في تحويل النصوص الأدبية إلى دراما

ساق البامبو

أمير تاج السر

يعرض هذه الأيام على شاشة "أم بي سي" المسلسل الخليجي "ساق البامبو" عن رواية بهذا الاسم للكاتب الكويتي الموهوب سعود السنعوسي، التي حصلت عام 2013 على الجائزة العالمية للرواية العربية، (البوكر)، وتعد من الروايات المهمة التي ناقشت مسألة الهوية وأجادت الطرح.

المسلسل الدرامي مأخوذ عن الرواية، وهو بالقطع لن يكون توأما لها أي بملامحها كلها، ولكن نجد الرواية قد أعيدت صياغة حوادثها بما يلائم الدراما مع الاحتفاظ بكثير من الثوابت الواردة فيها، وبذا لن يتوقع المشاهد الذي قرأ الرواية وأعجبته أن يجدها بكل تفاصيلها هنا. ولكن سيجد فنا آخر، مكملا لفن الكتابة، هو فن السيناريو والحوار، والإخراج، وهكذا.

كنت في فترة من فترات محاولاتي للمعرفة والاطلاع قد بدأت أقرأ كتبا في فن السيناريو، لم أكن مغرما بالسيناريو حقيقة، ولا تخيلت نفسي كاتبا لسيناريو، خاصة أنني من بيئة مغرمة بالحكي ولا يوجد بها إنتاج درامي متفوق وليس لديها سينما.

نتعشم أن نرى في المستقبل إنتاجات سينمائية أخرى بعد المحاولات الأولى للرشيد مهدي وجاد الله جبارة، في إنتاج سينما سودانية، لأن الذين درسوا السينما لدينا إما صنعوا أفلاما وثائقية، وهذا نشاط آخر، لا علاقة له بالخيال، وإما صمتوا وعملوا في مهن أخرى بعيدا عن الإبداع.

لقد قرأت طرق كتابة السيناريو، كيف يتحول الحدث المكتوب إلى حدث سيكون مرئيا، وكيف نستعيض عن "الوصف الأدبي بلقطات فنية تلخصه" وكيف أن شخصيات صامتة في الحياة، يعاد استنطاقها بجدارة، بإشارات وإيماءات جسدية.

نجيب محفوظ كتب سيناريو أفلام عديدة، وفعل ذلك غيره وهناك من تركوا فن الكتابة واتجهوا إلى فن الدراما بحثا عن مردود مادي لأنه ليست للمتابعة الإبداعية مردود ألبتة

روح ووجهان
أما الدراما التلفزيونية والسينمائية المأخوذة عن نصوص روائية، كما في حالة "ساق البامبو"، فإن كاتب السيناريو قد يستغنى عن بعض الشخوص، ويورد شخوصا آخرين من خياله، قد يصنع مواقف معاكسة لما في النص الروائي، وقد يجد البداية أو النهاية غير مشبعة للمشاهد، فيشحن السيناريو بجرع مضاعفة من فن البدء والختام، هكذا.

إذن، تتضح الأمور بجلاء، وتتضح خاصة للروائيين المعتدين بنصوصهم الكتابية، ووافقوا عن قناعة بتحويلها لنصوص درامية، أنه لا مجال للاحتجاج بأي شكل، لا يأتي كاتب ويصرخ أن عمله قد تشوه، ولا يقول أحد مثلا إن الذي كان يتلصص على بطلة القصة كان قريبها وليس ابن الجيران، والذي فقد ساقه في الحرب تزوج خطيبته بالفعل، ولم تتركه لتتزوج غيره.

هناك فن واحد، بمعنى الانتماء لعائلة الفن: فن الرسم والكتابة القصصية، والسيناريو، والإخراج، وفن كثير آخر، فقط تختلف رؤية كل فنان للحياة، ولإمكان نجاح فنه من عدمه.

لقد عملت في منطقة الحدود بين السودان وإريتريا وعملت معنا لفترة من الزمن ممرضة فرنسية رائعة الجمال وأخاذة، كانت في شبه قرية، لها تقاليدها وعالمها، وسخافاتها أيضا، ولكنها عملت في البرنامج الذي جاءت من أجله، وهو برنامج تغذية الأطفال ضد الجفاف وسوء التغذية، وأمراض مثل الكساح، والعشى الليلي.

كانت كاثرين تعمل بجهد في تحضير مكونات الغذاء في معسكر أقامته في طرف البلدة، وينضم إليها العشرات يوميا من الأطفال وأمهاتهم، وحين تنتهي من يومها الشاق تواجهها آهات العشق من الرجال المحليين، تواجهها التحرشات، ولا تعبأ بأي شيء، وظلت تعمل حتى جاء من استبدلها ورحلت إلى بلادها راضية.

ظلت تلك الفرنسية بمواقفها في ذهني سنوات، ثم جلست يوما منذ سنوات، وبعد أن استوعبت مسألة السيناريو، لأكتب قصتها دراميا بسيناريو وحوار، سميت القصة "العطر الفرنسي"، وكتبتها بتدفق لمدة شهر، وظللت منتشيا بها وفي انتظار أن أجد من ينتجها شريطا سينمائيا.

"العطر الفرنسي" كانت في البداية مشروع سيناريو قبل أن ترى النور في شكل رواية(الجزيرة)

سيناريو ورواية
لكن خللا في جهاز الكمبيوتر محا كل شيء، وضاع السيناريو الأول والأخير الذي كتبته، لألغي الفكرة تماما، وأكتبها رواية بهذا الاسم، ويأتي شاعر من مصر فيحولها لسيناريو إذاعي وتبث في رمضان. ولاحظت الفرق الذي تحدثت عنه بين الرواية والدراما، ولم أعترض، فقد كنت أعرف.

انتهى حماسي لكتابة الدراما منذ ذلك الوقت، وأعترف بأنها عمل يحتاج لحب كبير من أجل الانخراط فيه.

معروف أن من بين الكتاب الروائيين من كتب الدراما، أو حول نصوصه إلى دراما، ومعروف أن نجيب محفوظ شخصيا كتب سيناريو أفلام عديدة، وفعل ذلك غيره، وأعرف كتابا تركوا فن الكتابة واتجهوا لفن الدراما، وواضح أن المردود المادي يختلف عن المتابعة الإبداعية وهي بلا مردود ألبتة. وأعتقد أن هؤلاء الكتاب بالتحديد فهموا تماما أن الرواية لا تشبه المسلسل الدرامي أو الشريط السينمائي، فكل فن يذهب في طريق مختلف.

ختاما، أقول إن العمل الروائي الناجح هو من يشد أنظار صناع الدراما، من أجل أن يعاد إنتاجه دراميا، وقد قطع الخليج شوطا كبيرا في عمل المسلسلات، ولذلك كان اختيار "ساق البامبو" في مكانه، وقطعا ستنجح مسلسلا، كما نجحت أدبيا.

المصدر : الجزيرة