عندما ارتدى المسيحيون واليهود والمسلمون الطربوش الأحمر.. زمن التعايش العثماني وعصور الطائفية الدموية

Omran Abdullah - الوصف في المصدر - عندما ارتدى المسيحيون واليهود والمسلمون الطربوش الأحمر.. زمن التعايش العثماني وعصور الطائفية الدموية
الجنرال غورو يعلن 1920 إنشاء دولة لبنان الكبرى واستقلالها تحت وصاية عصبة الأمم التي تمثلها فرنسا (ويكي كومون)

عمران عبد الله

كان الشرق العربي من بين آخر المناطق في العالم التي استعمرتها القوى الغربية، لكنه أيضا كان أول من استعمر باسم تقرير المصير، حسب أستاذ التاريخ بجامعة رايس الأميركية أسامة مقدسي. 

وفي أحدث مؤلفاته الصادر هذا الشهر بعنوان "عصر التعايش.. الإطار العالمي وصنع العالم العربي الحديث"، عن مطبعة جامعة كاليفورنيا؛ يحكي مقدسي عن فصل فرنسا دولةَ لبنان -التي يهيمن عليها المسيحيون- عن بقية سوريا الجغرافية، وعن السياسات الطائفية في التعامل مع الطوائف العلوية والدرزية والسنية تحت الهيمنة الفرنسية الشاملة، ويقول إن الاستعمار زعم أنه كان يهدف إلى تحرير شعوب العالم العربي من "طغيان الأتراك"، ومن الحرمان من الكراهية الطائفية القديمة، لكن القصة كانت معقدة.

ودرس مقدسي الطائفية والعلاقات المجتمعية في الشرق الأوسط الحديث لنحو عقدين، وفي كتابه الذي افتتحه باقتباس لمحمود درويش: "الأنْبياءُ جَميعُهُمْ أهْلي، ولكنَّ السَّماءَ بَعيدةٌ عَنْ أرْضها، وأنا بعيدٌ عَنْ كَلَامي…"؛ يفكك الأسطورة التي تقول إن الشرق الأوسط طائفي بطبيعته، ويقترح نموذجًا جديدًا لفهم الرؤى العديدة من معاداة الطائفية والتعددية في المنطقة، بالاستناد إلى القادة السياسيين والنشطاء والنخب الفكرية والأشخاص العاديين الذين عملوا على التعايش السلمي والمواطنة المتساوية مع جيرانهم، قبل أن تنحرف هذه الثقافة في الشرق الأوسط الحديث.

‪غلاف كتاب
‪غلاف كتاب "عصر التعايش.. الإطار العالمي وصنع العالم العربي الحديث"‬ (الجزيرة)

احتلال المشرق
احتلت فرنسا سوريا عام 1920، وأطاحت بالمملكة العربية السورية التي لم تدم طويلاً؛ وكانت ذريعتها -التي لا تزال تستخدم حتى اليوم- هي حماية التنوع والأقليات وقيادة السكان نحو الحرية والاستقلال، وفي المقابل يعتبر مقدسي أن العثمانيين أو "رجل أوروبا المريض" في أوائل القرن العشرين شهدوا -على النقيض من قصص الجشع والانحدار التركي أو التمجيد الرومانسي للنظام العثماني- عصراً جديدًا من التعايش في نفس الوقت الذي بشر فيه بالتنافس والحروب بين القوميات الإثنية والطائفية في ظل الهيمنة الغربية. 

ويخلص مقدسي إلى أن الاستعمار الغربي شوّه باسم الحرية والحقوق الدينية طبيعة الشرق الأوسط؛ ويقول إن الجغرافيا السياسية تبدلت في المنطقة من خلال إنشاء سلسلة من دول الشرق الأوسط الصغيرة، والإمارات التي كانت ذات مرة تقف فيها سلطنة عثمانية كبيرة مترابطة، وهكذا ظهر الجنرال والمندوب السامي الفرنسي هنري غورو -الذي شارك في حملات في النيجر وتشاد والمغرب كذلك- في صورة شهيرة بين بطريرك الموارنة ومفتي السنة؛ باعتباره صانع سلام لا غنى عنه بين المجتمعات المشرقية المتخاصمة.

