خواتم أنسي الحاج وهواجسه في "كان هذا سهوا"

غلاف كتاب "كان هذا سهوا" أنسي الحاج

هيثم حسين

تتسم كتابة الشاعر اللبناني أنسي الحاج (1937 – 2014) في عمله الذي صدر بعد رحيله بعامين "كان هذا سهوا" بالشذرية، أي على شكل شذرات أو إضاءات قصيرة مكثفة، يطلقها الكاتب حول عدة موضوعات ربما تحتاج إلى كثير من التفصيل والتدقيق، يدلي بدلوه المكثف المختزل فيها ويمضي إلى أخرى، وعلى القارئ اقتفاء أثره، أو اختطاط دربه في البحث عما وراءها أو ما بين أسطرها.

الحاج يعتبر أحد مؤسسي قصيدة النثر في العالم العربي، كانت مجموعته الأولى "لن" (1960) بمثابة بيان شعري، حيث عبر فيها الشاعر عن رؤيته وتجديده، وكان مفعما بالحماسة والثقة والثورة حينها، أما نصوصه في "كان هذا سهوا" فقد أتت هادئة، متحررة من هواجس الشكل، لا تبحث عن تجنيس أدبي أو تأطير لها، تنشغل بالفكرة والتجريد أكثر من انشغالها بالتحدي أو إثبات التجديد.

تختصر نصوص "كان هذا سهوا" الذي صدر مؤخرا ببيروت، اقتناعات الشاعر الذي يصرح بكرهه للأقنعة، وتعبر عن حكمة راكمتها الأيام والتجارب، ولا تخلو من نوع من الوصاية أو الأحكام المفترضة بصيغ أدبية. يحتوي الكتاب ستة فصول، هي: "ميتافيزيك ودين"، "ذات"، "سلوك"، "أدب"، "فن"، "حب" بالإضافة إلى قصيدة "غيوم".

تأتي نصوص "كان هذا سهو" كتتمة غير مبوبة أو معلنة لسلسلته "كلمات كلمات كلمات" التي كان قد نشرها سنة 1978، وكتابيه "خواتم" اللذين نشر جزأهما الأول عام 1991 والثاني عام 1997م

تأتي نصوصه كتتمة غير مبوبة أو معلنة لسلسلته "كلمات كلمات كلمات" التي كان قد نشرها سنة 1978، وكتابيه "خواتم" اللذين نشر جزأهما الأول عام 1991 والجزء الثاني عام 1997م. وتكون نصوصه تأملاته الأخيرة وخواتمه التي لم يوقع على نشرها، بل تركها لورثته كي يتصرفوا فيها ويعدوها للنشر، وهي تعبر عن "أسلوبه المتأخر"، بحسب تعبير الراحل إدوارد سعيد.

حالة ثالثة
في "ميتافيزيك ودين" يناقش الحاج جانبا مما يصفه بالإرهاب الفكري، وينوه إلى جانب إساءة الفهم في تناول بعض المصطلحات والمفاهيم وتداولها، من ذلك دعوة بعضهم إلى التحرر من زاوية ضيقة تستهدف الخصوم وتنأى بنفسها عن الذات، يقول في ذلك: "المزعج في ذلك الموقف الملتبس -وهو منتشر في العالم العربي كما هو شائع بين يهود العالم وحتى في أوساط بعض علمانييهم وملحديهم– هو دعوة التحرر التي يراد بها تحرير الخصم من تعصبه. فقط الخصم. وأما تعصب الذي يحررك فهو المزداد تحصنا وراء الأكمة".

في "ذات" يتحدث عن عدة أمور تنتاب الذات وتجتاحها، كتوصيفه أن الإقامة في الخوف تخلق حالة ثالثة تتكون ما وراء السادية والمازوشية، وفيها من الاستسلام ما فيها من التحدي، ومن الانتحار ما فيها من النحر. وفي تصوير لحالة العنف الأعمى التي تسود وتقود في فترات التعصب والكراهية، يقول: "فتح فيه العنف الأعمى عينيه كوحش يتبادل النهش مع نفسه، سدد طعنة تلويه ومزقه وتركه على سن روحه عصفورا مخلعا تنتفض أجزاؤه من عجز تلاقيها".

