوياً جموع غفيرة من حجاج بيت الله الحرام من شتى أنحاء العالم لأداء الفريضة الخامسة في مكة المكرمة.

لكن منذ فجر الإسلام شهد العالم الإسلامي ظروفاً صعبة حرم فيها المسلمون من الذهاب للحج خوفاً من مشاق الطريق في مواسم معينة أو أثناء سيطرة القرامطة على البيت العتيق الذين عطلوا تلك الفريضة عدة سنوات.

ورغم أن الحج فرض على كلّ مسلم بالغ عاقل قادر عل أدائه، فإنه لم يتحقق في بعض المواسم بسبب فقدان الأمن أو خوف الأوبئة والأمراض، أو صعوبة الطريق والغلاء الشديد، وفي بعض هذه الحالات غابت وفود أقطار العالم الإسلامي عن شهود المناسك وكان الحجاج قليلين للغاية.

قُطّاع الطرق
عام 1757 أغار قطّاع الطرق من بدو قبائل شمال غرب الجزيرة العربية على قافلة الحج الشامي التي تتكون من المسلمين القادمين من أوروبا وإسطنبول والأناضول والأعاجم القادمين من بلاد فارس والرافدين وكذلك مسلمي حلب والشام، وقتلوا الآلاف من حجاج القافلة بالقرب من تبوك.

وكانت القبائل البدوية في شمال الحجاز تتلقى مبلغا سنويا من المال من أمراء الحج بأمر الدولة العثمانية، ويدفع لتأمين القافلة في رحلتي الذهاب والعودة. لكن بعض الأمراء كانوا يرفضون تسليم الصرة طمعاً في المال فتتعرض القافلة لهجمات المغيرين وقطاع الطرق، وتنجح بعضها في نهب الحجاج وتفشل أخرى وتهزم على يد حامية القافلة.

وبينما تحركت قافلة الحجاج في طريق العودة عبر "الطريق السلطاني" تعرضت لهجوم من قبائل بدوية وحوصرت في تبوك أكثر من ثلاثة أسابيع، قبل أن يتم مهاجمة القافلة الشامية ويُقتل معظم العساكر والحجاج من الرجال والنساء.

صورة للكعبة عام 1890 (غيتي)
صورة للكعبة عام 1890 (غيتي)

القرامطة
بداية القرن العاشر الميلادي أغار قرامطة شرق الجزيرة العربية من أتباع حمدان القرمطي -الذي تنسب له هذه الطائفة الباطنية- على مكة المكرمة موسم الحج لسنوات، وصدرت فتاوى من علماء مسلمين لحث المسلمين على تعطيل الحج حماية للأرواح، وبالفعل ألغى حجاج الشام والعراق قوافلهم إلى مكة.

وكان القرامطة عام 317هـ/908م قد هجموا على موسم الحج وقتلوا الكثير من الحجاج وخلعوا باب الكعبة وسلبوا كسوتها واقتلعوا الحجر الأسود من مكانه، وحملوه معهم إلى شرق الجزيرة العربية ليبقى في حوزتهم قرابة عشرين سنة.

ووصف ابن كثير في الجزء 11 من كتابه "البداية والنهاية" تلك الأحداث، ونقل أن أبو طاهر الجنابي القرمطي زعيم القرامطة وملك البحرين أمر بأن يقلع الحجر الأسود فضربه أحد رجاله بمثقل في يده مستهزئاً بالحجاج والمسلمين قائلا "أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل" وعاد به القرمطي لبلاده ورجاه أمير مكة أن يعيده فلم يستجب له وقتله وأهله وقفل عائداً مع الحجر وأموال الحجاج.

وأدت النزاعات الداخلية بين القرامطة إلى إضعاف دولتهم، وتخلت عنهم القبائل التي تحالفت معهم نكاية بالعباسيين، وهزموا في حربهم مع العيونيين الذين أخرجوهم من شرق الجزيرة العربية بدعم من الخليفة العباسي والسلطان السلجوقي، فانتهت حقبتهم بعد قرابة قرن ونصف القرن من الاضطرابات الدموية بالجزيرة العربية.

تفشي الطاعون

في عام 1814، مات نحو ثمانية آلاف شخص جراء تفشي الطاعون في بلاد الحجاز، ما أدى إلى توقف الحج في سنة الطاعون.

كما تفشّت الأوبئة سنة 1837 خلال فترة الحج، واستمرت حتى 1892، وشهدت تلك الفترة موت ألف حاج يوميًا، بحسب وكالة الأناضول.

بدأ أول وباء كوليرا في القرن التاسع عشر الميلادي في الفترة بين عامي (1817-1824م) وعرف باسم "كوليرا آسيوية" واندلع من مدينة كلكتا الهندية لينتشر في جميع أنحاء جنوب شرق آسيا إلى الشرق الأوسط وشرق أفريقيا وساحل البحر المتوسط.

وفي حين أن الكوليرا انتشرت في الهند عدة مرات من قبل، إلا أن تفشي المرض في تلك الحقبة ذهب أبعد من ذلك ليصل إلى الصين والبحر الأبيض المتوسط ​​قبل أن ينحسر، بعد أن خلف مئات الآلاف من الموتى بما في ذلك العديد من الجنود البريطانيين.

وفي هذه الفترة مات آلاف من الحجاج بالوباء، الذي انتقلت عدواه من بؤرته الأساسية في شرق وجنوب آسيا، إلى طرق الحج ومكة، وفي عام 1831م الموافق 1246هـ تفشى الوباء الآتي من الهند مجددا ليحصد أرواح العديد من الحجاج.

وشهدت مواسم الحج حتى عام 1840 مواسم متقطعة لتفشي الوباء، وكذلك في الفترة من عام 1846 إلى عام 1850م.

وضمن ما سمي "وباء الكوليرا الرابع" بالقرن التاسع عشر تفشى الوباء من جديد وفي السنة الأولى له 1863م التي توافق 1280هـ ذهب عشرات الآلاف ضحية الوباء الذي اجتاح الحجاز وأنحاء الشرق الأوسط، وانتقل لروسيا وأوروبا وأفريقيا ليحصد مزيدا من الأرواح خاصة في زنجبار شرق أفريقيا، وبعد عدة سنوات فقط أصبحت بؤر الكوليرا شائعة في مدن أوروبا وروسيا وحتى أميركا الشمالية.

وفي الأعوام 1858 و1864 أسهمت مصر بأطباء وحجر صحي لمحاولة مكافحة العدوى المنتشرة، وفي عام 1892 تزامن تفشي الوباء مع موسم الحج ودفن العديد من الموتى في مكة.

Sultan's camel caravan departing from Istanbul to Mecca and Medina. Original, from drawing of Blanchard, after sketch of Milesi, published on L'Illustration, Journal Universel, Paris, 1860
قافلة حجاج في طريقها لمكة المكرمة رسم منشور في مجلة فرنسية من عام 1860 (شترستوك)

الظروف الطبيعية
تسببت الظروف الجوية مثل الفيضانات والكوارث الطبيعية في تعطل رحلات الحج من بعض البلدان، فقد أدى فيضان دجلة لتعطل قوافل الحج من بغداد في أحد مواسم القرن الخامس الهجري، بينما أدت أمراض الصحراء الأفريقية إلى تعطل قوافل الحج من غرب أفريقيا.

 كما تعطل الحج أحد المواسم منتصف القرن الرابع الهجري بسبب وباء أصاب جمال القوافل والحجاج، ومات كثيرون عطشا أو مرضا.

المصدر : الجزيرة