مليكة العاصمي.. صوت شعري مغربي متفرد بصيغة الجمع

عبد الغني بلوط - عبد الغني بلوط/ الفنان لحسن الفرساوي بقدم لوحته للشاعرة المغربية مليكة العاصمي خلال امسية الاحتفاء بها/المغرب/ مراكش/ دار الثقافة - العاصمي..صوت شعري مغربي متفرد بصيغة الجمع
الفنان لحسن الفرساوي يقدم لوحته للشاعرة المغربية مليكة العاصمي خلال أمسية الاحتفاء بها في مدينة مراكش (الجزيرة)

عبد الغني بلوط-مراكش

يعلو محيا الشاعرة المغربية مليكة العاصمي حبور جلي وهي تنصت إلى قصيدة تحمل اسمها، مع نغمات جميلة ومؤنسة لموسيقى الملحون، في حين ترمق نظرات الجمهور مسار لوحة فنية تتشكل على المباشر.

تتابع أيضا كلمات الاعتراف بمنجزها الشعري ونضالها الثقافي والحقوقي، والابتسامة لا تفارقها طوال أمسية الاحتفاء بها بحضور محبيها الذين غصت بهم قاعة دار الثقافة الداوديات بمدينة مراكش.

تقول العاصمي للجزيرة نت وهي تسترجع معاني قصيدة "للا مالكة" إن "كلماتها شكلت دهشتي الأولى في هذه الأمسية الجميلة، والتي استطاعت أن تخلق ذلك التناغم الرائع بين الشعر والموسيقى والرسم".

وتضيف الشاعرة المرهفة الإحساس "الشعر هو إبداع مرن يبقي الذاكرة حية متيقظة، وخيط رفيع ينقل الإحساس الجميل بين الأجيال بكل يسر".

‪بنعيسى بوحمالة: لا مسافة بين العاصمي وقصيدتها وبين قولها وسلوكها‬ (الجزيرة)
‪بنعيسى بوحمالة: لا مسافة بين العاصمي وقصيدتها وبين قولها وسلوكها‬ (الجزيرة)

احتفاء
تجدد لقاء دار الشعر بمراكش مع جمهورها أمس الخميس في حلقة جديدة من فقرة "تجارب شعرية" من خلال الاحتفاء بإحدى رائدات الشعر الحديث، والموسومة بأيقونة القصيدة المغربية والعربية.

ويبرز الشاعر والناقد المغربي عبد الحق ميفراني مدير الدار أن العاصمي صوت شعري متفرد لكنه بصيغة الجمع، معتبرا في حديث للجزيرة نت أن النظر إلى منجزها الشعري لا يستقيم بمعزل عن عطاءاتها الفكرية والثقافية والإعلامية والسياسية، ونضالها في ترسيخ الثقافة المغربية.

في تلك الأمسية اعتلت العاصمي منصة الشعر والرهبة تتملكها من جديد، وبصوت شجي يميزها ولا تخطئه أذن شعرية سافرت بسامعيها في قصيدة أولى إلى عوالم متنوعة، وغمرتهم بالدهشة في لحظات مفعمة بتقاسم الجمال المشترك.

"تلك الرهبة من رد فعل الجمهور هي التي تمنحني القوة لكي أسافر مع القصيدة مطلقة عنان كلماتي، مانحة لها فرصة أن تخرج من القلب وتنفذ إلى القلب"، تتابع العاصمي حديثها للجزيرة نت وهي تكشف بعض أسرارها في عالم الشعر.

لقد اختارت العاصمي التي ولدت بمراكش سنة 1946 طريق الكلمة والإبداع، لا لشيء إلا لكي تمارس ذلك التقاسم الجميل لمتعة الإبداع، يقول أحد رواد النقد الشعري بالمغرب (دراسة وترجمة) بنعيسى بوحمالة في تصريح للجزيرة نت، ويعتبر أن الجميل في كل شاعر أن ينقل محبيه إلى عالم آخر يكشف لهم آخر ما وصل إليه من تخيلات وصور وكشوفات.

تميز
متعة جمال الشعر في تلك الأمسية أصابت كل الحاضرين وهم يشعرون، كما الناقد المغربي محمد زهير، بأن القصيدة كتبت لهم ولزمنهم، فيقول "إن مثل العاصمي من يجعل الشعر قريبا من الناس، ويقاوم بشدة من يريده أن يموت في زمن الرتابة".

ويضيف للجزيرة نت أن شعر مليكة في هذه الأمسية أحدث أثره في النفوس، كما فعل قبل عقود مضت، وأكد أن هذا الأدب الراقي ما زال راسخا في ذوات الناس العميقة، وأنه لا يمكن أن ينفصل عن وجود الإنسان".

