"منتجع الساحرات".. كتابة الهامش وعنف المتخيل

غلاف منتجع الساحرات

كمال الرياحي-تونس

يمثل أمير تاج السر واحدا من الأصوات الروائية السودانية المهمة التي نحتت لنفسها مناخا خاصا اجترحته من ذاكرة الفظائع والفجائع السودانية من خلال "إيبولا 76″ و"صائد اليرقات" و"اشتهاء" و"مهر الصياح"، فنطق سرده مرة بلسان القمع ومرة بالأمعاء الجائعة ومرة بدمامل الأمراض وفيروساتها.

يواصل تاج السر في روايته الجديدة "منتجع الساحرات" الصادرة عن دار الساقي تلمّس عوالم المهمشين ليختار، في زمن اللجوء القسري، تقصي حيوات بعض اللاجئين الوافدين على السودان من البلدان المجاورة له.

في ساحة المزاد حيث عالم المحتالين والمجرمين وحيث يعرض كل شيء للبيع، مبيدات القمل والصراصير، ومدرات الخصوبة كالأطفال اللقطاء، والدراجات النارية المستعملة، وأسرة المرضى بالمستشفيات التي نهبها المرضى أنفسهم، والنظارات الطبية النادرة، والتماثيل الخشبية المهربة.

هناك حيث تعود الكائنات إلى بدائيتها وينهض العض بديلا عن الحوار والكلام، وحيث يتحرك عامل الصحة الملقب بالموت وهو الناهض من موته قبل دفنه، في أجواء قريبة من عوالم الكاتب الغواتيمالي ميغيل أنخل أستورياس (1899-1974) في روايته "الهاخاديتو رامة الشحاذ" وعوالم الكاتبة السينغالية أميناتا ساو فال (1941) في روايتها "إضراب الشحاذين"، هناك تماما، في فضاء الغضب والعنف الشعبي، ينيخ أمير تاج السر حكايته الجديدة ليكتب الحب في الزمن الفظيع.

فقبل أن تصل "أبابا تسافي" كان المكان هادئا عاديا، والأجواء رتيبة ومتجانسة، لكن وصول اللاجئة الإريترية الجميلة أربك هذا النظام الذي تأسس على القبيح والفظيع.

رواية أمير تاج السر تذكرنا بما قاله الفيلسوف والمبدع الفرنسي المنشق جورج باطاي إن الأدب إن تنازل عن الشر فلن يكون إلا أدبا باردا وبائسا وسطحيا.

عنف المتخيل
إن هذا الفضاء الضاج بالأسماء يقطع مع الرواية الكلاسيكية التي تستدعي البطولات الزائفة لأبطال وهميين أرهقت السرد العربي مع الواقعية الاشتراكية بانزياحات أسطورية تتعارض مع فن الرواية نفسه القائم على تعدد الأصوات.

وهذا ما يوفره فضاء منتجع الساحرات، ذلك الفضاء الهامشي الشعبي الطافح بالأجناس والجنسيات حيث تختلط العلاقات وسير الناس بسير الحيوان. لا تسمع فيه إلا النابي من الخطاب حيث تسن فيه الخناجر وكأنما الفضاء ساحة للصراع من أجل البقاء، صراع مع الجوع والمرض والشر والبشاعة في كل تجلياتها.

مناخ أسود يجعلنا أمام عنف للمتخيل يستمد هويته من واقع اللاجئين والقرى الحدودية النائية في السودان حيث يتكدس الغرباء بكل ما يحملون من بقايا هويات مكلومة تدفعهم إلى معركة أخيرة لا يترددون في أن يجعلوها دموية.

وكأن رواية أمير تاج السر تذكرنا بما قاله الفيلسوف والمبدع الفرنسي المنشق جورج باطاي إن الأدب إن تنازل عن الشر فلن يكون إلا أدبا باردا وبائسا وسطحيا.

لم تكن اللاجئة الإريترية الجميلة تتصور أن الشر الذي هربت منه (الحرب) سيكون أهون عليها من النزول بكل ذلك الجمال المهرب في "منتجع الساحرات"، المكان الملعون بالعنف البدائي الذكوري. لم تكن اللاجئة الرقيقة تتوقع أنها ستقيم ثورة في مملكة بائعات الشاي ليكون لشايها طعم آخر، شاي امرأة بلا عمر وبوجه لا حب شباب فيه لم تتعود عليه تلك الكائنات المتأهبة.

لا يمكن إلا أن ننزل هذا النص في راهنه العربي حيث أصبحت المرأة العربية في بعض بلدان ثورات الربيع العربي هاربة شريدة في الحدود وفي المخيمات من بطش الحروب.

رواية الراهن
يصور أمير تاج السر في "المنتجع" المرأة في زمن اللادولة، أو زمن الانفلات الوحشي في غياب القانون الذي عوضه قانون القوي، القوي الفرد وليست المؤسسة، قوي لم يستمد قوته ولا الحق في استعمالها من الشعب إنما هي قوة الفرد المستبد بالسلاح والعضلات.

في هذه الرواية يعكس تاج السر خط روايته "إيبولا 76". فخلافا لتلك الرواية التي تتحدث عن الطارئ الخطير بما يحمله من وباء هو المرض، يكتب في هذه الرواية الوافد الخطير بما يحمله من جمال وفتنة لهذا الواقع الفظيع من العنف والبشاعة ليلتقي الخطان في نهاية واحدة.

فالوباء كالجمال كلاهما يأتي بالجحيم. وينتظره الجحيم متمثلا في عالم عبد القيوم دليل جمعة، عبد القيوم اللص العريق الموثق بالصور الجانبية والأمامية في مخافر الشرطة والذي تعرفت عليه الكلاب البوليسية في الساحات العامة.

لا يمكن إلا أن ننزل هذا النص في راهنه العربي حيث أصبحت المرأة العربية في بعض بلدان ثورات الربيع العربي هاربة شريدة في الحدود وفي المخيمات من بطش الحروب وتجار الرقيق والإرهابيين، فإما هي جارية تباع في سوق النخاسة بالمزاد العلني، وإما هي ميتة من البرد أو الجوع، وإما مطاردة من ذئاب جائعة في ليل بهيم.

رواية "منتجع الساحرات" تتجاوز محليتها لتقول راهن المرأة في العالم الثالث غير المستقر والمرأة زمن الحرب حيث ينهض الجمال جريمة لا تغتفر.

المصدر : الجزيرة