ويكشف الكتاب عن ثقافة التعايش الحديثة والمغمورة الآن في الشرق الأوسط، معتبراً أن "كل تاريخ للطائفية هو أيضا تاريخ التعايش"، وينظر للقضية الفلسطينية في سياق فعل الاستعمار الأوروبي الذي أحدث نزاعا جديدا بين "العرب" و"اليهود"؛ فبينما تبلورت هوية عربية جديدة تضم العرب المسلمين والمسيحيين واليهود، وتحلم بمُثل عالمية، وإنشاء مجتمعات وطنية ذات سيادة أكبر من مجموع مكوناتها الطائفية؛ أوقف الاستعمار الغربي كل ذلك فجأة، وأعاد تشكيل المسار الثقافي والسياسي العربي المعادي للطائفية، والذي بدأ يتشكل خلال القرن الأخير من الحكم العثماني، ويقول مقدسي إن هذا الحلم عاش زمنا جيدا في العالم العربي في القرن العشرين.

استعمار العالم
ويناقش الكتاب مناطق جغرافية مختلفة، بينها تركيا نفسها، حيث كان الوجود غير المسلم قديما وممتدا، وشمال أفريقيا والخليج، حيث كان وجود الأديان المختلفة أقل تأثيرا في التطور الثقافي لهذه المنطقة، وسوريا والعراق والأراضي الفلسطينية التي كانت تحت حكم عثماني مشترك وعرفت أقليات دينية وعرقية مختلفة.

ويروي المؤلف استعمار المشرق العربي بعد الأميركيتين وجنوب شرق آسيا وأفريقيا؛ إذ تبرأت هذه الموجة الاستعمارية الكبرى ظاهريا من الحكم الوحشي وجرائم مثل أعمال ملك بلجيكا في الكونغو أواخر القرن 19؛ وبدل ذلك استخدم الأوربيون بعد الحرب العالمية الأولى تعبيرا "لطيفا"؛ إذ تم إنشاء نظام "الانتداب" وتهيمن عليه القوى "المتقدمة" من قبل عصبة الأمم الجديدة، التي يهيمن عليها البريطانيون والفرنسيون لمساعدة الدول الضعيفة. 

وكانت الدولتان اللبنانية والسورية الجديدة مستقلتان "مؤقتًا"، لكنهما خاضعتان لوصاية أوروبية إجبارية، وبالاعتماد على التجربة البريطانية للحكم "غير المباشر" في أفريقيا بنت القوى المنتصرة في الحرب العالمية واجهة محلية لإخفاء يد المستعمر، وادعى الاستعمار آنذاك أنه يحترم المثل العليا الجديدة للرئيس الأميركي وودرو ويلسون ، الأب المفترض لما يسمى حق "تقرير المصير" للشعوب في جميع أنحاء العالم.

العثمانيون المتنوعون
وإلى جانب كل الأنظمة غير الغربية الأخرى تقريبا في القرن 19، تراجعت الإمبراطورية العثمانية في وجه العدوان الأوروبي المتواصل، وناضلت الإمبراطورية للحفاظ على السيادة واستيعاب أفكار القرن المتعلقة بالمساواة في المواطنة، لكنها تعثرت بسبب صعود حركات البلقان القومية الانفصالية التي حظيت بدعم من قوى أوروبية مختلفة.

وكان العثمانيون يشعرون بالقلق إزاء كيفية الحفاظ على السلامة الإقليمية لإمبراطوريتهم، التي كانت في يوم من الأيام عظيمة، واستثمروا أيضًا في تطويرها بطرق إصلاحية مختلفة، شملت المؤسسة العسكرية والسياسية وحتى الأنشطة التعليمية؛ وفي القرن 19 أعاد السلاطين العثمانيون تشكيل إمبراطوريتهم على أنها سلطنة مسلمة "حضارية" عالمية اعترفت بالمساواة بين جميع الرعايا بصرف النظر عن انتمائهم الديني.

وارتدى الرعايا المسلمون والمسيحيون واليهود الطربوش الأحمر، كعلامة على المواطنة العثمانية الحديثة المشتركة، وخلال عهد التنظيمات (1839-1876) تبنت الإمبراطورية العثمانية رسميا سياسة عدم التمييز بين المسلمين وغير المسلمين، واكتسب المبدأ قوة القانون وسلطة اجتماعية بإصدار الدستور العثماني عام 1876 ، الذي أعلن المساواة بين جميع المواطنين العثمانيين.

ويقارن مقدسي في كتابه بين مسألة العرق في أميركا والدين في الشرق الأوسط، ويقول إنه لا يقصد أن غير المسلمين في الحالة العثمانية كانوا يتمتعون بنفس المكانة الاقتصادية أو العنصرية مثل العبيد السود في أميركا أو اليهود في "الغيتو" (التجمع) الأوروبي، ولكن لم تكن هناك سيادة بيولوجية وعنصرية على طريقة تفوّق العرق الأبيض؛ وكانت مسألة الاختلاف الديني تبحث عن حل في الشرق الأوسط ضمن مشروع المواطنة، لكن تدخل القوى الغربية لحماية الأقليات غير المسلمة في الشرق الأوسط أثر على طبيعة التعايش بطريقة لا يمكن تجاوزها.