في توقف عند ما يدونه، يعترف الحاج اعترافا شاعريا تمكن مقاربته من جهتين، أخذه على محمل الجد، أو على محمل الشعر، وذلك حين يقول: "كان هذا سهوا. لم أكتب هذه الرسائل ولا تلك المقالات، ولم أكن إلا قليلا في الأيام حيث كنت. للمرء الحق في إنكار حياته إن هي لم تشبه مناه، وأن لا يعترف في عباب هذا البحر المترامي وراءه إلا بحبات من الملح وبضع نقاط من البخار".

يجد أنسي الحاج أن الرغبة في العالمية مشروعة، مشترطا أن يكون النتاج الأدبي عالميا في ذاته. وينوه إلى أن "هذا ما يقرره الهدوء، هدوء الأيام، وهدوء القراءة والنقد، وقبل ذلك طبعا هدوء التأليف بعيدا عن جوع الأمجاد" 

رغبة في العالمية
في "سلوك"، يحلل ويفكك بعض السلوكيات التي يمارسها المرء بوعي أو من دون وعي، كاختيار العزلة، أو تلك الحالة التي تتبلور كنوع من عزلة معاصرة نواتها وسائل التواصل الاجتماعي والاختراعات التكنولوجية، ويعتبر "الإنترنت حميمية كونية مبدأها "اعزل توحد".

كما يعتبر أن أبطال الحرية -خارج إطار الصراع على السلطة حيث لا معنى للبطولة ولا وجود للحرية- ليسوا أبطالا. يصفهم بأنهم "أصلاء، أي ضحايا، وكثيرون بينهم ماتوا ولم يشيعهم غير أفراد العائلة".

في فصل "أدب" يتمنى الكاتب أمنية لا يلتزم هو نفسه بها، وذلك حين يقول: "ليتنا ندع لغير الشعراء أن يتحدثوا عن الشعر، إذ يرتدي على ألسنتهم معاني الأقداس ويبقى لهم لغزا يستسلمون إليه برغبة. أما على ألسنة الشعراء فغالبا ما يرتدي الحديث عن الشعر طابع النرجسية الهستيرية أو التعصب الحزبي". ويعتقد أن في كتابة الشعر نوعا من أنواع التمثيل والتصنع لا يحتمل، بل يكره ويكره بالشعر. يقول: "لا أبرئ نفسي منه، ولعلي أعرفه أكثر من غيري".

ويجد كذلك أن الرغبة في العالمية مشروعة، مشترطا على أن يكون النتاج الأدبي عالميا في ذاته. وينوه إلى أن "هذا ما يقرره الهدوء، هدوء الأيام، وهدوء القراءة والنقد، وقبل ذلك طبعا هدوء التأليف بعيدا عن جوع الأمجاد".

في "فن" يقدم الحاج شذرات عن الفن والموسيقى والتمثيل وأدوارها في الحياة، يتحدث عن الرحابنة وفيروز وغيرهم، كما يتحدث عن التأثر والتأثير في هذه المجالات.

كذلك يلفت الحاج إلى أن الفلسفة تتخلل كل كتابة أدبية تعبر عن تجربة حية. ويستدرك بالإشارة إلى أن الفلسفة، فضلا عن كونها نظاما شاملا مفصلا، "تطرق موضوعها بمسافة عالم المختبر ومستوعبات فئرانه، بينما المحاولون في الخواطر الما بين الشعر والنثر لا ينعمون في الغالب بهذا النوع من المسافة، بل بمسافة من نوع آخر -في أحسن الحالات- هي المسافة بين طبقتين من الذات: ذات مغمضة وذات مفتحة تتفرس به".

المصدر : الجزيرة