نبيهة العيسى.. رمضان وفرصة إعمار الذات

الكاتبة التونسية نبيهة العيسي (صورة خاصة)
نبيهة العيسى: في شهر رمضان أعيش نقلة من الإقامة في الآخرين إلى الإقامة في الذّات، من الكثرة إلى الوحدة (الجزيرة)

على درب الرحلة مع عدد من الكتاب والمبدعين العرب، للتعرُّف على طقوسهم في الإبداع والكتابة والقراءة خلال شهر رمضانالكريم، نتوقف اليوم مع الكاتبة التونسية نبيهة العيسى التي فازت روايتها "مرايا الغياب" بالجائزة الذهبية "للكومار" الأدبي مناصفة مع رواية أخرى.

في هذه المحطة تقول نبيهة العيسى إنها تعيش خلال شهر رمضان نقلة من الإقامة في الآخرين إلى الإقامة في الذّات، ونقلة من الكثرة إلى الوحدة التي لا يمكن تعميرها إلاّ بفعل القراءة، وهو فعل سيساعد -في نظرها- "على التعالي على شهوات الجسد واستبدالها بشهوات الروح".

في ما يلي نص ردود الكاتبة على أسئلة الجزيرة نت حول طقوسها في القراءة والكتابة وما تتذكره من طفولتها في شهر رمضان:

إعمار الذات
شهر رمضان بالنسبة لي هو شهر يعقل فيه الجسد شهواته الماديّة ليكتشف ذاته، وهو لن يكون ذاته ما لم يبدع المعنى الذي يمثّله، ولأنّ الإبداع ينحت من جوهر السّؤال، تستيقظ في رمضان الأسئلة القديمة، الأسئلة الأولى حول حقيقة الحياة والموت، ثمّ أسئلة أخرى حول ماهيّة الإنسان وعلاقته بغيره وبالكون.

هذه الأسئلة إن سكنت إلى الإجابات الجاهزة لن تأتي بجديد، قيمتها تكمن في قدرتها على السفر بالمرء إلى أعماقه ليدرك جوهره المتجدّد. هذا الشهر هو إذن فرصة لإعمار الذات، حتّى تعي أبعادها وانتماءها إلى الكون الكبير، وهو فرصة لكي تعي قدرتها على العطاء والتأثير.

undefined

عزلة وسفر
ما يميّز هذا الشهر أنّه يمهّد الطّريق لدواخلنا، وهذا الأمر لا يمكن أن يتحقّق إلاّ في غمار اللغة، بوصفها قولا للذات وإخبارا عنها؛ فالكتابة تجربة روحيّة تقيم في أعماق الجسد قبل أن تخرج إلى جسد النصّ، والنصّ الإبداعيّ يولد في النفس نغما، ثمّ يتشكّل في الذهن صورة، قبل أن يصل إلى الورق تشكّلا لغويّا مخصوصا.

فإذا ما وصلت الفكرة إلى هذه الحالة من الاكتمال، يغدو كلّ زمان يتيح لي فرصة الخلوّ إلى نفسي مناسبا لوضعها، وإن كنت أحبّذ الليل ففي صمته وعزلته أرفع القلاع وأعلن السّفر.

شعور بالامتلاء
في شهر رمضان أعيش نقلة من الإقامة في الآخرين إلى الإقامة في الذّات، من الكثرة إلى الوحدة. والوحدة لا يمكن تعميرها إلاّ بفعل القراءة، والقراءة وحدها هي التي تشعرني بالامتلاء، فإذا أنا الواحد والكلّ في آن، ومن مميّزات هذا الشهر أنه يساعدني على التفرّغ للقراءة.

بل إنّنا نكتشف بحلوله أنّنا انشغلنا باليوميّ ولم نترك وقتا لما هو أهمّ، والواقع أنه لا شيء تغيّر فينا عدا اهتماماتنا، فجأة تنحسر شهواتنا الماديّة إلى الهامش وتتصدّر شهواتنا الروحيّة المركز، ولا شيء كالقراءة يستدعي الجمال، ولا شيء كالقراءة يساعدنا على التعالي على شهوات الجسد واستبدالها بشهوات الروح.

نبيهة العيسى:
القراءة وحدها هي التي تشعرني بالامتلاء، فإذا أنا الواحد والكلّ في آن، ومن مميّزات هذا الشهر أنه يساعدني على التفرّغ للقراءة.

فإذا نحن فرع من الشجرة الكونيّة، نحنّ إلى الاتصال بالكلّ؛ لذا أفضّل في هذا الشهر تحديدا قراءة الشعر، لأنّه يمثل الحالة المتعالية على الحدث، مثلما أفضّل الانفتاح على الآداب العالميّة، وبين يديّ هذه الأيّام رواية "الخلود" لميلان كونديرا.

ألوان وروائح
لرمضان أجواء خاصّة به، له عاداته واحتفالاته، ومراسمه وأعياده؛ لذا لا يمكن أن تسقطه الذّاكرة مهما سيطر عليها البياض وشملها التحريف، بل إنّه مع الوقت يزداد ألقا، لسبب بسيط؛ هو أنه حدث مركّب ويستدعي في الذهن علاقات متعدّدة.

وقد نتساءل: لم الحنين إليه وهو حدث دوريّ يزور بيوتنا كلّ سنة؟ فلا نجد جوابا غير أنّه لا يعود أبدا بالطّريقة نفسها، لأنّ شبكة العلاقات التي تمثّله هي التي تتغيّر، ومن الأجواء الطّفوليّة التي يشدّني الحنين إليها في هذا الشهر ما يحوم حول مائدة رمضان لما تختزنه من صور ثريّة متداخلة.

فهي رمز نفسيّ، أرى الصّائمين يصلون إليها كما لو كانوا على سفر وحطّوا في مرفأ لينعموا ببعض الرّاحة، وهي رمز احتفالي تشترك فيه الأسرة بأكملها وتحلّ فيه المتعة محلّ الواجب، وهي رمز إبداعيّ يختزن في ذاكرتي ألوانا وروائح ومذاقات، شكّلتها أيدي الجميع في ساعات وعبثت بها أيادينا الطّفوليّة في دقائق.

المصدر : الجزيرة