التدخل الأوروبي
ورغم التحديثات العثمانية، طالبت القوى الأوروبية المهيمنة مثل بريطانيا والإمبراطورية النمساوية وروسيا وفرنسا بتنازلات إضافية لحماية الأقليات، واختارت كل قوة أوروبية واحدة من الأقليات لحمايتها وتنافست القوى الأوروبية والأقليات فيما بينها؛ وأدت هذه "المشاحنات الدبلوماسية" إلى بروز ما عرف باسم "المسألة الشرقية"، إذ تدخلت الإمبراطوريات الأوروبية في أوضاع المجتمعات العثمانية على أسس طائفية واضحة، ولا سبيل لإنكارها، حسب مقدسي. 

ورغم تعهد العثمانيين باحترام "امتيازات الكنائس المسيحية وحصانتها الروحية"، وإلغاء الجزية والتمييز، تعثرت جهود المساواة؛ بسبب صعود حركات البلقان القومية الانفصالية التي حظيت بدعم من قوى أوروبية مختلفة؛ وكان العثمانيون في حالة حرب شبه دائمة طوال القرن 19.

وفاقمت المسألة البلقانية التوتر داخل المجتمع العثماني؛ فقد سعت القوميات المسيحية الصربية والبلغارية -بدعم روسي ونمساوي وبريطاني- للانفصال عن المجال العثماني، وأدى ذلك إلى التزام العثمانيين بحماية المسلمين البلقانيين بشكل خاص، وعلى الجبهة الشرقية اشتعلت التمردات الأرمنية التي دخلت في مواجهة مع إسطنبول. 

العرب أفضل حالا
في المقابل، كانت أحوال التعايش الديني في البلدان العربية أفضل حالا بين المسيحيين واليهود والمسلمين العرب، إذ كانت "القومية الانفصالية" أقل حدة وأخفت صوتا، وكمجتمع ناطق بالعربية لعب المسيحيون واليهود أدوارا حيوية في مجالات الثقافة والفن والإعلام، سواء في بلاد الشام أو بيروت أو دمشق أو عكا أو مصر الواقعة تحت الاحتلال البريطاني منذ عام 1882م.

وعلى الجانب الآخر، وفي غضون خسارة العثمانيين الحرب العالمية الأولى، واجهت السلطنة العجوز تحديا وجوديا، وهو ما أدى إلى انقلاب على روح التعايش والانفتاح على الأقليات الدينية، وأصر الحلفاء المنتصرون في الحرب على تقسيم الإمبراطورية الخاسرة، وتجاهلوا إرثها المدني الإصلاحي قبل الحرب، وكما هو معروف غزا اليونان إزمير التركية، وانتهى الصراع بين الجارين اللدودين تركيا واليونان باتفاقية التبادل للسكان عام 1923، وطردت تركيا مئات الآلاف من اليونان، في حين طردت الأخيرة مثلهم من المسلمين الناطقين باليونانية. 

وينقسم كتاب مقدسي إلى قسمين: يتناول الجزء الأول القرن 19 العثماني، حيث تم بناء إطار التعايش لأول مرة، ويركز الجزء الثاني على المشرق العربي بعد العثماني في القرن العشرين، خلال عصر الاستعمار الغربي. ويبدأ الفصل الأول مع صورة للتعايش في العهد العثماني قبل القرن 19، حيث عمدت السلطنة على توزيع الامتيازات واحتفت بالمسلمين والعثمانيين مقارنة بغيرهم، ويشرح الفصل الثاني كيف حطم القرن 19 منطق الحكم العثماني، فقد خسر العثمانيون حروبهم وأجبرت الإمبراطورية على إجراء إصلاحات كبرى، بما في ذلك مبدأ عدم التمييز خلال عصر "التنظيمات".

ويروي الفصل الثالث تشعب الإمبراطورية العثمانية في شمال البلقان والأناضول، والذي كان مختلطًا بموضوعات القومية والعرق، وفي الفصلين الرابع والخامس يناقش المؤلف "التعددية الاستعمارية" و"الطائفية ومعاداة الطائفية في العالم العربي ما بعد العثمانيين"، وخصص مقدسي الفصل السادس والأخير من الكتاب لدراسة حالة العرب واليهود في فلسطين.

ويرى المؤلف أن القوى الاستعمارية الأوروبية والغربية فاقمت الانقسامات، وشجعت السياسات الطائفية أثناء الحكم الاستعماري للشرق الأوسط، ولا يزال صدى هذه الحقبة يتردد في المنطقة المشتعلة بالحروب والفتن الطائفية حتى اليوم.

المصدر : الجزيرة