وقفة بين الأدب والصحافة

كم من أديب رفعت من قدره الصحافة، وكم من أديب أسهم في تطوير الصحافة وإثرائها فرفع من قدرها، واعطى الصحيفة دفعة معنوية وإعلامية إلى الأمام

علي البتيري

قبل أن نطمح إلى وقفة جدليَّة ساخنة بين الأدب والصحافة في عالمنا العربي؛ دعونا نطرح هذا السؤال: هل الأدب في خدمة الصحافة أم الصحافة في خدمة الأدب؟ أم كلاهما يخدم الآخر بالقدر الذي يجسد نفسه فيه، وبتكافؤ تتطلبُه حركة الوعي الثقافي العربي في منطقتنا المنكوبة؟

من خلال محاولة طرح صريحة لأبعاد العلاقة المأزومة -في معظم الأحيان- بين الأدب والصحافة، وعبر تلمس مواضع الاهتزاز في الوشائج القائمة بينهما، يمكن لنا أن نضع أيدينا على الخلافات أو الاختلافات بين الصحافة اليومية والأسبوعية من جهة والأقلام والمواهب الأدبية التي تطرح نفسها على الساحة الثقافية عبر الصحافة من جهة أخرى.

إلا أن نظرة استطلاع عابرة لا تفي بالغرض، ولا تكفي لرصد الواقع الجدلي بين التوجهات الصحفية والطموحات الأدبية في مضمار حركة الثقافة العربية، حيث القارئ العربي يظل الضالة المشتركة المنشودة، الذي حتماً سيتأثر سلباً بأي تباين أو خلاف يقع بين رجال الصحافة ورجال الأدب، حيث كل طرف له لغته ووسائل إيصاله الخاصة به.

وللإجابة عن السؤال سالف الذكر، علينا قبل كل شيء أن نحاذر من الوقوع في شرك التعميم؛ إذ لا بد -بادئ ذي بدء- أن نستثني بعض الصحف العربية التي استطاعت أن تجعل من الصحافة والأدب رسالة توعوية وإبداعية واحدة لا تقبل التجزئة.

علاقة الأدب بالصحافة في بلادنا ما زالت في معظم الأحيان وفي العديد من الصحف تمثل علاقة الخادم بمخدومه؛ فالصحافة العربية بمثابة سوق عكاظ محدودة المداخل

خادم ومخدوم 
وتلك الصحف هي التي فتحت أبوابها لبعض الأدباء المبدعين لا لينشروا فيها نتاجهم فحسب تحت مظلة الصحافة الأدبية؛ بل ليدخلوا إدارات التحرير ويتولوا مناصب قيادية فيها، فكان دخولهم بمثابة نفي للتناقض بين الصحافة والأدب، ورد اعتبار لمكانة الأديب في مجتمع الصحافة الحافل بأضواء الظهور والشهرة، التي غالباً ما تصل إلى حد النجومية.

فكم من أديب رفعت من قدره الصحافة، وكم من أديب أسهم في تطوير الصحافة وإثرائها فرفع من قدرها، وأعطى الصحيفة دفعة معنوية وإعلامية إلى الأمام، فكان عطاؤه انتصارا للأدب والأدباء، إذ لم يعد في هذه الحالة نصا شعريا أو قصصيا أو نقديا يدخل من نافدة نشر ضيقة، أو يضيع دوره في النشر بين إعلان تجاري ولقاء فني مع مطرب فارغ الصوت والمضمون.

نخلص من دون مبالغة في القول إلى أن علاقة الأدب بالصحافة في بلادنا ما زالت في معظم الأحيان وفي العديد من الصحف تمثل علاقة الخادم بمخدومه؛ فالصحافة العربية بمثابة سوق عكاظ محدودة المداخل.

وغالبا يحتاج دخولهم بإبداعاتهم الأدبية ضوءا أخضر أو تأشيرة دخول قد تنص على تحجيم الأديب وتحديد المساحة المسموح بها لقصيدته أو قصته القصيرة. وذلك يتم -في الأغلب- دون أدنى اعتبار للحركة الأدبية ومتطلبات تنشيطها وتطويرها وإثرائها، لتكون حركة تنويرية فاعلة في المجتمع العربي.

نتوقع من بعض الذين يحظون بمساحات نشر متواضعة لنتاجهم الأدبي أن يذهبوا إلى دحض ما نذهب إليه من رأي صريح في هذه المسألة، زاعمين بحسن نية أن وضع ما يسمى الصحافة الأدبية بخير وعلى ما يرام، ولا يحتاج لضجة احتجاج ما.

لا بد من فتح باب حوار دائم بين الأديب والصحفي على مائدة الحلم الثقافي المشترك بإحداث نقلة نوعيَّة تنصف الأدب وتحفظ للصحافة دورها الذي تضطلع به في عصر انفجار المعرفة وفيضان الإعلام

هموم أدبية
فهناك من يكتب وهناك من يعمل على النشر، والإرسال والاستقبال يسير بشكل طبيعي يبعث على التفاؤل والارتياح، ولا حاجة للتبرم والشكوى؛ فالخطوط الأدبية -في رأيهم- سالكة، ولو أنها في بعض الأحيان تكون سالكة بصعوبة بسبب زحمة المواد الأدبية المقدمة للمحرر الثقافي.

لا بد من التأكيد أن الرؤية بنصف العين، أو بعين واحدة على الأكثر، في طقس متقلب لا يخلو من منخفضات جوية لا تكفي إلا إلى إلقاء نظرةٍ سطحية على العلاقة الجدلية المأزومة بين الأدب والصحافة، ولا تمكننا من وضع اليد على حجم وطبيعة المشكلة التي يكتنفها الكثير من الفبركة والتلميع والادعاء باكتناز الحالة القائمة وزخمها الموهوم، وغير الظاهر للعيان عند أصحاب النظرة المتأنية الثاقبة.

في الحقيقة، هناك أكثر من همٍّ أدبي معلق على الصحافة العربية، ولا بد من طرح هذه الهموم ومعالجتها إذا أردنا بشكل جاد أن نصل إلى وضع تكافلي تكاملي بين الصحافة والأدب يقود إلى وضع حضاري متقدم يوفر لنا مكاناً لائقاً تحت الشمس.

لا يتسع المجال هنا لتعداد هذه الهموم الأدبية، ونكتفي بالإشارة إلى الهم الرئيسي الذي ينطوي على طموح بفتح باب حوار دائم بين الأديب والصحفي على مائدة الحلم الثقافي المشترك بإحداث نقلة نوعيَّة تنصف الأدب وتحفظ للصحافة دورها الذي تضطلع به في عصر انفجار المعرفة وفيضان الإعلام.

المصدر : الجزيرة