ويقول "خلال متابعتي الطويلة علمت أن تجربة العاصمي لم ولن تتوقف عند محطة معينة، ولن تتجمد في دائرة محدودة"، معتبرا أن شاعرية هذه المراكشية المغربية العربية الأصيلة سايرت نداءات الزمان، ورافقت التطور في المشاعر والعواطف الإنسانية".

‪محمد زهير: مثل العاصمي من يجعل الشعر قريبا من الناس‬ (الجزيرة)
‪محمد زهير: مثل العاصمي من يجعل الشعر قريبا من الناس‬ (الجزيرة)

النقلات الضرورية
في قصيدة أخرى ألقتها العاصمي في تلك الأمسية تنفس الحضور هواء الحرية الرمزية، صدحت بكلمات غير معتادة، مزجت بين الخيال والمشاعر العميقة، ومنحت الجميع فرصة ليلتقي الإبداع مع محبيه، وينصت الناس بدقة وإمعان إلى صوت الشعر، يحرك شيئا عميقا في ذواتهم.

"فالعاصمي تمارس النقلات الضرورية في كل إبداع، فهي تسحب المتلقي، وبتجدد مستمر، من فضاء إلى آخر، ومن أفق إلى غيره، متسلحة بـ"قلب ربيعي مفتوح" في مواجهة الخرف والخريف"، على حد تعبير زهير القاص والأكاديمي.

"هو نفس الإحساس الذي تنقل بين الحضور، كأنه موجه عاتية من وجدان الروح وصلني بدون وسيط"، تقول الناقدة المغربية زهور كرام في حديثها للجزيرة نت.

وتبين أن إغراء السياسة في حياة العاصمي -وهي التي تقلدت مناصب عليا في حزب الاستقلال- لم يستطع أن يبعد الشعر عنها وعن كينونتها الجمالية.

وتضيف كرام "ليس كل الأصوات تحيي فينا البدايات، وليست كل التجارب قادرة على تحصين ذاكرة الآخرين، فقط الأصوات المبدعة كما العاصمي، تستطيع بناء الزمن المشترك".

وتشيد كرام بتنوع مناهل العاصمي، وتعتبره المدخل القوي لتميزها منذ أول منجزها الشعري "كتابات خارج الأسوار".

‪زهور كرام: إغراء السياسة لم يبعد الشعر عن العاصمي وعن كينونتها الجمالية‬ (الجزيرة)
‪زهور كرام: إغراء السياسة لم يبعد الشعر عن العاصمي وعن كينونتها الجمالية‬ (الجزيرة)

قيم نبيلة
ويشير بوحمالة إلى أن الشاعر لا يكون الشاعر شاعرا ما لم يجسد القيم النبيلة التي يدعو إليها، هكذا عرف العاصمي وهكذا تابع مسيرتها الشعرية، حتى أنها تذكره بالشاعر الفرنسي آرثر رامبو الذي لما كتب الشعر وانتهى منه في سن الـ21 من عمره، سافر إلى أفريقيا وتنحى عن المشهد العام، لكن سلوكه الراقي جعل الناس ينتبهون إلى أن ما يصدر عنه لا يمكن أن يكون إلا من مبدع يحمل في نفسه قيم رفيعة.

ويؤكد بوحمالة أنه "لا مسافة بين العاصمي وقصيدتها وبين قولها وسلوكها، فأنت حين تستمع إلى شعرها ينتابك الشعور بأنك تلتقيها وتدردش معها".

اكتملت لوحة الفنان التشكيلي لحسن الفرساوي في اللحظة التي انتهت كلمة آخر اعترف بجميلها على المنصة، دهشة ثانية وربما ثالثة ورابعة غمرت العاصمي وهي ترى جزءا من قصيدتها ترصع لوحة فنية تسافر بك عبر الزمن العابر للآفاق.

لم يستطع الفرساوي أن يخفي حياءه اللذيذ، كما عبر عن ذلك، وهو يقف أمام هامة كبيرة مبدعة، ويصف شعوره للجزيرة نت بالقوي الفياض، وبأنه كان حائرا في اختيار نص شعري لمليكة لقوة ما تجمع لديه من نصوص، لكنه تسلح بشجاعة الفرسان وأمدته الموسيقى المبهرة لفرقة هواة الملحون للفنان عبد الله الشليح كل الإلهام اللازم من أجل إتمام لوحته الفنية.

المصدر : الجزيرة