حوار المشرق والمغرب.. نقاش طه عبد الرحمن ووائل حلاق بشأن أزمة الحداثة

كومبو يجمع الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن والأكاديمي الفلسطيني وائل حلاق
الأكاديمي الفلسطيني وائل حلاق (يمين) والفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن (مواقع التواصل)

في كتابه الصادر 2019، يؤكد الأكاديمي والمفكر الفلسطيني وائل حلاق أن المفكر المغربي طه عبد الرحمن يمثل صياغة لتقاليد فلسفية جديدة غير غربية ولا تتمحور حول الغرب، ويستكشف أن مشروعه الفلسفي يلقي الضوء على التيارات الفكرية الحديثة في العالم الإسلامي، ويطرح نقدا هائلا للحداثتين الغربية والإسلامية.

ويجادل حلاق في "إصلاح الحداثة.. الأخلاق والإنسان الجديد في فكر طه عبد الرحمن" (مطبعة جامعة كولومبيا) بأن مشروع المفكر المغربي ينطلق من الأسس المعرفية التي عبر بها معظم المثقفين المسلمين المعاصرين عن مشاريعهم الفكرية، لكنه يرفض بشكل منهجي أنماط التفكير التي هيمنت على المشهد الفكري الإسلامي منذ بداية القرن العشرين، بما فيها "القومية والماركسية والعلمانية والإسلام السياسي والليبرالية".

وبدلا عن ذلك، يقدم طه عبد الرحمن طرقا بديلة للتفكير -بحسب حلاق- ويطور نظاما أخلاقيا قويا بهدف إصلاح الحداثة الحالية.

ويقول حلاق إن مشروع عبد الرحمن يرتبط بالقضايا نفسها التي استولت على اهتمامه الفكري خلال العقدين الماضيين، وكتب ضمنها كتابه "الشريعة: النظرية، الممارسة، والتحولات"، ثم "الدولة المستحيلة"، ثم "قصور الاستشراق".

الأخلاق كمجال مركزي
ويحلل حلاق النظام الأخلاقي الذي يبنيه طه في جدل مع "الأسئلة المركزية التي ابتليت بها الحداثة في كل من الغرب والعالم الإسلامي"، كما يشتمل كتاب حلاق على آراء نقدية ومحاولة تبسيط لفكر طه وتقديمه إلى القراء الغربيين بالأساس، في محاولة للإجابة عن المشكلات الهائلة للحداثة الغربية.

ووصف حلاق الفيلسوف المغربي بأنه عالم جمع علوم اللغة مع التقاليد الفكرية الإسلامية والتراثية إلى جانب المتابعة الذكية للمخرجات الفكرية الأوروبية والأميركية، معتبرا أن الخط الذي يمتد عبر كامل نسيجه الفلسفي هو الخيط الأخلاقي في جميع أبعاده واتجاهاته المتنوعة.

 

ويرى حلاق أن مشروع طه عبد الرحمن الفكري هو أقوى شهادة على أن الأخلاق هي المجال المركزي للإسلام، ويعتبر أن مفهومه الجديد عن الإنسان العقلاني والروحي يعد نوعا من الترياق لمرض الحداثة في الزمن المعاصر، وينتج إنسانا مختلفا أخلاقيا في جوهره.

ويغوص كتاب حلاق الجديد في المفاهيم التي تشكل نظام طه عبد الرحمن المعرفي، ومنها القيم المعنوية والروحية، مثل حب الله والخوف من فقدان حبه، ويعول على مفهومه الجديد عن الإنسان المستمد من المفهوم الإسلامي للحياة لتغيير وعي الإنسان وسلوكه تجاه الموجودات.

في المقابل، يحذر طه عبد الرحمن -وفق كتاب حلاق- من "الغطرسة الوجودية الحديثة" مركزا على قيم التواضع والامتنان المترابطة، ويتناول مسألة السيادة وحب السيطرة، مؤكدا على أن الإنسان يجب أن يؤمن بالمبادئ العليا الأبدية التي أنشأها خالق الكون بأسره والتي -مثلها مثل القوانين الفيزيائية كالجاذبية- لا يمكن تغييرها أو تجنبها دون عواقب مدمرة.

