كورينتي.. خادم العربية برحاب الأكاديمية الإسبانية

فيديريكو كوريينتي
كورينتي اتهم الغرب بعدم السعي لفهم العالم العربي مما يعلي جدرانا من التنافر والكراهية (الأكاديمية الملكية الإسبانية)

نزار الفراوي-الرباط

مشرفا على دخول عقده الثامن، يبدو فتح أبواب الأكاديمية الملكية الإسبانية، واحدة من أرفع المؤسسات الثقافية بإسبانيا، للباحث اللغوي المستعرب فيديريكو كورينتي يعد اعترافا متأخرا بمسار وعطاء الرجل الذي يعمل بلا كلل منذ عقود على مد وترميم الجسور بين لغتين وثقافتين يتقاسمان تاريخا عريقا من التلاقح والتفاعل.

ويتعدى الأمر مجرد كونه رد اعتبار شخصيا، فانضمام كورينتي، ابن غرناطة التي رأى النور بها عام 1940، يكرس نوعا من المصالحة الرمزية للمؤسسة الثقافية الإسبانية مع الفضاء الثقافي واللغوي العربي، ذلك أن هذا الباحث الذي يعد أحد رواد الدراسات اللغوية العربية في العالم الإيبيري هو أول مستعرب يحتل مقعدا بالأكاديمية الإسبانية منذ ما ينيف على عقدين من الزمن. وهو فراغ ظل يبدو مجانبا للمنطق ومجافيا لثقل وعمق العلاقات الثقافية واللغوية بين إسبانيا والعالم العربي الإسلامي.

ولعل البعد الاحتفالي للحدث لم يثن كورينتي، الذي تعمقت معرفته وتعاطفه مع العالم العربي عبر فترات من حياته عاشها في كل من المغرب ومصر، عن الصدع بالحقيقة المرة أمام سمع أعضاء الأكاديمية، متحدثا عن حالة التجاهل الواضح للدراسات العربية، ومتهما الغرب بعدم السعي لفهم العالم العربي بحقائق وبينات، مما يعلي جدرانا من التنافر والكراهية.

لقد حرص الباحث الإسباني الذي مارس التدريس بجامعة محمد الخامس بالرباط من 1965 إلى 1968 على إثارة الانتباه إلى حالة "الجهل الإرادي" للغة وثقافة تشكل جزءا صميما من التاريخ الإسباني، محذرا من أن العداء الأيديولوجي والديني يهدد غنى الهوية الوطنية ويحدّ من تنوعها ويحرمها من روافدها.

بذلك يكون الرجل سليل تلك الشجرة من المستعربين الذين عملوا على تخليص الإسبان من عقدة الثأر التاريخي من الماضي العربي وتحسيسهم بتملك مكون تراثي أصيل لكيانهم الوطني، لغة وثقافة ونمط عيش.

كتاب
كتاب "النحو العربي" أحد المؤلفات البارزة للباحث المستعرب كورينتي (مواقع التواصل الاجتماعي)

الرجل، الذي شغف مبكرا باللغات السامية، وخصوصا العربية منها، التي حمله عشقها وخدمتها إلى دخول مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وحاضر فيها بالجامعات العربية والأميركية والإسبانية، هو صاحب مشروع ثقافي لغوي ضخم جسده منذ عام  1970 صدور " القاموس الإسباني العربي" الذي أضحى عدة تعليمية لا غنى عنها لدارسي الترجمة بين اللغتين.

لا يفصل كورينتي خريج جامعة كومبلوتنسي بمدريد عام 1962، ضعف الاهتمام بالثقافة العربية عن الجدار السياسي الراهن الذي يفصل العالمين العربي والغربي ويصب الماء في طاحونة المبشرين بصدام الحضارات. إنه يوجه أصبع الاتهام مباشرة إلى الغرب محملا إياه مسؤولية كبرى في انبثاق "الإرهاب الجهادي" بل وفي إجهاض بعض مساعي التحديث في العالم العربي الإسلامي.

