معاودة الكتابة وألق النصّ

الكاتب إبراهيم صمويل- يبدو لي أن النصّ النثريّ الأجمل هو ذاك المكتوب من غير المشتغل في حقل الجنس نفسه, كأن يكتب روائيّ عن القصة القصيرة, أو قاصّ عن الشعر, أو شاعر عن نتاج روائي أو مسرحي أو فنّي تشكيليّ.
إبراهيم صموئيل

في الكتابة عن أيّ جنس أدبي يبدو لي أن النص النثري الأجمل هو ذاك المكتوب من غير المشتغل في حقل الجنس نفسه، كأن يكتب روائيّ عن القصة القصيرة، أو قاصّ عن الشعر، أو شاعر عن نتاج روائي أو مسرحي أو فنّي تشكيليّ.

وهذا ما لاحظته في العديد من المقالات والدراسات، ومنها دراسة بعنوان "القصة والدلالة الفكرية" للكاتب المعروف حنّا مينه، وقد خصّصها بكاملها لفنّ القصة القصيرة، الذي يقول عنه -وهو الروائي بامتياز- بأنّه "الأصعب بين فنون الإبداع، والأعقد بين الأجناس الأدبية".

والكتاب من الأهمية بحيث يشكّل مرجعاً ثقافياً عامّاً -في جملة مراجع كبرى- لهذا المخلوق الأدبي الأصعب والأعقد، ومرجعاً لازماً، على الخصوص، لأولئك الذين يستسهلون كتابة القصة لأنها "قصيرة"، كحال من استسهلوا كتابة الشعر لأنه "حرٌّ"، أو كتابة الرواية لأن سوقها "رائج" الآن "ومطلوبة جداً"!

في الإضاءة السادسة من الكتاب، التي يتحدث فيها عن الأسلوب في القصة القصيرة، يتوقف حنا مينه عند حديثٍ جَمَعَه مع يوسف إدريس حيث قال الأخير بعد استماعه لقصة "الأبنوسة البيضاء" لمينه: "ابقها كما هي، كما انبثقت من ذاتك، بكلماتها نفسها، وتشبيهاتها نفسها، وانطلاقها نفسه، وتدفقها نفسه، لأنني، أنا، أفعل هذا". مؤكّداً أنه يعتمد في كتابة قصصه على الدفق الأول عدا تنقيحات بسيطة مثل حكّ هذه الكلمة أو تلك، دون العودة إلى كتابة القصّة من جديد، لأنها تفقد زخمها واندفاعها وحيويّتها… إلخ.

ولأن البعض يفتّشون عن أقوال وشهادات الكتّاب الكبار ليتّخذوا منها ذرائعَ تغطّي عجزهم، وتستر ضحالة تجاربهم الحياتية وثقافتهم، وضعف مواهبهم؛ فإنّ كلام يوسف إدريس -من هذا الباب-  يُغري بأن تكون مسودة كتابتهم الأولى هي نفسها -بقضّها وقضيضها- النصَّ المنشور في الصحيفة أو الكتاب، من دون أي مراجعة وتدقيق وتجويد، وذلك بذريعة الحرص على عفوية الدفق الأول كما انبثق.

وهذا -بالطبع- أغزر لهم في الكمّ بما لا يُقاس، وأسهل في الكتابة، إضافة إلى أنّه يسبغ الشرعية على عيوب نصوصهم كونها من صلب وصايا بعض الكتّاب الكبار وشهاداتهم المحذّرة من الشغل الدؤوب على القصة ومعاودة كتابتها، أو تعديلها، أو إعمال النظرة النقدية للكاتب فيها.

وإذا كان الكاتبان السابقان قالا ذلك، وأشارا إليه، فلأنهما ما صارا كبيرين في فن كتابة القصة والرواية إلا بعد أن حذفا الكثير، خلال تجاربهما الأدبية الماضية، وعدّلا، وغيّرا، ودقّقا، وجوّدا، وصاغا نصوصهما مرات ومرات إلى أن بات بإمكانهما -بعد تجارب طويلة عريضة مضنية- من ضرباتِ ريشةٍ إنجازَ لوحة أدب بديع.

وهذا ما يلفت إليه حنا مينه في غير موضع من كتابه، حين يُؤكد أهمية التأني والتبصّر، ويُنبّه إلى أن قول إدريس السابق "لا ينفي العقل، ولا يغفل عن أهميته… وأنه لا يتكئ كلياً على الشعور وكذلك لا يجعله كل شيء"، مشدّداً على ثقافة إدريس وخبرته ومثابرته وما إلى ذلك، وهو ما جعله علماً من أعلام القصة القصيرة العربية.

ومن الطريف حقّاً أن يتجاهل البعض، المُنتهز لأقوال الكتّاب الكبار، هذه التأكيدات والتنبيهات التي أشار إليها حنا مينه حين أورد في كتابه ما قاله له يوسف إدريس عن الدفق الأول والعفويّة وإبقاء النصّ كما ولِد، فيمضي في نشر كلّ ما يعنّ على باله، وعلى أيّ نحو ظهر، معتبراً أن العفوية والزخم والطلاقة ستكون الشفيع للنصّ حتماً.

وفي اعتقادي، إن عناية الموهوب لا تقتل دفق القصة لديه، والشغل الفني على نصّه لا يضيّق من فضاء رؤيته، وتنبّهه العقلي لا يُضحّي بزخم مشاعره، وسعيه لتجويده لا يُضعف من ألق فكرته.. إذ إن الحذق والمهارة والإبداع هي في كيف يُقدّم قصة أو قصيدة تُشعر القارئ بأنها ابنة الدفقة الأولى، والفيض البكر، والطلاقة التامّة والعفوية.

إنها لعبة الفنّ، وقدرته على الإيهام. مهارته في التقدّم إلى القارئ -والمتلقّي بعامة- على هيئة التكوُّن العفويّ، التلقائيّ، السهل؛ في حين أنّه -في حقيقة الأمر- نتاج التأمل والتدبّر والعناية والشغل الدؤوب ومعاودة الصوغ، تلك المُعاودة الوليدة من رحم موهبة عميقة، وتمرّس شديد، وذكاء حاد، يوحي للقارئ بأنّ العمل تمّ إنجازه حال دفق فكرته، ثم قُدم "خاماً" كما وُلد .

أليس مما له دلالة بالغة -بصرف النظر عن درجة المُغالاة- ما قيل عن أوسكار وايلد من أنه في تصحيحه لمسودة إحدى قصائده طوال الفترة الصباحية قام بحذف فاصلة، ثم في فترة ما بعد الظهر أعادها؟

المصدر : الجزيرة