خلِّ نشيدَك عالي النبرة.. هكذا غنى السودانيون في ربيعهم

ارفع صوتَك هيبة وجبرة

خلِّي نشيدَك عالي النبرة

خلِّي جراح أولادَك تبرا

كِبروا مكان الضحكة العبرة

هكذا تكلم المغني السوداني محمد وردي في أغنيته التي عرفتها مظاهرات السودان الأخيرة التي بدت موسيقية للغاية، فعلى مدار أيام الاعتصام والتظاهر كان الغناء الشعبي والهتاف الملحن شائعاً بين المتظاهرين، واحتوت أغلب المقاطع التي جرى تصويرها على الإيقاع الموسيقي المألوف في السودان والمحمل بالمضمون السياسي.

ولا تبدو العلاقة بين الموسيقى والسياسة جديدة، فالسودانيون مسيسون بطبيعتهم ويميلون كذلك للموسيقى ويحفظون الأغاني والأشعار عن ظهر قلب، ولهذا امتلأ الاعتصام بالأشعار والأغاني الشعبية وحتى الهتاف والشعارات ذات الإيقاع الموسيقي.

وظل الغناء الثوري حاضرا منذ بدايات مقاومة المستعمر البريطاني، وكان محفزاً لثورة التغيير التي أطاحت بحكم العسكر بقيادة إبراهيم عبود منتصف ستينيات القرن الماضي، وكذلك انطلقت حناجر السودانيين بالهتاف والغناء مع خروجهم إلى الشارع في انتفاضة أبريل/نيسان 1985.

وطوال فترة الاعتصام والتظاهر كانت الأغاني الثورية تمتزج مع صيحات "تسقط بس" وكان لافتاً مشاركة الكثير من الفنانين السودانيين الذين كسروا حاجز الخوف، وكان منهم المطربة نانسي عجاج بأغنية "لو خوفنا راح" في بداية الاحتجاجات.

وقدم الفنان حسين الصادق أغنية ضمنها مقاطع من أنشودة "أي صوتٍ زار بالأمس خيالي" الشهيرة بالسودان، وقدم مكي علي إدريس أغاني وطنية بينها "تسقط بس" التي غناها أيضاً بكلمات نوبية الفنان علي دبشة، وأدى يسري صلاح الدين "أرح مارقة" من كلمات الشاعر مدني النخلي، وقدم ياسر وردي أناشيد حماسية أيضاً.

لكن الأعمال الفنية لم تقتصر على الفنانين المعروفين، فقد شهدت الساحة السودانية العديد من الأغاني الشعبية التي لم ترتبط بأسماء معروفة لكنها انتشرت بشكل كبير نتيجة كلماتها المعبرة وألحانها وإيقاعها السوداني المميز

وقدمت فتيات ما يعرف بأغنيات البنات الدلوكة، وكان أبرزها:

 حبيبي الهايس واقفة في صف جاز

لو لقيت ركشة جد إنجاز

تسقط بس حكومة الإنقاذ

يا حبيبي القصة ما قصة رغيف

القصة فساد وكلام سخيف

زمنكم فات يلا يا ثقيل

دحين بالجد نحنا شعب حصيف يا حبيبي

ويرى أستاذ الإعلام المساعد بالجامعة الأميركية بالكويت محمد ساتي أن أغاني السودان تقلل من الألم والمعاناة في الأوقات الصعبة، فما أظهرته ثورات 1964 و1985 و2019 أن "المصاعب السياسية والاقتصادية تدفع الناس لتحدي الحكومة، ويستخدم المتظاهرون الأغاني لأن لديها قوة موّحدة".

وأضاف ساتي للجزيرة نت "لا يوجد رابط بين الموسيقى والأيديولوجية السياسية، ويمكن أن يكون لبعض الأحزاب السياسية قصائد يلقونها أثناء تجمعاتهم، ولكن في الأغاني العامة ترتبط بالثقافة الشعبية".

وغالبًا ما تكون الشعارات والأغاني مصحوبة بضرب الطبول واستخدام القدمين وتأرجح الجسم وأحياناً تكون بأدوات موسيقية أخرى مثل الساكسفون أو الغيتار.