يرى الباحث المنحدر من عاصمة التراث الأندلسي غرناطة، حيث استظل بحدائقها التاريخية وجاب قصورها وطالع نفائسها التي تحمل آثار الوجود العربي والتنوع الثقافي الذي طبعه، أن الموقف الأيديولوجي والعقائدي تجاه الثقافة العربية كان له أثر سلبي على مستوى الدراسات العربية في الأرض الإيبيرية مقارنة مع باقي الدول الأوروبية، بل إنه ليستغرب كيف أن حركة استيراد المؤلفات باللغة الروسية أكثر حجما من نظيرتها باللغة والثقافة العربية، رغم عامل القرب الجغرافي والتراث المشترك.

اهتم كورينتي بحضور المفردات العربية في اللغة الإسبانية، والتي تناهز في نظره 1700 كلمة، وحذر من مسار اختفائها التدريجي بفعل عوامل موضوعية شتى تصيب اللغة بوصفها كائنا حيا ومتغيرا.

اهتم المستعرب الذي ينضم في مقعده الجديد إلى قائمة من 46 أكاديميا، بحضور المفردات العربية في اللغة الإسبانية، والتي تناهز في نظره 1700 كلمة (بغض النظر عن الاشتقاقات التي تجعل البعض يقدرها بـ4000 كلمة)، وهو يحذر من مسار اختفائها التدريجي بفعل عوامل موضوعية شتى تصيب اللغة بوصفها كائنا حيا ومتغيرا.

وإلى جانب القاموس الإسباني العربي، عرف كورينتي بتحقيق ديوان ابن قزمان، ودراساته عن اللهجات الأندلسية، وكتابه الأساسي عن "النحو العربي"، و"قاموس العربية الأندلسية"، وكتابه عن الموشحات الأندلسية.

في خريف العمر، يواصل كورينتي أداء رسالة ثقافية ذات أفق إنساني، تمد الجسور بين حضارتين تتقاسمان ذاكرة عريقة تطل على البحر الأبيض المتوسط. وهو بذلك يثري سجلا زاخرا من الجهود العلمية التي بذلها تيار مشع من المستعربين الإسبان المنافحين عن إحياء المكون العربي الحضاري في الهوية الإسبانية ضد محاولات الطمس والتبخيس ذات الوازع الديني والشوفيني المغلق.

إنه يحيل إلى أعلام من قبيل المؤرخ خوان برنيت الذي عرف بترجمته للقرآن الكريم وإهداء قارئ الإسبانية كتاب "ألف ليلة وليلة"، فضلا عن مؤلفه المرجعي الذي يقدم قراءة كاشفة لإسهام العرب والإسلام في النهضة الأوروبية تحت عنوان "ما تدين به أوروبا للإسلام الإسباني".

كما لا يمكن إغفال الإسهامات الغزيرة لرائد الاستعراب بدرو مارتينيث مونتابيث، الذي اختار اتجاها متميزا بالتركيز على ترجمة الأدب العربي الحديث من خلال نصوص نجيب محفوظ وأمل دنقل وصلاح عبد الصبور ومحمود درويش، بل خلف مكتبة إسبانية مؤسسة لفائدة الباحثين من قبيل كتابه الهام عن "الشعر العربي المعاصر" و"مدخل للأدب العربي الحديث"، فضلا عن كتاب "شعراء المقاومة الفلسطينية" الذي جسد موقفه مدافعا كبيرا عن القضية الفلسطينية.

وإن كانت حركة المستعربين في الفضاء اللغوي الإسباني ليست جديدة، فإن الزخم الحقيقي لهذه الحركة أخذ انطلاقته الحقيقية في القرن التاسع عشر مع النقلة التي سجلت على مستوى دراسة وإحياء الأدب الأندلسي وكشف كنوز مغمورة من المخطوطات والأعلام.

انضمام فيديريكو كورينتي إلى الأكاديمية الملكية الإسبانية التفاتة رمزية تجاه أجيال من باحثين خرجوا من جلباب نبذ ماض عربي إسباني مشترك، ليسخروا حياتهم العلمية في نبش المحطات المضيئة من هذا التراث والقفز على الصور النمطية في اتجاه معانقة الآخر والاغتناء بتجربته وتكريس مستقبل يصنعه تلاقح التجارب الحضارية.

المصدر : الجزيرة