"أوروبا.. هل هي مسيحية؟".. صراع الدين والعلمانية في القارة العجوز

غلاف كتاب "هل لا تزال أوروبا مسيحية؟" للباحث الفرنسي أوليفييه روا- فرنسا

مصطفى فرحات

شهدت أوروبا منذ ستينيات القرن الماضي تحولات كبيرة قطعت بشكل كبير مع التاريخ المسيحي للقارة العجوز. وفي زمن انهيار الإرث المسيحي، برز الإسلام كقوة دينية ظنها بعض الأوروبيين تهديدا لما تبقى من هويتهم المسيحية، فدقوا ناقوس الخطر ودعوا إلى حماية هذا الإرث الذي أصبح اليوم بلا لون ولا طعم ولا رائحة.

مشكلات الهوية الأوروبية وجذورها المسيحية تمثل مادة دسمة لجدل لا ينتهي حول العلاقة بين السياسي والديني، والعلاقة بين الأديان أو الطوائف داخل الدين الواحد، وكيفية التعامل معها في قارة تقطع كل يوم خطوات جديدة نحو العلمانية التي تريد فرض قطيعة تامة مع التديّن وتصوراته حول الحياة والفكر والمجتمع.

وفي خضم هذا الجدل أصدر الباحث الفرنسي أوليفييه روا كتابا بعنوان "أوروبا.. هل هي مسيحية؟"، نشرته دار "سوي" الشهر الماضي في 204 صفحات.

ويعتبر روا أحد أبرز المتخصصين في الدراسات السياسية وما يتعلق منها بالإسلام تحديدا، وله عدة مؤلفات بينها "الجهل المقدس.. زمن دين بلا ثقافة"، و"الخوف من الإسلام"، وهو حوار مع الصحفي نيكولا تريون، و"الجهاد والموت" و"العلمانية والإسلام" و"تجربة الإسلام السياسي".

‪عالم السياسة الفرنسي أوليفييه روا ألف عدة كتب تهتم بالإسلام السياسي‬ (الأوروبية)
‪عالم السياسة الفرنسي أوليفييه روا ألف عدة كتب تهتم بالإسلام السياسي‬ (الأوروبية)

مفاهيم مغلوطة
في الفصل الأول عن "الإرث المسيحي" وكونه حقيقة وواقعا أوروبيا، يتحدث أوليفييه روا عما يتعلق بهذا الإرث وما لا يتعلق به، ويتناول بعض المفاهيم المغلوطة المتعلقة بالعلاقة المعقدة بين التراثين اليهودي والمسيحي، حيث دأب كثيرون على اعتبار أن أوروبا تنتمي إلى الهوية "اليهودية المسيحية".

هذه العبارة الأخيرة يقول روا إنه "لا معنى لها، فإذا كان المقصود بهذا القول أن المسيحية تتعرف على أصولها في اليهودية، فإن هذا أمر مبالغ فيه، كما أن اليهود لا يجدون أنفسهم في ما فعلته الكنيسة بتراثها العبري".

ويضيف "وإذا كان المقصود أن اليهودية لعبت دورا أساسيا في بناء الهوية الأوروبية، فإن هذا يشكل سوء فهم، إذ إن ما تسرب من اليهودية إلى المسيحية هو ما أرادت الكنيسة له أن يمرّ، وهي لم تسمح لكثير من الأشياء بالعبور، فهي على سبيل المثال جرّمت التلمود الذي يحظى بأهمية كبيرة في الثقافة اليهودية. وبالنسبة للمسيحية فإن تهويدها يعد من أكبر الخطايا".

‪شعائر مسيحية في كاتدرائية
‪شعائر مسيحية في كاتدرائية "نوتردام" بباريس‬ (غيتي)

عقب ذلك، تحدث الباحث الفرنسي عن البابا والإمبراطور، ثم الإصلاح البروتستانتي، فحروب الديانات ومفهوم الدولة الذي نشأ في "صلح وستفاليا" (1517-1648)، مشيرا إلى نقطة تاريخية جوهرية تتمثل في "فشل الديانات في إحلال السلام"، قبل أن يعرج على نشوء الدول الحديثة ووضعية الديانات فيها، وما تعلق بعولمة المسيحية.