تلقائية ووطنية
لم تخرج الأغاني السودانية عن السمة المميزة لهذا الشعب، وهي التلقائية في التعبير عن الرأي بسرعة ومن دون حسابات.

وترجع جذور العديد من الأغاني لما يسمى "موسيقى الحقيبة" التي تحتفظ بتأثيرات غنائية صوفية وسمات المدائح النبوية المميزة لدى الجماعات الصوفية القديمة، وتستخدم فيها آلات الطبول والدفوف والطار والرق والعصى.

وبالطبع هناك التأثير الموسيقي النوبي والأفريقي القديم الذي استخدمت فيه أيضاً آلات إيقاعية، وعرف التصفيق والرقص وحتى المزامير والآلات الوترية المميزة مثل الطنبور والربابة.

وعرفت الموسيقى السودانية بالإيقاع واللحن والتوزيع الذي ميز طابعها الغنائي، ولم تكن الأناشيد السياسية استثناءً.

وغلبت اللهجة العربية السودانية على كلمات الشعر الغنائي السوداني خاصة لهجة الحضر، لكن اللهجات الأخرى بما فيها شمال السودان ودارفور بقيت حاضرة، وغنى الشاعر السوداني الضرير إدريس جمّاع وعبد الكريم الكابلي قصائد بالفصحى.

ورغم تنوع مضمون الغناء السوداني من الشوق والحب والحنين للوطن والأهل والغزل، فقد ظلت الأحداث السياسية مصدر إلهام المنشدين والمغنين السودانيين منذ الاستعمار الإنجليزي عام 1898م، وعرف السودان الغناء الوطني منذ وقت مبكر، وغني حسن خليفة العطبراوي لعمال السكة الحديد في عطبرة ليقوموا بمظاهرات ضد المستعمر بهدف تخفيف الضغط على المناضلين والسكان.

وبالنظر لتأثير الكلمة على مواقف السودانيين باختلاف مكوناتهم الثقافية والاجتماعية، فقد احتل الغناء مكانة مميزة منذ الاستعمار البريطاني، وأسهمت كلمات محمد وردي -الذي لقب بفنان أفريقيا الأول- في تطور الموسيقى السودانية التي لا تتجنب السياسة، وأدخل وردي الموسيقى النوبية والطنبور النوبي ومزج بغنائه اللغتين العربية والنوبية، يقول وردي:

ماكا هُويِّن سهل قيادَك

سيِّد نفسَك مين أسيادَك؟

ديل أولادَك

ديل أمجادَك

ونيلَك هيلَك جرى قِدامَك

تحت أقدامَك رجع صداك

وسجع نحاسَك

وإنتَ نسيج الفداء هندامَك

إنتَ نشيد الصبح كلامَك

وعِطر أنفاسَك..

وأصبحت "أكتوبر الأخضر" شعاراً للسودانيين خلال ثورة 1964 التي أطاحت بحكومة عسكرية وجلبت حكومة مدنية للبلاد التي خرجت لتوها من استعمار طويل، وتشير كلمة "أخضر" في العنوان إلى الزراعة وأهميتها بالنسبة لاقتصاد السودان بحسب الأكاديمي ساتي.

وحارب وردي من أجل أفكاره التقدمية التي شملت العدالة الاجتماعية وإنهاء الاستعمار وإعادة توزيع الثروة والوحدة الأفريقية، وأودى به نشاطه إلى تجربة مريرة شملت الاعتقال والنفي، وبعد وفاته عام 2012 جرى نعيه في بلدان كثيرة تأثرت شعوبها بكلماته مثل إثيوبيا وإريتريا وجيبوتي.

وخلال الانتفاضة الأخيرة وجدت كلمات "آخر ملوك النوبة" طريقها للمظاهرات الشبابية، وبشكل خاص أغنيته الشهيرة "يا شعباً لهبك ثوريتك" التي يقول فيها:

على أجنحة الفجر ترفرف

فوق أعلامك

ومن بينات أكمامَك تطلع شمس أعراسَك

يا شعباً لهبَك ثوريتَك

تلقى مُرادَك والفي نيتَك

وعُمق إحساسَك بحريتَك

يبقى ملامِح في ذُريتَك..

المصدر : الجزيرة