ويشدد طه عبد الرحمن على الجمع بين الأخلاق والدين كأصل الأصول في مشروعه الفلسفي الأخلاقي، منتقدا "الحداثيين العرب" الذين يجيزون لأنفسهم انتقاد الديني بواسطة ما هو لا ديني، متسائلا "لم لا يجوز عند سواهم أن ينتقدوا اللاديني بواسطة ما هو ديني؟" ومستنكرا "لم لا يقبلون انتقاد الحداثة العلمانية بواسطة الأخلاق الإسلامية؟!".

وفي كتابه "سؤال الأخلاق.. مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية" يساهم طه عبد الرحمن في ما يعتبره "طلب أخلاقيات تنأى عن السطح الذي وقفت عنده الحداثة وتغوص في أعماق الحياة وأعماق الإنسان، فلا أعمق من حياة تمتد من عاجلها الى آجلها ولا أعمق من إنسان يتصل ظاهره بباطنه".

 

عبد الرحمن معقبا على حلاق
وفي تعقيبه الذي نشر مستقلا في كتاب حلاق، اعتبر طه عبد الرحمن أنه أسس دعوى "الفصل بين واقع الحداثة وتطبيقاتها" على ثلاثة مبادئ "تجمع بين مقتضيات النظر ومقتضيات العمل"، وهي "مبدأ التقريب التداولي" الذي شرحه في كتابه "فقه الترجمة"، مشيرا إلى الحاجة "للتصرف في المنقول بما يوافق مقتضيات المجال التداولي للمتلقي".

والثاني هو "مبدأ المنافسة الظرفية" الذي يقتضي مراعاة الظروف التي تحيط بالمتلقي، منتقدا "حالة السكرة بالحداثة" التي سادت في الثقافة العربية "كأنها الشريعة الجديدة التي لا يزيغ عنها إلا هالك"، مضيفا "تعيّن علي إخراج القراء من هذه السكرة الحداثية التي استبدت بهم"، مميزا بين مستويين اثنين في الحداثة ميّز بهما بين "الصالح والطالح من مكتسباتها".

أما المبدأ الثالث فهو "توسيع نطاق التواصل الفكري" للتفاعل مع الآخر مفرقا بين روح الحداثة أي "المعاني الموجهة للحداثة" وتطبيقها أي "المباني المجسدة للحداثة"، واستنبط طه عبد الرحمن من "واقع" الحداثة الغربية مفاهيم ستة تتحدد بها روحها، هي الاستقلال، والإبداع، والتعقيل، والتفصيل، والتوسع، والتعميم.

وناقش طه عبد الرحمن اعتراض وائل حلاق الأساسي على فكرته في الانفصال بين واقع الحداثة وروحها، مؤكدا أنه "لا غلو فيه ولا تكلف"، واعتبر أنه "فصل نسبي"، إذ لا واقع للحداثة بغير روح كما لا يوجد معنى بغير مبنى، وفي المقابل يجوز أن توجد روح الحداثة بغير واقعها، وهكذا فالانفصال المقصود هو "افتراق نسبي" فحسب.

واعتبر طه عبد الرحمن أن "النظرية الأخلاقية التي تقول بالانفصال بين واقع الحداثة وروحها تقوم بها إمكانات فكرية وعملية أوسع من النظرية الأخلاقية التي تقول بالالتحام بين هذين الطرفين"، كما أنها تفتح الباب واسعا أمام إيجاد تطبيقات أكثر أخلاقية لروح الحداثة من التطبيقات الغربية اللاأخلاقية لها.

وأشاد طه عبد الرحمن في تعقيبه على كتاب حلاق بجهد المؤلف في تتبع دقائق مشروعه، وقدرته على نقل أفكاره إلى الإنجليزية، بما في ذلك نقل مصطلحات عربية أصيلة.

وفي لفتة شخصية، نبه طه عبد الرحمن قراءه للمرة الأولى إلى أن اسمه الشخصي الأول هو عبد الرحمن، في حين أن اسم عائلته هو "طه" على خلاف ما تصور كثير من القراء لأعماله وكتبه، وختم تعقيبه باسمه مصححا "عبد الرحمن طه".

ويبدو الكتاب -في إحدى قراءاته- نقاشا بين الشرق والغرب، إذ يتضمن أوجه الاتفاق والتباين بين المفكر والفيلسوف المغربي، والباحث فلسطيني الأصل كندي الجنسية، ويقدم كذلك فرصة للتأمل في التباين بين الخلفية الصوفية واللغوية عند
المفكر الموسوعي المغربي في مقابل خلفية دراسة القانون والعلوم الاجتماعية لدى الأكاديمي بجامعة كولومبيا.

المصدر : الجزيرة