وفي الفصل الثاني "علمنة أوروبا.. هل هي تجريد لها من مسيحيتها؟"، يتحدث أوليفييه روا عن طريقين سلكتهما العلمنة، أحدهما يرتكز على مفهوم تشريعي ودستوري، ويتعلق الأمر باستقلالية السياسة الذي أدى إلى فصل الدولة عن المؤسسات الدينية (كما هو الحال في فرنسا والولايات المتحدة)، أو أدى إلى تحكم السياسي بالديني (كما هو الحال في بلجيكا وألمانيا).

أما الطريق الثاني فيتعلق بالعلمنة الاجتماعية، حيث تناقصت أعداد المؤمنين بالمسيحية والمطبقين لتعاليمها بشكل كبير.

ويحاول الباحث في هذا الفصل توضيح فكرة أن الهوية المسيحية ليست هي نفسها الإيمان بالمسيح، ومن ثم يتساءل "هل يمكن للهوية المسيحية أن تبقى عندما ينتهي الإيمان؟".

‪تمثال يجسد المسيح في ستراسبورغ بفرنسا‬ (رويترز)
‪تمثال يجسد المسيح في ستراسبورغ بفرنسا‬ (رويترز)

أزمة مرجعية
في الفصل الثالث، ينطلق الباحث من التساؤل الآتي "هل يمكن بناء منظمة أخلاقية خارج الحقل الديني؟"، ويعود بالحديث إلى ما قامت به الكنيسة لصد موجات التحديث ما بين عامي 1864 و1964، ويتكلم عن فلسفة الأنوار وعلمنة الأخلاق.

تتواصل رحلة البحث عن العلاقة بين الديني والسياسي في المجتمعات الأوروبية، فيتناول الفصل الرابع موضوع العلمنة الذاتية للشأن الديني، ويتحدث عن دخول الكنيسة في الحداثة، والعالم البروتستانتي والإصلاح الديني للفاتيكان.

في الفصل الخامس، يتحدث أوليفييه روا عن القطيعة الأنثروبولوجية التي حدثت في الستينيات، ويكتب عن أزمة 1968 وميلاد ثقافة أوروبية جديدة، وما تعلق بتأسيس "القيم" الجديدة التي ولدت جراء هذه الأزمة.

الانفصال الديني يمثل محور الفصل السادس، حيث أعادت الكاثوليكية الأوروبية تشكيل نفسها في ذات الوقت الذي اختفت فيه الديمقراطية المسيحية وتحول التواجد السياسي للكنيسة إلى مأزق.

أما الفصل السابع فيتحدث عن الهوية والقيمة: أيّ أوروبا في مواجهة الآخر؟ وسلط روا الضوء على التجربتين الأميركية والأوروبية في ما يتعلق بـ"حرب القيم" والجدل حول الهوية المسيحية، وكذا الكنيسة في مواجهة الإسلام من جهة، والهجوم اللائكي من جهة أخرى، ثم يبحث عن الهوية المسيحية المُعلمنة والشعبوية الأوروبية.

يتساءل الكاتب في الفصل الثامن "هل هي نهاية أوروبا المسيحية أو هي نهاية الدين؟"، مشيرا في السياق ذاته إلى أن الإسلام هو مسرّع النمو الديني في أوروبا.

وفي مقابل ذلك، يشير روا إلى علمنة أوروبا التي تسارعت بسبب القرارات القضائية للمحاكم، مثل القوانين المتعلقة بالرموز الدينية والختان وذبح الحيوانات والهرطقة وتفكيك الحصانة الدينية.

وفي ختام كتابه، يذكّر أوليفييه روا بأن اللائكية والأديان يضعان تصورا مختلفا عن القيم، والأزمة التي تشهدها أوروبا اليوم ليست أزمة قيم، ولكنها أزمة مرجعية هذه القيم ذاتها، وعلى أي أساس يمكن تأصيلها.

المصدر : الجزيرة